مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/05/29 18:34
و اكتمل نصاب اليقين

واكتمل نصاب اليقين

 

جاب الغدر ساحات عديدة من أرضي، وانتصب القلب ينتفض حبًّا لربي، وجال الخاطر متحرِّرًا في سمائي، فقلت: كم كان عمر المرض في روحي؟ فتناول الأمل نيابة عنِّي مقولة الجواب، وارتحل الطير إلى حيث القرار، وانسكب كوب مشربي حيث الفَيض الكثير من السخاء، فأخَّرت ميعاد البَوحِ؛ لأن على لساني ترديدات عديدة أن لكل مقالٍ مقامًا.

 

اقترب الغروب من سكني فسألت نفسي: كم كان حظ الاغتيال لذوي القلوب المريضة في سجن النجاح بعيدًا عن التحقُّق؟ وكم كان سلاح الموت طلقة في ترداد الزحام؟ صمت أمامي الهدوء، والتفَّ من حولي شعاع كثيف، وارتقبني زُوار عديدون في الفضول، فقلت في نفسي: أوَبعد ركام العذاب يحلُّ على مسمعي صوت الزحام؟! أين كنتم يا أهل التطفل حينما كتبتُ أوجاعي في زخم المعاناة؟ فالتفَّ من حولي رحب آخر من نسمات التحرُّر تدعوني في رجاء: أن كفِّي عنك آهات العتاب، فاليوم حدث آخر ومفهوم متنوِّع للتفوق، فارتسمت صفائح جديدة من بريق النجاة، شعاع يكسر زجاج نافذتي في حنية لطيفة، إنه النبض الجديد حينما يَخفق بقوة أن مرادَ الله هو الحق، والله على كل شيء قدير.

 

تخيلت أني في سجن التردُّد لا أطيق إقبالاً على الحياة إلا وأنا أَنطلِق من جديد بخطوات ثقال، ولكنها بداية "الألْف ميل"، انطلقتُ من جديد فذاب الجليد، وانصهر الحديد، وغاب الخوف، وارتقبتُ إطلالة الربيع القريب، فكان لي بادرة الابتِسامة الأولى، ابتسامة النجاة من الكثير من فترات التأرجُح بين أن أكون أو لا أكون، كان امتداد القلم هو مَن ينوب عن ضعفي فيكتب ما طاب من ثمرة الخلاص أن الحمد لله بدءًا وأخيرًا، وطول العمر المتبقي من الحياة هو في سبيل الله مرسوم الخطى والأبعاد.

 

فبعد أن لاحت لي أشعة الشمس الدافئة ظهرت بوادر من الطبيعة ما يبعث على الاطمئنان والثقة والراحة، فناشدت بنظرتي البريئة إن كان في الغد أفضل استقرارًا وأحلى إقبالاً على الحياة من أمس تلون فيه الضباب مع غبار الخيانة الذي زاده احتقانًا ونغصًا.

 

صارعتني يا فشل وقاومتُ في كل بوادر الإرادة، فاستسلمت لك ليس لأني انتهيت وإنما لأني أريد أن أركن لقليل من الراحة، فما كان للبشر إلا متنفسًا من الانزِواء بعيدًا عن رحيق الحياة، يهنأ فيها بلقطة سريعة من الإغفاء، صحيح لسنا نَستنشِق منه ذبذبات العيش السعيد، لكن القلب باقٍ في نبضه، وأيُّ نبض في تلك الحال، إنه نبض التسبيح فلم يكن لي لازمًا أن أسبِّح بإبهامي، بل تألَّق النبضُ تلقائيًّا يردِّد الحمد والشكر بانتظام؛ لأن كل الجسد في ارتياح بعد هدوء عاصفة الغدر، صدقًا ما حيرني في تلك المحن أن هناك من البشر مَن لم يعِ بعدُ أن كل شيء بميعاد، فالأجل إن حضر لا يَستقدمه الناس ولا يؤخرونه، فنفس الشيء بالنسبة للأرزاق في كل شيء.

 

في فاصلة من التنهُّد الطويل لستُ أسمح لدمعي أن ينهمر، أريد أن أُصلي صلاتي في وقتها، ونوافلي في وقتِها، وأرتل القرآن وردًا في وقته، لا أريد لذكريات الماضي أن تعود وتُفاتحني في ملامات كثيرة، الوقت الآن هو فرصة الثبات ومن نوع آخر: إنه الثبات على الحفاظ على ما تبقى من آمال الحاضر، لا تأخير بعد اليوم ولا تأجيل بعد الغد، فالخير يَنطلِق حيث يوجد الخيّرون في العطاء، بعد أن تُكسر كل القيود الهشة، وتُهدم جدران الخداع المنتصبة على أعمدة من هوان، ما أجمل أن يشعر الواحد منا بسعادة لا توصف، لها وصف آخر من الشعور، إنها سعادة تلوِّنها الإرادة واليقين، والهناء الحقيقي في دنيا الهوان، والإحساس بمعية الله في كل الظروف، في الضراء خاصة، أما السراء فتلك أبواب الخير انفتحَت على مصراعيها لأهل التقى، ولكل شيء له نَقيضه من الحلِّ والعلاج والتيسير.

 

فإن امتزج الدم بسم قاتل فإن الأكل الحلال يُطهِّره، وإن أصاب العقل خلل في التركيز فالاستماع للقرآن يسهِّل استقبال موجات الحياة ويُنمي حاسة الذكاء والإدراك، وإن فترت الأيادي عن الكتابة أو تحصيل الرزق فإن الاستغفار يحل كل مشكلة ليست تُفكُّ عقدها بالأيادي، وإن كانت الأرجل قيِّدت بسلاسل التعطيل لكيلا يَصل المرء إلى محطة النجاح فإن الدعاء يَنطلِق إلى ما حدَّ له من مجال السماء، فيستجيب الرحمن لكل مريض ولكل مَن كادَ به الكائدون، فالله - عز وجل - يقول: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].

 

وعليه يجهل الجاهلون وأصحاب القلوب المريضة أن التقوى هي مفتاح الفرج، وأن المرء يُرزق ويُجازى بحسب نيته، فهاتان الآيتان كافيتان مستوفيتان لكل من كانت له حاجة أو ضائقة، الله رحيم عادل، غفور مجيب لنا في دعائنا، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]، نعم؛ ربي لن ينسى كل من سقطت دموعه في جوف الليالي والكل مبتعد عن فهم أسباب نزولها، أو فتح أبواب الحوار لمؤازرته في ضيقه، ربي لا ينسى أن الحائر سجَد وشكا له مرات ومرات ومرات، ربي لا ينسى حين تفرق الشمل عن المسكين وأوصدت في وجهه أبواب كثيرة فكان باب رحمته مفتوحًا له دائمًا، ربي لا ينسى من ظُلم وتنكَّر له الجاحدون في مناسبات عديدة وكأنهم لا يعرفونه، ربي لا ينسى من حزن لفراق الأحبة ممن أبدوا قربًا في البداية لكنهم لم يرأفوا بضعفه وقلة حيلته، ربي لا ينسى من نقص ماله وقل جهده وانكسر خاطره حينما طلب تفهمًا من أقربائه ولم يمدَّ يده طلبًا للمال، والسبب أنه يريد حفظًا لماء وجهه، ربي لا ينسى مَن هاجر حفاظًا على دينه، وابتعادًا عن فتنة تُضيعه في بحر دائم الهيجان بسبب الأكاذيب، ربي لا ينسى من كتم أنفاسه تحت الظلام عمدًا ليتذكر ظلمة القبر ووحشته، ربي لا ينسى من مشى تحت المطر في كفاح لطلب العلم ولم يجد يسرًا في تنقُّله، لكنه اطمأن بتسبيح الحيتان له، ربي لا ينسى من اكتفى بالحاضر من مؤونته فعطف على غيره ممن هم أكثر منه عجزًا وحرمانًا فقاسمهم طعامه، ربي لا ينسى من لجم لسانه عن الرد بالمثل حينما سمع أقوالاً عديدة كانت سهامًا له من وراء ظهره فخدَشت مشاعره وتركَت بصمات الغدر في قلبه النزيف من جراح لم تندمل بعد.

 

و الأكيد الأكيد أن ربي لا ينسى أن الطريق إليه شاق، وطريق الحق من أصعب الطرق، لذلك قال - عز وجل -: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

 

وددتُ في الختام أن أكمل كلامي بهذه التراتيب التي تكتب قناعتها لنَصمت في رضًا منا أن بعد العسر يُسرًا، وأن نور الصباح يعقب ظلام الليل، ونزول الغيث يعقب إقفار الأرض، وبواعث النصر تنطلق من بعد أن تتفطَّر كوابدُنا حزنًا على من سرق مشاعرَنا الصادقة، وحاول اغتيال الحق فينا، ونظرات الفرح ترسل بعد تأملات اليأس فرارًا من صيادي الجَمال لصفاء قلوبنا، والطعام اللذيذ يُحضَّر على نارٍ هادئة، وبذلك يكتمل نصاب اليقين باكتمال نصاب الصبر والاحتساب والتوكل على الله، والدعاء الصادق، والصدقة الخفية، والسعي وراء أسباب الشفاء، والعفو عند المقدرة، ومقابلة السيئة الحسنة تَمحُها، وتجاوز الزلات، وإعانة المريض والمحتاج، وقضاء الحاجات، وعيادة المريض، واحترام الجار، والصبر على أذاه... كلها كانت صفات تَحلى بها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

 

ربي، ما أعظمك؛ فلولا فضلك لما اهتدينا لهذا اليقين!

 



أضافة تعليق