مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/05/30 19:14
قف وسلم على أهل البركة

قف وسلم على أهل البركة

 

أليس مِن الأدب أن نخصَّ شيوخًا أو عجائزَ ببعض الاهتمام والاحترام اللائقين بهذه الفئة التي كبر فيها عذاب السنين ووحدانية الشعور بفراغ رهيب في حياتهم، على الرغم مِن أن شمل الأولاد والأحفاد محيط بهم؟ ولكن في نظرتهم المُنكسِرة بانطباق الجفْن الثقيل على العَين معنى واضح؛ أن التعب نال منهم وأنهم يَركنون للسكون تحت ظلٍّ ظليل يَمنحهم استرجاع الذكريات وفقط، أما التفكير في الغد فهو متروك لأهله؛ لأنهم يترقَّبون ساعة الفراق في أية لحظة.

 

لا أعرف لماذا أحب هذه الفئة حبًّا مميَّزًا، ربما ملامح كل عجوز تُذكِّرني بجدتي - رحمة الله عليها!

إنها فئة لا يُستهان بها، والكثير الكثير مَن يجهل قيمة وزاد هذا الكيان الآدمي الهرم المُبدِع بالحِكَم والتجربة الفذَّة، ولكن يوجد من تفطَّن لهم وأخذَ منهم العبرة والرصيد الحياتي الكافي لمواجهة مشاق الحياة.

 

أتابع عن كثب مشية الشيخ أو العجوز، وأول ما يتبادر إلى ذهني أني يومًا ما سأُصبِح هكذا، ترى هل سأقدر على الكفاح ومقاومة صقيع الضعف؟ وهل سأترك علمًا يُنتفَع به أو بصمة واضحة المعالم من بصماتي لمن سيبحثون لهم عن أدلة في منطلق هذه الحياة المُتناقضة الأجواء، ما دام العمر يداهم شبابي وأنا لا أدري؟! ولربما من شدة ما دريت تساءلت ولا زلت أتساءل عن ذوق هذه المحطة من العمر، وثاني ما يتبادر إلى ذهني أن الإنسان مهما عاش من أيام واجتاز من محطات هو آيل للكِبر وللهرم لا محالة، فهلا أتقنا فن استغلال العمر فيما يفيد!

 

أسئلة كثيرة تتبادر إلى ذهني في يقَظةٍ مني، ولو أني أفضّل التحفُّظ على أن أناقش أحدًا فيها؛ لأن لكلٍّ منا رأيَه وانطباعه ونظرته، ولربما يوجد مَن لا يريد أن يخصَّ نفسَه بالاهتمام؛ لأنه بحسب فكره الصغير يدوم لوقت طويل، والهرم لا يزال بعيد الوصول.

 

مِن تجربتي فيمَن عاشرتهم لفترة من مسيرتي، ممَّن ينحدرون من سلالة الكبار في السن شيوخًا وعجائز أحتفظ معهم بذكريات جميلة كانت كلها تدور حول قصص التاريخ وبطولات الماضي، من حكايات لأناس شيَّدوا وكافَحوا وناضَلوا بأي وسيلة كانت لدَيهم هي في نظرهم تفي بالغرض، فالحديث كان متنوعًا، والمصدر ذاكِرة واحدة لكن في لقطات مُتباينة لوصف المشهد والبطولة والجد والصرامة، أنا اليوم في افتقار لهذه المجالس برحيل من انحدروا سلسلةً مرتبة الأعمار بفوارق اليوم أو الليلة، وإني لأحنُّ للقطَةٍ من هذا الماضي الذي صقل ذاكرتي بذاك التهافت مني لطرح أسئلة عديدة وفضول لم يُلجِمه إلحاحي سوى سرد بالتفاصيل لما أريد حتى أصبحتُ أختار من أجالس، والسن آنذاك صغيرة، ولم أبلغ بعد نضج العقل بتدابير الإرادة في أن ألزَمَ القلم والكتب مثل ما أنا عليه الآن، ولكن المفارقة واضحة وضوح الشمس، وهي أن ما يُحكى لك من مصدرٍ عاش الأسطورة ويتمتَّع بتذكُّر قويٍّ لهو خير ما تجود به أقلامنا اليوم؛ لأن فئة الشيوخ هذه عاشرت مراحل، واحتكَّت بضروب شتى من ألوان الحياة والشخصيات التي لا يزال التاريخ يتكلم عنها، وما نحن سوى باحثين أو إن صحَّ التعبير طلبة نَنتهِل مما تركته مساعي مؤلفي مَن لازموا هذه الفئة وأخذوا منها الوقائع والتواريخ، صدقًا هم موسوعة لا يُستهان بها، ومن حولهم تلتفُّ بركة لا يُمكن تحصيلها إلا لمن بلغ هذه السن وكله تقوى وخوف وطمأنينة بالله، وعليه قد يضجَر من هم صغار السن اليوم في مجالسة هؤلاء؛ لأنهم بحسب مُناهم لا وقت لديهم، أو أن الحديث مع هذه الفئة لا يرقى لتطلعات شباب استنفذت العولمة منه كل ما يملك من طاقة وتوجه وتخمين، لستُ أجد مانعًا اللحظة لو قابلْنا العولمة بعقول الأمجاد من شيوخ ماضينا فيمَن سيصنَع الحضارة والتاريخ والمستقبل جملةً واحدةً، نعم حريٌّ جدًّا أن نُثني على فئة العصا والسبحة والعيون البطيئة في الرمش، بل الأحرى من كل هذا أن نقف حين يمرُّ علينا شيخ أو عجوز ونُلقي التحية عليه، وإن كنا ركوبًا أن نترك لهم مكاننا؛ فالكبر أثقل كاهلهم في أن يمتدَّ عُودهم بعد طول سنين من المكابَدة مع الحياة، فهلا أحسنَّا احترامهم وتبجيلهم والشُّكرَ لهم، وكذا طلب النُّصح والحكمة منهم في أي موضوع شغَل بالَنا أو قضية نسجَت خيوطها من عقد، حتمًا سنجد الإجابة الوافية والنصيحة الثمينة ممن كانوا هم التجربة بأن خاضوها وتعلَّموا دروسًا منها؛ لذلك أنصح كل فتاة أو فتًى إن كان لك جدٌّ أو جدة أن تُصاحبه وستتعلَّم منه الكثير، بل ستَحتفِظ في ذاكرتك بمعلومات تجدها أمامك في مُقتبَل عمرك فلا تُضيِّع الفرصة وتعلَّم واسأل ما داموا على قيد الحياة قبل رحيلهم، ساعتها لن تجد مَن يُسدي لك النصيحة ومِن عمق الحقيقة، إذًا قِف وسلِّم على أهل البرَكة ولا تستهِن بسنِّهم فأنتَ أيضًا آيل إلى نفْس الوضع بعد سنوات لستَ تحصي تعدادها أو فحواها.... دمتَ خلوقًا.




أضافة تعليق