قم ولب نداء الحق
لو كنتَ أَبكمَ لأعفيتُك من مهمَّة الجواب.. ولو كنتَ أصمَّ لأعفيتُك من مهمَّة الشهادة في قضية من قضايا العدل.. لكني لستُ أعفيك بما أنَّ لك بصيرة متوقدة تميِّز بين الحقِّ والباطل.. صمتُك الطويل يُزعج قلمي، ويجعل الحرفَ في ارتداد للوصول إلى قمَّة نسيج الكلام.. عفوًا، منذ متى لم تتكلَّم وتنصر قضيَّة من قضايا الحق؟! هل كان تولِّيك عن قول الحقِّ جُبنًا أم خوفًا؟ أم من عدمٍ هو أصلٌ كامن فيه؟ سلني أنا الأخرى لمَ أثرت موضوعًا كهذا؟ سأجيبك: لأنِّي أملك قليلاً فقط من الشجاعة في زمنٍ تولَّى فيه الأبطال عن قول الحقِّ، وطفَت ملامح الرَّداءة على كلِّ شيء حتى في الابتسامة فأصبحَت ساخرة أكثر منها مطمئنة.. وبما أنَّ هذه الابتسامة ماكرة، فلستُ أستلطِف نبراتها على الإطلاق، نعم سلني ما شئتَ وكيفما شئتَ؛ لأنِّي سأجيب جوابًا واحدًا، وهو: عفا الله عمَّا سلف.
مزَّقتَ يا عجب كلَّ محاوري للكلام، وشردت أفكاري من كلِّ قوة للزحام، لست أعاتب أو أنتقد بقدر ما أريد تدميرَ قوى الظلام، فهل بالقلم نُسكت صوتَ الجبن ونصرِّح للحق أن يَصدح؟ هل بتقدُّم زحف الإرادة نحو المنى ببعده الحقيقي يصنع التغيير الفعلي، بدءًا من ذرَّات التراب الذي نَمشي عليه، ووصولاً إلى أعناق الحَمقى الذين عاثوا في الأرض فسادًا؟
نريد أن نعيش بسلام وحرِّية، وهو مطلب شرعي ومفرغ من إثارة الجدال فيه، نريد كما تربَّع عرشُ الظلم طويلاً على كراسي القهر بالمثل أن يتربَّع الشَّعب القوي في كلمته، والضعيف في لقمَة العيش أن ينتصر لنفسه وبنفسِه.. هو كلام وأمل وبرنامج وارد في التغيير.. فلن تخذلوه ولن تقدروا يا من تعوَّدتم على الزيف والسَّراب في تغليط الناس.
تعبنا ومللنا من الوعود والشِّعر الملحون ولو أننا لسنا من دُعاة الشعر الطروب.. نحن من طينة الحقِّ، ولأجل الحق قاومنا وصمدنا وبدَّلنا العيشَ الرغيد بالعيش المتعب على أن نلقى الرَّاحة عند يوم الحساب حينما نؤدِّي ما علينا من أمانة ونصدِّق كلَّ ما قيل عن أجدادنا من كفاح صادق.. إنها أمانةُ صيانة الحقِّ وقوله وتثبيته على الورق بالقلم، وعلى الجدران بالحرف، وفي العقول بالإقناع، وفي القلوب بالحبِّ والإخلاص.. نعم مللنا من صور الكذب والتلفيق المخادِع لمظاهر التزيين لما ظهر في جعب المعذَّبين والمتعبين، كان كلامًا كثيرًا وحقائق دسَّتها لهم مخاوف من ألا يظفروا بشيء وسط الفوضى العارِمة ونيل الناس الدنيئة لأسمى درجات الرفعة المزيفة.. لكن قريبًا تهوي بكم مدارِج الهوان، إن كان حلمكم تمتعتم بالتخطيط له فلن يتحقَّق، وإن كانت وعودًا حكيتم عنها طويلاً فستخلف.. لكم الآن أن تولُّوا للوراء من غير تفضُّل منَّا قبل أن ينكشف أمر كَذبكم بالتوثيق الأكيد على أوراق قضايانا المتعدِّدة، التي اصطفَّت تنتظر لها متصفِّحًا أو محقِّقًا في العدالة، يا من لوَّثتم هواءنا بعد أن كان نقيًّا بأنفاسكم الخبيثة، وسكبتم الحنظل على مشاربنا بعد أن كانت نقيَّة صافية الطعم والمشرب، تعبنا الآن وانكشف أمرُكم بل أمور كثيرة تغطَّت لها بأغلفة بالية، كشفتها معنا الرِّياح ولم ترحم فيكم لا قولاً ولا فعلاً.. سواء ارتدَيتم مآزِر للتطبيب، أو بذلات للاستقبالات الرَّسمية، أو جببًا لمهنة المحاماة أو القضاء، عفوًا لكلِّ نظيف، لكن حقًّا تعبنا، وانسكب الحقُّ يَصدح وَحده من صدورنا: أن حان وقتُ التغيير، فكفُّوا عنَّا مزاميركم القزمة، لستم تكفون جوعكم ولن تكفوه؛ لأنَّه دوركم أن تتذوَّقوا من نفس التجارب التي ذاقها أناس طيِّبون سعوا للإصلاح ثمَّ توقفوا بسبب حِيَلكم الماكرة...
ستتحقَّق فينا راحة البال وتنقل مسامعنا الأخبار السارَّة؛ لأننا دائمًا وأبدًا رضينا بما قسمه لنا الرحمن.. فقم يا شجاع ويا محب العدلِ ولَبِّ نداء الحقِّ في نفسك وخلِّصها من عقد الجبن والخوف، وأعد العدَّة لنصرة دِينك ونصرة أمَّتك.. إن كنتَ حقًّا مسلمًا... يقين أنَّك ستلبيه؛ لأنَّ عزَّة نفسك ستلبِّي نداء الكرامة والأنَفة والغيرة على الدين والوطن...
وعلى الله قصد السبيل، وعلى الله توكَّلنا، ولنا في الله كل اليقين أنَّه الناصر لكل ضعيف ومستضعف... ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].