فساد النخبة المثقفة قضية العصر
سميرة بيطام
إن مفهومَ النُّخْبة المثقفة مفهومٌ راقٍ وسامٍ؛ حيث تُعدُّ هذه الفئةُ العقلَ المفكِّرَ، والكيانَ المتَّزِنَ في البحث عن الحلول والمشاكل، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية في مجتمعاتها.
وفي نموذج الصحابة رضوان الله عليهم خيرُ مثال لهذا المفهوم في بداية طريق الدَّعوة، ونشرِ الرسالة الإلهية، وليس يختلف جنسُها عن آخر؛ إذ مثَّلت الفئةُ النِّسْويَّة نسبةً يَعترف لها التاريخ أنها أحدثَت تغييرًا، وعلى رأسهنَّ أمُّنا عائشة رضوان الله عليها، وكيف نقلَتْ مفهوم الرسالة بالشرح والسؤال من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتنقل ما تعلَّمتْه لأقرانها من النساء بالحجة والدليل المنقولَيْنِ من الكتاب والسنة الشريفة.
وعليه فإن ما تواترَتْ عليها المجتمَعاتُ من عملية التغيير في أحداث حرَكية ملاحَظةٍ وملموسة في طريقة التفكير والتعاطي مع المشكلات التي أفرزتها ظواهر الاحتكاك، والتفاعل مع مختلِف فئات المجتمع - جعَل من اللازم تقدير فئةِ النخبة واحترام آرائها ومقترحاتها؛ لأنها دائًما تنصَبُّ في بَوْتقة الإصلاح، ولنا في النموذج النبويِّ خيرُ مثال يُحتذَى به لو تم العمل به كما هو، ولكن المُلاحَظَ في هذا الزمن أن دور النخبة لم يَعُدْ بارزًا وواضحًا مثل ما كان عليه في السابق وقت ظهور المُصلحين في الدول العربية والإسلامية؛ أمثال الشيخ عبدالحميد بن باديس، والإبراهيمي، ومالك بن نبي في الجزائر، وأمثال الشيخ محمد الغزالي، وأحمد أمين في مصر، وعبدالرحمن الكواكبي في سوريا، وأبي الثناء الألوسي في بغداد، وغيرهم كُثرٌ زخرَت بهم الأمة العربية والإسلامية، وتركوا بَصماتهم في عملية الإصلاح، ولا زالت سيرُهم يتداولُها المفكِّرون والأدباء والسياسيون الذين يَنهلون من تجاربهم وحِكَمهم القيِّمة نبراسًا في خُطاهم.
ونعود مُجدَّدًا إلى مصطلح النخبة والصفوة؛ فهما كلمتان مترادفتان، تحملان في طِيَّاتهما معنى الاختيار والنقاء، وقد يُستخدم مصطلح النخبة للدَّلالة على لفظ الصفوة، وفي معنى الصفوة تلك القلة القليلة التي أقرَّ لها القرآن وصفًا مميَّزًا؛ نظرًا لما تتميَّزُ به من صفات الفَهم العالي، والمُدقِّقُ في تحليل الأمور وكذا الفهم والتذكر كعامِلَين يؤهلها لمعرفة أسرار الحياة، وما يَحيقُ بالبشر في الكون، فمثلاً الحديثُ عن الأنبياء باعتبارهم صفوةَ الخلق، وأن الله اصطفاهم لحكمة تبليغ أمره، كما أورد ذلك القرطبي في تفسيره: "هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله..."؛ بمعنى الفئة التي اختارها الله من بين عباده، ولم يكن تفضيلهم لأجل ميزة التمييز عن باقي البشر فقط، وإنما لأداء مهمة التكليف التي لا يَقدِرُ عليها عامَّةُ الناس، بل من تتوفر فيهم صفات الحنكة والقدرة على تحمل الصعاب والذكاء، وما كانت معاناة الأنبياء وابتلاءاتهم إلا تجريبًا لهم، وتمحيصًا لقدراتهم؛ ليكملوا مهمة التغيير في مجتمعاتهم، بدءًا بأُسرهم وأَهْلِيهم الذين أبرَزوا لهم المعارضة بسبب جهل هؤلاء لوجود الله، وأنه هو الخالق والمصوِّرُ لكل شيء، بدلاً من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبَدُ وقتَها.
أما في عصرنا الحديث فقد استُخدِمَتْ كلمةُ نخبة عند المحدِّثين أكثرَ مِن المفسرين والفقهاء، ولعل القواميسَ بادرت بشَرح الكلمة على نحو عام أنها: "مجموعةٌ من الناس في مجتمعٍ ما، تمتلك مكانةً خاصة بها، ذاتَ اعتبار وأهمية"، أما التعريف السلطوي لكلمة "نخبة" فهي تنحصِرُ في النظم السياسية الديمقراطية، المتمثلة في الأحزاب وقياداتها، وكذلك مجموعة القُوَى الاقتصادية والإدارية التي تؤدي عملاً يُوجِّهُ سلوك المجتمع نحو ما يَخدُمُ مصلحتَه بالدرجة الأولى وَفْقَ توجهاته وتصوراته، وما يُحقِّقُ رَغَباته القوميةَ والشخصية في آنٍ.
وإن ركَّزنا نظرنا وقراءاتنا فيما يَحدُثُ للمجتمعات العربية والإسلامية على السواء - فإننا نقرأ قراءةً خاطفة من حيث الفهمُ، حيث نلمح أمورًا دخيلة على هذه المجتمعات، وبالموازاة يكون دورُ النخبة بطيئًا لا يتناسب وسرعةَ إقحام تلك الأمور على عادات وتقاليد المجتمع، وعلى سبيل المثال: إضفاءُ تعديلات على قوانينَ لتنظيم المجتمعات؛ مثلُ تنظيمِ الأسرة، والمدرسة، والصحة، وهي لا تؤدي المصلحةَ الحقيقيَّة لعناصرِ المستفيدين مِن شرائح المجتمع، فتبدو النُّخبة متخوِّفةً أو متردِّدة للإدلاء بالرأي الأصحِّ والأَنْجع، والأنسَبِ لما يُوافق مُيولات أفرادِ المجتمع، وما ينطلق في الأساس من مرجعيَّة صحيحة، رسَم أبعادَها الدِّينُ والقانون، فكان لهذا التولِّي عن أداء الدور الحقيقي سببٌ مباشرٌ في تعطيل أداء عناصر النخبة، والواجب الأخذُ بعامل الوقت لتحليل الأحداث وفَهمِها الفَهمَ الصحيح، فعلى سبيل المثال: تعيين وزراء في حكومات عربية تنادي بضرورة التصريح بتداول الخمور في البلدان الإسلامية بشكل فيه من التسهيل؛ ما يجعل مبدأ مطابقة هذه الاقتراحات تأخذ وقتًا لإسقاطها على أحكام الشريعة الإسلامية والدستور الخاص بتلك الدولة، فمن المفروض أن يرتفع أداء دور النخبة للإدلاء بالآراء المُسبقة وأن تكون مُوحَّدة؛ حتى لا يُفكِّرَ السياسيون مجرد التفكير في مثل هذه المقترحات، وعلى الأخص وجود الدستور كمانع قوي في صرامته، لا يَقبل الجدال ولا النقاش في إدخال لغات غير رسمية لتحتلَّ الصدارة محلَّ اللغة الأم، وعليه فالنخبة مُطالَبةٌ في هذا الوقت أن تكون أكثرَ يَقَظة وحرصًا، وأكثر فعالية لمنع هذه الأطروحات التي من شأنها زعزعةُ الوحدة والمبادئ، والتي غايتُها تحطيم القِيم بطريقة تدريجيَّة، فمن المفروض أنَّ ما كان محرَّمًا باسم الشريعة الإسلامية وما كان ممنوعًا باسم القانون لا يَقبل أيَّ اقتراح يخالف المرجعيَّة؛ لأن أيَّ مخالفة هي تضليلٌ وانحراف، وهلاكٌ لقوام أي مجتمع عربي مسلم.
والمتابِع لزَمن القرون القريبة يَلحَظُ أن المُصلحين لم يتوقَّفوا عن عمليات التفسير والشرح لنصوص القرآن، وإنشاء المدارس ودور التعليم باللغة العربية الأم، ولم يتوقفوا عن ترك أحرفِهم تجولُ من مكان لآخر بسبب رحلاتهم وتنقُّلاتهم لنَهْل العلم الصحيح، وترك موسوعات الإصلاح مُدوَّنةً في الكتب والمناهج؛ ولهذا كانت فترتُهم فترةَ صحوةٍ ونُضج ووعي، على عكسِ هذا الزمن؛ أي: كان لِعامل تسارُع الوقت مأخذٌ آخر للأحداث، فلا نكاد نُصبِحُ ونمسي إلا ونستمع لمقترحات وتعديلات، وتأسيس تنظيمات لا تخدم الإسلام والمسلمين.
وعليه؛ كان لزامًا على النخبة في هذا الزمن أن تَزيدَ من سرعة مواكبتها للأحداث، وأن تتفاعل بشكل سريع ومُجْدٍ لسدِّ ثُغرات التغريب التي تَطول كلَّ مجتمع مسلم يعتزُّ بتعاليم دينه، ويمكن إرجاعُ الفساد الذي أصيبت به النخبة اليوم إلى سبَبَيْنِ أساسيين:
السبب الأول: هو ضعف القوة في كيانها وأقلامها؛ بسبب تخاذُلها عن المنحى، أين انطلقَت تُواكب التحولات السريعة، وتنحسر في داخلها دون أن تُحدِثَ حَدَثًا يُوافِقُ الجديد المُستحدَث، ويُوقِفُ زحفَه من بداية سَنِّ مشروعه.
والسبب الثاني - في رأيٍ - هو تخليها عن مسارها ودورها الحقيقي في عملية الإصلاح؛ حيث أصيب مَنشأ الصدق فيها، ومنبع التقوى من قلوبها بعامل التماطل والتراخي؛ فانطلقت تنتَقِد أمثالَها في محاولةٍ منها لمنافستها؛ حتى لا تتفوق في تفرُّدِها بامتياز الحِكمة والفَهم والنضج، والحقُّ أنه كان عليها أن تضع اليد في اليد، وتناقش المقترحات، وتحارب ظواهر التشتت والتَّفْرِقة.
إنها أسبابٌ واقعيَّة أدَّت إلى تراجُع دَور النخبة، الذي كان من المفروض أن يبدوَ في كل المجالات خاصة منها التعليميَّة والدينية؛ لأنها القِوام المتين للأجيال الناشئة، والمرتكَزُ الصحيح لذَوي العقول اللبيبة؛ فالفساد الذي أقصده على النخبة هو المماطلة في عدم الإسراع لتفعيل ردَّة الفعل إزاء كلِّ المُستجَدَّات التي تقع في داخل المجتمع وفي داخل تنظيماته وهَياكِله، ولو أنَّ لمصطلح الفساد أبعادًا متغلغلة إلى حيث يستقر الانحلال والتفسُّخ والإفلاس، سواء في المجال المادي أو العمَلي أو الأخلاقي، ويعتبر فسادُ النخبة مُعضِلةً كبيرة، ومُشكِلة عويصة؛ لأنها الفئة المُعوَّل عليها في المجتمع لإنقاذه من كل بقايا شَوائب الاستعمار، وبالأخص منه مُخلَّفاته، ومما يُسمَّى: الاستعمار الجديد، الذي يسعى إلى تحطيم الهوية، بدءًا من اللغة الأصيلة، وانتهاءً بالتشكيك في فكرة الانتماء.
وعليه؛ فإن النخبة اليوم مُطالَبةٌ بالحرص والحذر، والتفاعل السريع إزاء كلِّ التطورات التي تريد أن تَفرِضَ نفسَها على مجتمعاتنا، ولها في ذلك أن تُقيِّد نفسَها بعامل الوقت، وذريعة الانتظار لحينِ تتَّضح الصورة، خاصة أن المرجعية موجودة، وقد رسمت خطوطًا حمراءَ لكل ما من شأنه أن يُهدِّد أمن وسلامة الدول ومجتمعاتها، فلا يَحقُّ المماطَلة إزاء قضايا مصيريَّة؛ كالهُويَّة، والدين، والمبادئ؛ لأن الخطر كلَّ الخطر أن تَحدُثَ تعديلاتٌ باسم الرُّقيِّ والتطور، وهي في مضمونها تَحمل خرابًا وانحطاطًا، فلنكن حَريصين على أداء أمانة الحِفاظ على موروثنا الحضاري - حتى ولو تضرر من فرضيَّات التغيير التي يعرفها العالم اليوم - أين تحوَّلَت خارطة الطريق نحو التبديل ومُسايَرة التحولات الجديدة، إلا أن الواجب يبقى واجبًا؛ بل فرضًا علينا في الحفاظ على مقوماتنا وأساسيات انتمائنا، وأظنه ليس دورَ النخبة فقط، بل دور كلِّ فرد مسلم يعتز بانتمائه.