كفن الظلم
لَففْت عُقَدًا عويصةَ الفَكاك فيما بين أناملي؛ فعجزت أن أكتب كلامًا جميلاً، واسترقت مني سمعًا غادرًا حينما كنت أتحدث حديث البراءة في سمر إحدى الليالي الرائعات، وسكبت زيتًا على نار العذاب لتزيدَني ضعفًا على ضعف!
كنت في تلك اللقطات جميعًا لست أبالي أنك قاطع عليَّ ربيع الجمال حينما يهلُّ عليَّ في ذكرى مولدي، وفي أنين الصمت مني أني فعلاً لم أكن أبالي! كم كنتَ غادرًا وظالمـًا!
هوِّن عليَّ قليلاً! دعني أجوبُ شوارع الماضي؛ فإني أشتاق لدبيب النمل في غير وقته، وإني أحنُّ لصياح الديك في غير نسَقِه.
هل اختلف زمن السمفونيَّات الحالمة؟
هل القهر يكسر مني تركيزًا أخشى أن يطول حتى لو كان لبُرهةٍ من الزمن؟
فثواني الحرمان صعبة التحمُّل والمرور من أمام عينيَّ المليئتين بدموع لم أترجم بعدُ لا فَحْواها ولا نوعها ولا دواعي نزولها! سَلْ إذًا ربوعًا من الأوطان التي عانت هفوات كهذه!
أطرقُ بابك مرة واطرق بابي ألفَ مرة، فلربما فُتِح لك بابي مليون مرة أمام تعنُّتِ أقفال بابك القاسية!
فهل كلُّ ما يذكرني بك شديدُ الكُرهِ مني لهذه الدرجة؟ أم أنها دلائل وتعابير الظلم حتى في رَنَّةِ قلم هو لك؟!
صدقًا، لست أقعُ بالخطأ في أن أستلِف منك مدادًا لأكتب، وبالغفلة عما يُكنُّه صدري وتحبسُه أنفاسي تجاهك.
كلَّمْتُك وخاطبْتُك بضمير هو أنت، ولست أحدد جنسًا معينًا؛ لأن المظالم تنبع من كل جنس تقريبًا، حتى من الجماد حينما يقسو عليَّ ببرودة لست أتحمَّلها؛ لما لها من تعنُّتِ الحسد في قلوب لم تفقه بعدُ أن من دواعي الود الحقيقي صرف القلب إلى ما يحبه الله وترتاح له الروح الطيبة.
كم أحتاج لطول البالِ، وخُلوِّ الذهن من أحقاد وآلام خلتْ، أحتاج لاتِّساع الوقت الكبير؛ حتى أنجوَ بنفسي إلى حيث سأحطُّ رِحالي بعد سفر طويل وهروب من آلام كادت تَفْتِكُ بي، فعلاً هي مغامرات لم أرسم لها لا سؤالاً ولا رأيًا، لكني تمنيتُ لو نسجت أكفانًا لكل من الظلم، والخيانة، والحسد، والغيرة...، وأرتِّبُ أطوالها كما ينبغي أن تحتويَه معاني كل كلمة من الكلمات التي خلت، وأشرُّها لديَّ كلمةُ الظلم!
ربما في ذهني أن موت تلك المعاني الهدَّامة لن يكون له وقت معين؛ بل ستموت مع كل مناسبة من مناسبات رد الاعتبار لأهل الصبر والحلم الجميل، ولكل اللحظات الآتية مستقبلاً.
لستُ أحتاج لا إلى أمتار، ولا إلى مقاييس حتى يحضر الكفن في لفافة يعدُّ نفسَه بنفسه لمصابِه، ولكن بياض النهاية هو راحة لي وسكونُ الألم بداخلي في أن ظاهرة من الظواهر قد انسحبَتْ من غير شرف من ساحة الحياة الجديدة، بعد أن لبستُ لها كفنًا من أكفان وسِعَتْ لأهل ضيق الصدر، وقلة الصبر والتحمل المحمود، على خلاف أهل العزيمة والتميز والريادة؛ حيثما تنقلوا بخطوات هي أكثر وقعًا من سقوط الحجر من أعالي الجبال، فليس لقمة الجبل علو أمام خطوات القدوم في بادئة أن أهلاً بوادٍ سكن فيه العذاب وارتاح فيه الخاطر - وإلى الأبد - بعد أن عاد الحق إلى أهله بأي شاكلة من الأشكال، وعلى أي نحو من الضمان، فالمهم أنه لم يَضِعْ حقٌّ وراءه مطالبٌ، بعد طول صمت من أصحاب التعدي والتكبر والقتل البطيء الذي رأيته بأم عيني في حسد كان فتَّاكًا، وعلى مطية من غيرة غير مبررة، وبوسيلة الكلام المنمَّق بأجمل كلمات القَبول، وهو ما لم يكن بالمرة حقيقة على الإطلاق؛ لأن سورة البقرة أسكتَتْ فيَّ كل قلق وهيَّأَتْ لي بوادر الفهم الجيد أن هناك أناسًا يكذبون ولا يصدقون، وحينما يحاولون أن يكونوا صادقين يفقدون كلَّ شيء؛ مصداقًا لقوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 204، 205].
اللهم اكفنا شرَّ هؤلاء، واحفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين.