شذرات من ملحمة الجزائر
سميرة بيطام
محطات من تاريخ الجزائر ، هو العنوان الذي أعطاه المؤلف عبد الحميد زوزو لمجموعة مختارة من مقالاته و دراساته ، قرأتها بتركيز و هي تتنوع بين الكتابة باللغة العربية و الفرنسية ، اعطى فيها المؤلف نماذج عن المقاومة الجزائرية المتميزة ابان الاستعمار الغاشم و قبله ، فجاءت التواريخ فيها مكتظة بالأحداث و جلها موثق بشهادات حية لمن عايشوا الثورة و الأحداث او لمن رويت لهم من اجدادهم من شاركوا بالسلاح في ملحمتها و بإخلاص في حتمية الظفر بالنصر مهما كان الثمن غاليا فلا شيء يغلى امام غلو الجزائر الحبيبة ، و ما يوجد في متاحف الجزائر و على الأخص متحف المجاه و متحف الجيش الا أحداث مجسدة في مخلفات حقيقية لمن شاركوا في الثورة و يمكن لأي زائر لها أن يطلع بنفسه على تلك الشواهد القيمة ليستخلص مدى عظمة تلك الملحمة ،و في اروقة كلا المتحفين تمازج وثيق بين الجهاد الروحي و الجهاد العسكري ، لان امتزاج الدم بطلقات الرصاص هو التاريخ الشاهد على جسامة و عظم تلك التضحيات الجبارة و التي لم تشهد لها مثيل في تاريخ الجزائر لما بعد الاستقلال ، و حتى بالمقارنة بغيرها من الدول فلن تصل مقاومة الشعوب الأخرى لما سجله تاريخ الجزائر من احداث جبارة دونت و حفظت في الأرشيف بيانات تستقي منها الذاكرة في كل مناسبة بل في كل وقفة امجاد تلك البطولات و ان العين لتدمع امام تلك التضحيات و العقل يرحل الى حيث تلك الحقية الصعبة من الاصطدام بمستدمر أرادها جزائر فرنسية فلم يكن له ما يريد و هو لا يزال يحاول و يجدد المحاولات ليحقق هذا المكسب و لن يكون له بإذن الله ما دام للجزائر رجال واقفون حتى و ان لم يتكرر جيل نوفمبر فمن الاحفاد من يسري في دمهم عشق الجزائر محمل للمشعل.و ما اعجبني بالمناسبة في كتاب المؤلف هو حديثه عن الاسلام (1) حينما ذكر تطبيقه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عبد الحميد زوزو ، محطات في تاريخ الجزائر ،دراسات في الحركة الوطنية و الثورة التحريرية (على ضوء وثائق جديدة) ، طبعة خاصة بوزارة المجاهدين دار هومة ،الجزائر نص 18-19.
كان من الأمور المفروضة على السكان و الجنود على حد سواء ، ففي منشور صادر عن القيادة في الولاية الثالثة بتاريخ 29/11/1957 نقرأ " الصلاة واجبة على الجنسين ذكور و اناث بدأ من سن الخامسة عشر ، و أن صلاة الجمعة ينبغي ان تقام في كل القرى " و في منشور آخر و بنفس التاريخ تقريبا صادر عن ولاية الأوراس يذهب في نفس السياق حيث تؤكد تعليماته على ضرورة الأخذ بتعاليم الاسلام و اتباع ارشاداته من قبل كل المجندين ، و أية مخالفة في هذا الشأن من أي كان قد توصله الى المثول أمام المحكمة العسكرية.
لكم بعثت في نفسي هذه الصرامة و هذا الحرص على احترام و تطبيق شرعنا الحنيف ن و رحل فكري الى استخلاص عبرة قيمة و هي ان انتصار المجاهدين ابان الثورة التحريرية لم يحققه السلاح لوحده و فقط و انما ضمنه ذاك الحرص الأكيد على العيش بالإسلام و التعامل به و آداء ما هو مفروض بتأكيد مسايرة تطبيقه لعقوبات رادعة في حالة الاخلال بالنظام ، و هو ما جعل النصر يكون حليفا للمجاهدين و في أصعب الظروف و على كمائن من موت كان يترصد المجاهدين كل وقت من مسيرة الكفاح .
و هذا الامتثال للمبادئ الاسلامية كانت مثار تساؤلات ضباط الاستخبارات الفرنسية حيث ذكر المؤلف ان اقتران الدين الاسلامي بالعمل الثوري طرح أسئلة عديدة من بينها فيما ان كان هذا التقيد هو خاص بكل ولاية ام هو مبدأ اقرته لجنة التنسيق و التنفيذ ، و هو ما أشار اليه الكاتب في مؤلفه الى عدم أخذ الفرنسيين بالثابت و المتغير لدى المجتمعات الاسلامية و ما يميزها عن غيرها من خصائص ، و اعتقادهم بان اللائكية هي من مميزات الأمم الحديثة باعتبار تعدد الممل و النحل عندهم ، اما لدى الجزائريين فالإسلام واحد و هو عامل وحدة و الجزائريون مسلمون و كلهم سنيون ، و من هنا تأتي القراءة المتفرسة من ان الاسلام وظف كعامل للتعبئة و الاستقامة و الاخلاص و غيره من الفضائل ، و هذا ما يشرح الأخلاقيات الجديرة بالمجاهدين لمواجهة الاستدمار الفرنسي خاصة منها خلق الصبر و الاستعداد للتضحية تلبية لنداء الواجب الوطني ، للاستشهاد في سبيل الوطن الغالي.
و على ذكر نص المادة 17 من قانون العقوبات الداخلي في المنطقة الأولى بالولاية " يعاقب كل من يتهاون في الصلاة بالتوبيخ و الحراسة أولا ثم بالسجن لمدة ثمانية أيام " ، هذا بالنسبة للجنود ، اما بالنسبة للمدنيين " تطبق على كل من يمس بمبادئ الدين يحاكم حالا و تطبق عليه القوانين الاسلامية " بموجب المادة 25 من قانون العقوبات الداخلي الخاص بالمدنيين .
و يلاحظ أن الولايات التي يسيطر عليها العنصر الأمازيغي هي أكثرها استعمالا و توظيفا للغة العربية في المراسلات و الادارة. ما يجعلنا نشيد بالدور الطموح للغة العربية في تحرير المراسلات و بالآلات الراقنة البسيطة و من خلال قراءتي لبعض هذه الارساليات لاحظت كتابة صحيحة بترتيب لغوي دقيق فيه الاختصار و يحدوه التلميح و التحفظ في آن في قضايا المبحوث عنهم من طرف عملاء فرنسا ، و الذين وشمت على جباههم مهمة الخيانة و تسريب الأسرار و التبليغ عن مواقع المجاهدين الأباسل.
حقيقة ، كثيرة هي الأحداث و كثيرة جدا الوثائق التي تكشف عما يدور في ذاكرة الجزائريين الذين عايشوا الأحداث الجهادية ضد المستدمر الفرنسي و كثيرة أيضا تلك الوثائق الموضحة لطريقة تسيير الثورة بعد التخطيط الجيد و المحكم لها ،و ما فكرة مؤتمر الصومام الا بصمة عظيمة لأشهر البصمات الجزائرية التي لمت الشمل ووحدت الصف على اختلاف الأطياف و اللون السياسي بتنوع المفاهيم الايديولوجية و صبها في جبهة واحدة.
و أحسن ما في الفكرة أيضا انها وحدت المفاهيم الادارية و حددت المهمات السياسية و العسكرية و ضبطت المسؤوليات و رسمت اطارا عاما للمبادئ التنظيمية و القوانين العسكرية و ما الى ذلك من القضايا التي كانت تهدف الى منح سلطة مركزية للثورة التحريرية ممثلة في لجنة التنسيق و التنفيذ (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)عبد الحميد زوزو ، المرجع السابق ، ص 21.
و في أثناء شرود ذكري بالتحليل و محاول هضم جسامة الأحداث و صدق النوايا في وقتها آنذاك ، حاولت احداث اسقاط على طريقة تعاطي المجاهدين لإخراج الاستدمار الفرنسي من ارض الجزائر و كيفية تعاطي الشعوب العربية مع ثورات الربيع العربي ، فماذا لو اقترن التنظيم لإعلان انتفاضة الشعوب بمبادئ الاسلام المعتدلة و الموزونة المعايير والأهداف ليتحقق الطموح الشرعي لشعوب مغلوب عليها ، من غير ان يحدث ما يسمى الاسلام فوبيا و لو أنها تسمية متعمدة لتشويه صورة الاسلام و هو بريء من ذلك التطاول و بالتالي هو مفهوم غير صحيح لما يشاع عن الاسلام اليوم في المجتمع الغربي و مدى تخوفه من الاسلام كقوة معتدلة ذات تأثير قوي و تنظيمي في الفكر و القناعة و ليس ارهابا كما يشاع لتتبع مدى انتشاره و توسعه عبر العالم الذي يشهد في الآونة الخيرة اقبالا كبيرا لاعتناقه .
صحيح قد لا يتشابه الموقفين معا لخصوصية كل ظرف و كل حدث بين محاربة شعب ضد مستعمر اجنبي اراد اغتصاب الأرض بالقوة و مسخ الشعب رمن هويته و تجريده من انتمائه الحقيقي و بين ثورات الشعوب المنتفضة للمطالبة بحقها في العيش بكرامة بعد طول انتضار لما سيقدمه الحاكم من عمليات اصلاحية ضد الفساد و هضم حقوق الانسان .
و لكن من منطلق الدفاع عن النفس كلا الموقفين او الحدثين كانت لهما مرجعية واحدة و من منطلق الدفاع عن النفس و المال و صون الحقوق ،أكيد سينطلق مما يحفظه الاسلام و ينص عليه من مبادئ و خطوط حمراء لا يمكن تخطيها تحت أي ذريعة تضر اكثر مما تخدم ، و من ينادي بتحقيق العدالة و الحرية أكيد سيتبنى مشروعا منطلقه مبدأ اسلامي ، و لا شأن لأفكار أجنبية أن تقحم نفسها في مشروع التغيير الا ما كان منه بمثابة الفرصة الثمينة لاستغلال الثروة و المصلحة المنفعية و هو ما كان واردا في المخطط الأمريكي بغية تقسيم الشرق الأوسط و محاولة الظفر بأكبر قطعة من الكعكة العربية بعد تقسيمها الى دويلات او مسحها من الخريطة الوجودية لها مثل ما يحدث في العراق و سوريا.
كانت ومضة من أحداث مؤرخة قادتني الى طرح تساؤل ربما فيه الكثير من الصواب و ربما فيه الكثير من الخطأ ، و لكن الأصح من كل ذلك هو ان ثورات الجزائر تمثل موسوعة من التجارب و الحكم تشرح وعيا ناضجا و تخطيطا متزنا و كفاحا مستمرا و صمودا متينا امام واجب التضحية لحين طرد المستعمر من الجزائر ، و حدث ذلك فعلا ، و لو أن أطماع المستعمر لا تزال قائمة و بخطط مغايرة كخطة الاستعمار الجديد التي تسعى لتغيير الهوية من خلال محاول بعث مشروع اللغة البديلة عن اللغة الأم و لو بتدرج في التخطيط ، لكنها الأطماع من تسعى دائما للظفر و لو بالقليل .
المجد و الخلود لشهدائنا الأبرار