كلام جميل..
أتذكر من وقت لآخر مقولة "وليام فولكنار" حينما قال: "الماضي لن يدفن إلى الأبد، وهو لم يمض بعد"؛ لأستحضر معاني جوهرية لهذه المقولة في أنَّ ختام الأمور لا تنزوي تحت مظلة الحفظ في الأرشيف دونما مراجعة حسابات قديمة، أيقظت مواجعَ كثيرة، وسكبت حبرًا على بياض ورق مسجى بتساؤلات عديدة، عن مصير الدول العربية وهي تنعرج نحو منحنى الاضطراب، ثم ما دواعي كل هذه الفوضى التي تزداد عامًا بعد عام؟ فهل من بوصلة ليست تعرف لها استقرارًا؛ لتحاكي ربان السفن أنَّ الأمن والسلام لم يتحققا بعد، وأنَّ أجندة المحاورة الفعَّالة لم تستنتج بعد لها آلية صريحة ومتينة ترجع للشعوب حقوقها، وتكسب الدول حيلة الكرامة بحرية لا حدود لها عبر الحدود الجغرافية المتاخمة للنسب والهوية والانتماء؟ فالعرب يعرب منذ أقدم العهود، فلمَ هذه الفرقة المذبذبة للعودة على وتر الموج الصاعد للعلا؟
فإذا كان عمر الجنس الآدمي محدودًا، فإن عمر الانتماء ليس له ضوابط ولا نقاط انتهاء؛ لأنَّه يبتدئ من حيث بدأت تشكيلة الدول والأمة كلها لتمتد الجسور عبر لغة موحدة، وثوابت هادفة، ومبادئ راسخة، وطموحات موزونة تليق بشرف الأمة الإسلامية.
وبعيدًا عن أيِّ غموضٍ مفتعل، فإنَّ الصرح الثقافي ممتد من داخل الأقطار الإسلامية إلى الأقليات المسلمة التي تعيش داخل البلاد الأجنبية؛ لإشعارها أنَّها وإن كانت في قلة عددها إلا أنَّها تحمل اسمًا ينتسب للواء الأمة الإسلامية؛ ولذلك يجب أنْ يُبذل جهد جهيد إزاء هذه الأقليات؛ لإضفاء التوحُّد بأبعاد الكثرة العددية، وبالتالي يبدو التميز الثقافي في رغبة لمعايشة الأنماط المختلفة بين الأكثرية المسلمة، وتصبح بذلك القاعدة العامة استثناءً، مما يجعل المسعى الجاد إلى التوحيد الثقافي واللغوي مبدأً لا نقاش فيه؛ لأنَّه السبيل الوحيد لِلَمِّ الشملِ، وتوحيد الأفكار، وتوجيه الطموحات لما يفيد الأمة في نهضتها وفي بناء حضارتها ولو بامتداد السنين، فليس الهدف بنهاية المشروع على نهاية الأيام المرخصة له؛ وإنَّما بتوثيق عرى التآلف والتوافق بين أصناف البشر المشتركة في المصير والتوجه، أرى مستقبل الدول العربية عبر هذا المخاض العسير فيه الكثير من الآلام والفوضى، ولكن سيشرق منها مستقبلٌ واعدٌ؛ لأن نتاج المعاناة والتحمل بصبر مألوف يعطي للقضية الأم بعدًا متألقًا في أنَّها ستظفر بالنصر والفرج والاستقلال في وقتٍ من الأوقات، ليس يعلم حينه ولكنه أكيد في التحقيق؛ لأنها قاعدة معترف بثبوتها من تاريخ دَوَّنَ في سجلاته محافلَ ومناسبات عديدة لحروب ومعارك طاحنة، لكنها انتهت وتوجت مناضليها بما كان منتظرًا من الكفاح.
هو التاريخ يعيد نفسه على وتيرة الصراع والمشاق، ولكن على نسقٍ مغايرٍ تضبطه عولمة سريعة تجري الأحداث بسرعة مكشوفة المسافة، فأصبح لزامًا على شعوب الدول العربية أن تخوض هذه الصراعات؛ حتى يأتي جيل جديد، يبني دولة جديدة، يسودها نظام جديد، بغير ما كان مألوفًا وما كان سائدًا، في وتيرة أخرى ليست ترسم لها المنهج حتى يتحقق النصر، طبعًا بعد أن تضع الحرب أوزارها، فتظهر كل القوى على أحقيتها في الظفر بمرتبة التفوق، فالحرب خدعة، وللعرب مدارج في الترتيب الأولي لرسم الحضارة في كل مجالاتها من طب وهندسة وفلك وفيزياء وصيدلة، وأدب ونثر وشعر وغيره، فلا بد للصرح أن يقام من جديد.
وما دام التاريخ سيعيد نفسه، فلنترك آثار العودة إلى المنبع الأصيل بطلاقة الإرادة والهدف؛ لتسترجع الدول سيادتها على مراد المخططين للنصر المبدع والموثوق فيه.