مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/04/17 18:59
وقفات مع غروب الغدر

وقفات مع غروب الغدر

 

لم أعرف من أين أبدأ؟ وكيف وبمَ أبدأ؟! لكني هأنذا بدأت من حيث كانت الانطلاقة لدموعي في أن تنزل لتستقر على صفحات حُزني، لم أكن أنوي لأمسحها؛ لأن في تلك النية إقرارًا منِّي أن أترك كل شيء ليبدو جليًّا، ثم لم أبغِ أن تَقطَع دموعي الوصالَ عن أحرُفي؛ لأني سأكتب للتعريف عن ماضٍ أليم، وحاضر مُثقل بصرف حسابات ومستحقات هذا الماضي، ولو أني سددت بعضًا من ديوني من أضلُعي وتَنهُّدات رُوحي في أني أخشى الموت ولا أَفِي بديوني.. لكن كانت لي من الشجاعة ما جعلتني لا أنسى أني مديونة، ووحدي في ظلمة ليلي، وبالقرب من صُوَري وأنا بعدُ طفلةٌ لم يكتمل نصابُ الإدراك عندي.. وارتضيت أن أتسلق إلى أعلى يومًا بعد يوم في قصة التَّجارِب، وعامًا بعد عام في قصة الفُرقة، ولأن عمر الفرقة أطول من عمر التجارب؛ كان عليَّ أن أركن إلى الاستسلام بين حنايا الإله، لأنه لا مفرَّ لي من ضغط الحياة، ولا مِفتاح لي للنجاة سوى صلاة واستغفار، ثم تهجد بالأسحار.. كَبِرتُ على هذا المِنوال.. ولأني أكره الهزيمة اخترتُ الأمَرَّ على المُرِّ في طعم العلقَم؛ لأنه لا حاجة لي في العيش مع من علمتني الحياة درس استمرار النبض، فأصبحتُ أنا والعدم في لحظتها سواء، ولما كان الإنسان والزمان ضدي، اخترت أن أكون وحدي، فالكل كان يسكن في قلبي، لكني لم أكن لأسكن في قلب أحد، ما عدا أُنْسي بتلك القوة الخفيَّة التي كانت تعمل في الخفاء، وكان لها الفضل في نجاتي في كل مرة من الغدر.. ولن أُتْبع بالغدر كلمةً أخرى؛ لأن رعاية الله أكرمتني حتى لا أنتهي.

 

كان لي الحق في الأُمنية، لكني فارقت كل شيء.. مسقط رأسي، أهلي، جيراني، فالجروح بعد الجراح بدت لي تافهةً، وأنا أكبر في عنفوان الفَهم والإدراك من أن ذاك كله ابتلاءٌ حتى أظل أكبر في حُبِّ الله.

 

أحسنت بفراقي عن أحبابي فاكتفيت بالصَّمت.. ليس خوفًا ولا ضعفًا، وليس دفاعًا في أني لا أحذر، لكن الغدر كان أقوى مني ومن براءتي وصِدقي وإحساني.

 

لما تركت حُضن أُلْفتي كان في أصعب اللحظات، ومع كل هذا تمنيت لو عدت إليه، كان الواقع يحرمني رحلة العودة للوراء؛ لأن فيها على ممراتها أشواك الأسى والندم، في أني قد أكون تسرَّعت، أو ربما لم أُحسن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

 

كان كل من يسمع عن رحيلي أو يُلاقيني يظنُّ أني في فُسحة الدنيا للتجوال، لكني كنتُ أُجيب من أن القدر كتب علي رحلة لم تكن في نيتي القيام بها.. فأكتفي بالمختصر في الجواب؛ لأن طول الكلام يُشعرني بتأنيب الذات من ضمير الندم في أني كنت ضحية.

 

سأعود إلى أسطر الاسترسال، لأمسك قلمي بكل قوة؛ حتى لا تنفلت مني الذكريات.. كان لما يطالبني العقل بأن أَجُوبَ به في أماكن الطفولة والشباب، كنت لا أرفض له طلبًا، بل أعود للوراء وأبدأ في عدِّ لحظات العيش الهنيء، أين كان كل شيء يألفني منذ وُلدت وإلى غاية هذه الوقفة الاستدراكية؟! كنت لا أحتمل الأذى، وكنت لا أحب أن أخدع رُوحي في أني أشتاق لأنْ أعيد العيش مع هذه اللحظات التي تدفيني وتُشعرني بانقطاعٍ عن الحاضر، لكن متطلبات الوجود الحاضر لا تَمنحني الوقت الكافي لأستمتع بهذه السعادة، فأرسل في تنهيدةٍ طويلة حسرة لكل من تسبب في رحيلي إلى هناك، حيث لا ذكريات طفولة ولا راحة بال ولا استقرار جسد، فأرفع أكُفِّي إلى السماء لأنقل رجائي في أني يا رب مظلومة فانتصر.

 

فرُحت أحمل حقيبتي لأعود من حيث أتيتُ، وكأنه لم يعد لي انتماء لذاك المكان الدافئ؛ لأني رحلت دون سابق إنذار، فِعلاً قد أكونُ غامرتُ بل ضحيت، لكنه مُراد الله في أني سأشرب من منبع آخر غير منبعي الأصلي.

 

مهما حصل من أحداث تبقى الأشواقُ في مكنونات صدري، أكِنُّها لنفسي في حديثٍ بيني وبين ضميري، بشوق رد الاعتبار يومًا ما.. هي وقفة مِني على غروب غادرٍ لم أحسبْ أن فيه من الغدر ما جعلني أحسب لخطواتي ألفَ حساب، خاصَّةً وأنا أتطلَّع إلى فجر آمِنٍ.

 



أضافة تعليق