فِراق المصلحة
لقطة بطيئة لسقوط كأس المحبة من يدي، خفت من لوعة السقوط؛ لأنه لا رجعة لشكله الجميل، ولا حفاظ على محتواه من المشرب، لم يرعبني صوت الانكسار من قوة الاصطدام؛ لأن فكري وفكرك في ارتطام، لم يزعجني سقوط عنيف لثقل الكأس من بين أناملي؛ لأن التسلل واجب في مثل هذا الموقف الذي جمعني بك اللحظة، وأنا أحيطك علمًا أختاه أن من بين التصرفات ما كدر صفو عيشي، حينما كان العبث وغياب الجد في رباط الأخوّة الذي ربطني بك يهوي بي إلى حيث أكاد أنتهي وأنا في كامل وعيي، ويا له من هول! واليقظة تسكنني بالقرب من رهافة مشاعري، ناوليني طوعًا أو كرهًا وقتًا أشرح فيه موقفي، ومن ثم دواعي قراري المفاجئ.
لما تعرفت عليك لم يكن فيه بداية، ولما ألفتك لم تكن فيه نهاية، كان التعبير على محيَّا وجهينا كافيًا لأن تبدو ملامح التوافق في انسياب تام لرغبة كلتينا، ثم الكلام المسجى من عبارات التقبل لطبع كل واحدة فينا كان له مرفأ آمن بالقرب مني ومنك، وليتني اكتفيت بانطباع كهذا؛ حتى لا أتجول بعيدًا في أعماق الحرص عليك أن أكون يقظة في سلوكي معك، حيث لو لمحت منك اعوجاجًا أسديت نصحًا، ولست أبالي، ولكن أن يتحول هذا التنبيه إلى شرارة عداوة رغبت في أن تنتشر في كامل كوكبة مرفئي، فإني سأطلب الرفق بحسن الجوار والمعشر فيما كان بيني وبينك من مأكل اللطف والذوق الجبلّي المعبأ بتوابع الحمد والشكر لصاحب النعمة.
سكنت عقلي في لب نكهة الإدراك الجيد، فكنت أميز بين جدك وهزلك بكثير من عدم الاهتمام لما لا يثير غضبي أو قلقي؛ لأن جل اهتمامي كان يكتب برنامجه في ميعاده أن أرقبك بعين التحري على جوهرة قد تضيع بين كوم من صوف الغفلة أو في بحر الضياع، وهو دور تقلدته من فيض الخلق أن ما أحبه لنفسي أحبه لك أيضًا، لكن ما كانت تبغيه نفسك هو تمام المدح والإبقاء على وصال اللقاء والكلام والثناء على مستقبلنا الموسوم بغد أفضل، لكني في قرارة نفسي كنت أرفض أن أبدو في غير حقيقتي وصرامتي وصدقي من أداء واجب من واجبات الأخوة في الله، وإني ناظرة إلى قدسية الرباط في أن دوام راحتي النفسية هي حينما أبدو أمامك كما أبدو لنفسي أمام المرآة، لم ولن ألعب دورًا ينافي مبادئي حتى لو كان فيه هنائي وراحتي وسعادتي، فأنا ناظرة إلى ربي بَدْءًا، وإلى حسن أداء رسالة النصح والمحبة الصادقة.
لذلك كان أن بادرت بتوجيه النصح الصريح حول معطيات الأخوة لديك حينما كانت آنية وللحظات ترغبين فيها أن أكون حاضرة لفرحك وأنتهي، غير ذلك فليس الأمر يهمك في أمر من الأمور حينما تغيبين عن الواقع الملون بشتى أنواع المحن والمفاجآت؛ لأن ذلك يسبب لك توترًا وانزعاجًا، كما أن أنانية المكسب زينت لك طريقك إلى حيث تريدين، ولا شأن لك بمن كان سيسعد كثيرًا لفرحك حينما سيُتوج الانتصار لديك أفراحًا كثيرة، لكن الإحساس بكِيانك هو أولى وأهم، وبرنامج هذا الكيان هو أول الأسطر التي تستفتحين بها دائرة الإنجاز لديك.
احترت لحجم الأنانية في سلوكك، فانطلقت في السؤال عن طبيعة هذه الخصلة فيما إن كانت ربما آنية وليست طبعًا راسخًا في سلوكك، فكان أن تلقيت رفضًا وتعنتًا عن موجة السؤال التي انطلقت مني لتجد لها صدى مزعجًا، خاصة أني وثقت أني سألت روحي ولم أسأل أختًا لست أعرفها، فعلاً صُدمت من رد فعل أفهمني أن من كان صريحًا وحقًّا في أقواله لن يكون له مدد في استمرار التواصل والأخذ والرد من التجاوب في رباط مقدس، فراجعت سؤالي لأغير طريقة الطرح منه، لكن هي نفسها إجابة الكسر للخاطر أن الموقف ليس يحتاج إلى عمق من الفهم بعد البحث والتحري، فراجعت نفسي أن ربما في الصراحة المبالغ فيها ما هو مخسر للمكسب والمقصد، لكني لم أجد ارتياحًا في داخلي إلا وأنا أقرر انسحابًا عاجلاً إن لم يؤخذ بعين الاعتبار ما أبديته من موقف، وليس مجرد نقد عابر، فكان الرفض مرارًا أن الطبع هكذا ألِف العيش في كَنَف حب الذات وتمجيدها؛ حتى لا يسمع إلا صوت الأنانية، ولا يرى إلا فوز المصلحة، أبديت تقبلاً لمثل جواب كهذا، وأرجعت الجواب بجواب آخر لأهله، لكنه كان أسمى في مبتغاه، وهو أن فراقي لمن عرَفت لم يكن إلا لمصلحتها؛ حتى تفيء لتصرفها وإفراطها في حب ذاتها، وباب المصلحة مطروح لها بقوة القرار مني وبأسلوب مهذب لا يهين ولا يسيء؛ لأني فكرت في مشروعية الواجب نحو الأخوة في الله، وهي أنها ستلتقي بأشخاص آخرين سواء في حياتها الخاصة أو العملية، وسيكتشف المتعاملون عيبها مثلما اكتشفته أنا في البداية، فكان أن آثرت مصلحتها على حساب رغبتي في صداقة لن أكون فيها مرتاحة لو غضضت بصري عن عيب بات يزعج راحتي النفسية؛ حتى أمنحها فرصة لتدارك ما يجب إصلاحه قبل أن تقع في نفس الإشكال، وربما مع مَن لن ينير لها الدرب، ولو كان ذلك من السهل الممتنع، احترت فيما الكسب وفيما الفقدان، فكان أن خسرت الرفقة بسبب صراحتي، احترت وراجعت قراري، لكن لم أقدر أن أختار أيسر الأمور لها، حتى لو كان على حساب هنائي، لكني أخبرتها في رسالة صريحة أن فراقي لها كان لمصلحتها، والتي لن تفهمها إلا وهي تبحث لها عن أُخوَّتي الصادقة، والتي لم تكن مبنية على أساس هش؛ لأن المتانة بالنسبة لي في دوام الأمر وصدق النصح لله، لكن حينما لم تفهم رسالتي فضَّلت الانسحاب والمتابعة عن بعد لحين أن احتاجت لي في ظرف طارئ ستجدني أمامها، لسنا كمن يقطع الوصال لقطيعة يعشق سم الفراق فيها، ولكن لأننا نؤدي رسالة بتمام الحذر والحيطة من مخالفة شرع الله المتين، ويبقى ما وقر في القلب هو ما تترجمه حسن النية، وليس بمظهر قد يخدع ويزيف ولا يوصل إلى بر الأمان؛ ولذلك ما كان مبنيًّا على مصلحة حتمًا سيزول بزوال المصلحة إلا ما كان فراقًا لأجل مصلحة حكيمة لا يفقهها إلا ذوو الألباب مَن يعرفون معنى الأخوة في الله ودلائلها وواجباتها وحقوقها وشرعيتها وَفْق ما حث عليه الشرع.
صدقًا نتيه في تظارف الآراء والطبائع، ولسنا نتيه إن تمسكنا بمصالح بعضنا بعضًا بعيدًا عن الأنانية وتمجيد الذات وحب سماع صوتها وفقط لأنه الصوت الوحيد المرغوب في سماعه ولو من باب التسلي، وهكذا نفقد حكمة التوحد بسبب التفرق، ونعود للوراء خطوات عديدة، على عكس الأمم الأخرى، فهي تتقدم رغم الخلاف، ورغم البعاد.
تُرى هل فهمنا جيدًا ما هو المطلوب منا حينما لن نخلق عبثًا؟! ومتى نعي ثقافة تقبل الرأي الآخر، ومقابلته بالقبول والشكر الجزيل إن كان يخدم مستقبلنا، ولم يكن ليكسر الطموح فينا، متى نعي أن الأخوة في الله هي أن أستشعر مسؤولية الرباط بالنصح والتوجيه بصدق الفعل والقول، وليس بالمدح وتقبل الأخطاء على تكرارها عمدًا، نحن لا نتباهى بطبيعة الوصال بقدر ما نتباهى بإصلاح أنفسنا بأنفسنا وبتوجيه من غيرنا، ربما هذا هو السبب في تأخرنا وعدم لحاقنا بركب التقدم، فالعمل الفردي هو أساس انطلاقتنا، أما العمل الجماعي؛ فهو مبين لتفاوت القدرات، وبالتالي الفرقة خير، لكن العكس صحيح، فالمسلم لأخيه المسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، نعم، كلما ابتعدنا عن ضوابط الشرع، تهنا، وانتهى بناؤنا بسرعة؛ لأنه سينهار من أول حجر أساس يوضع له؛ لأنه لم يصنع من أسمنت التعاون وماء المحبة ليتشكل خليط المتانة، إن شمل المسلمين صعب تفريقه، ولنا أبسط العبر في مجتمع النمل، كيف أن العمل الجماعي يساعد على التلاحم، أم أن حكمتنا في أبسط مخلوقات الله نملاً ونحلاً! أم أننا سنختار لبيوتنا تشكيلة هشة كبيت العنكبوت؟! القرآن مليء بالعبر، ولنا أن نتفقه في ديننا قبل أن نتفقه في مصالحنا؛ لأن كل مصلحة تخالف ما احتواه ديننا فهي ضارة وليست نافعة.