حديث مع الغروب
قرَّرتُ يوم أحسستُ أني نلت حرية كبيرة ومتَّسعًا من الوقت أن أركب السيارة باتجاه البحر، هذا ما كان يملأ المنظر في مخيلتي وقت أن صرفت الرغبة في أن أكلِّم إنسيًّا أو أنتقي لي ما طاب من الأحرف لأصحبها معي في رحلة لمُخيلتي، فكل الحاجة لي يومها هي مشي على شطِّ البحر، ولست أفضل في رغبتي أن يكون هادئًا أو هائجًا؛ لأن المهمَّ هو أن أمد بصري إلى آخر مُنتهى من هذا الفيض الشاسع من الكبرياء، وكان ما كان، وترجمة هذا المراد هو أني مع رنة صوت البحر في سكينة ومتعة، والبدء بحديث بيني وبين نفسي، في عودة لتذكر بعض فواصل العذاب لأعرف أن الحاضر الآن أمامي هو صوت البحر في هدير كنت أَدنو أكثر منه لأتابع موجات التعالي، ماء يَعلو ويَرتفِع، وعيني في ارتفاع مع القمة، هو فرض حركة ردِّ الفعل مني لكل حركة، ربما هي شيم الأقوياء ألا يُبصروا إلا عاليًا ولا يعلو نظرهم إلا لهمَّة، قد أكون تعودت على استقامة كهذه في نظري على أن أبحث عن الشيء الضائع مني في عمق البحر، ولستُ أبحث عنه في مكان آخر؛ لأن عمق البحر هو حضن المحارة والمرجان واللؤلؤ، وعليه فإني ألامس فيكَ يا بحر بقدمي أني في مأمن ما دمت ثابتة على الأرض، وإني أسند رأسي على فكرة أن جمالكَ يَسلبني، وصوتك يُسلِّيني، وعليه اخترت دفئًا قبل وقت الغروب، هو منظري منذ طفولتي أكنُّ له أحاسيسي أني لستُ عادية بكل المقاييس، وفي خيال المشهد أتساءل: كم ليلة مضت عليك يا بحر وأنت في استلهام للنفوس مع مَن مالت طبائعهم إلى رومانسية الرفقة معك، وإني واحدة من هؤلاء حينما أنقش حروف الإعجاب على رملك، أشعر أني تحرَّرت من أَسر ضغوطات الحياة ومضايقاتها، لآخذ لنفسي حقًّا مشروعًا ولو خلسة، فبالكاد وقتي يشير لي بإنهاء لحظات التغنِّي بجمال الطبيعة فيك، وإني لست أنتقي لي مكانًا آخر لأكسر قيدي المكبِّل لروحي إلا وأنا أقف لأتحدث حديثًا أذكر فيه أن الأمس استنفد مني جمالاً وصحَّة ووقتًا وسعادة، واليوم اكتمل نِصاب الصراع، وما سكون موجك إلا انعكاس لِما أنا فيه من نجاة من النظر والمناظرة، ولستُ أقبل أن أكون محل أين وكيف ولماذا من الآن فصاعدًا، فحلاوتك يا بحر، تُلهمني أن أبدع بنظري أكثر مِن قلمي، أريده ارتحالاً إلى حيث الحديث بالنظرات وكفى حتى أتدرب على ألا أجيب عن تطفُّل بالمرة؛ لأني سأتعلم وقتها كيف يكون الصمت لغة الحيرة، لكني سأُخاطب نفسي حتى يصدح الكبت إلى نقاط مائك وحيث سيهدأ خاطري أني في فسحة مع الأمل بجوار قطراتك الهائلة.
قد يَنسكب الدمع اللحظة، ولستُ أقمع سيل العبرات مِن أعيني، ففيك يا بحر مشهد القوة وعذاب الماضي، وإني مُحتارة في أن أُطلق الأول عن الثاني، ولو أني أفهم حقيقة المرادف في كلام أبي العتاهية:
لكل شيء معدن وجوهر
وأوسط وأصغر وأكبَرُ
وكل شيء لاحق بجَوهرِه
أصغرُه متَّصل بأكبرِه
مَن لك بالمحض وكل مُمتزج
وساوس في الصدر منك تَختلِج
ما زالت الدنيا لنا دارَ أذى
ممزوجة الصفْوِ بألوان القَذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
مَن لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
والخير والشر إذا ما عُدَّا
بينهما بَونٌ بعيدٌ جِدَّا
|
فما أجملك يا بحر وأنت فسيح في المجال، رقيق بملمَس أناملي، خاطبت فيك الغضب والهدوء، راقبت فيك هموم التائهين وحنان المحبِّين، تعيش في باطنك مخلوقات كثيرة، وتسبح على سطحك ألياف عديدة، عجبتُ لروعة المنظر فيك، واحترتُ للشراع تَتوق للأسفار في عمق قلبك، ربما خوفي يَسكن حيث البُعد عن الناس والضوضاء وصوت الحياة، فهل سيكون لحديثي اتجاه آخر حينما أرى السفن تمخر الماء فيك؟ فأشعر أن الرحيل قريب، نعم هو كذلك مع منظر الغروب وللشمس ميلة إلى حيث مُستقرِّها، وفي مشيي على شطِّك عودة للوراء من حيث انطلقت، لي مع الصخر دليل وصولي، ولي منه انطلاقة رجوعي، وهكذا لكل شيء بداية ونهاية، ربما حِكمتي عندما أفارقك يا بحر أن أقدم شكري لكل مَن زرع شوكًا في طريقي؛ لأني أصبحت أكثر تمييزًا للورد الجميل، وبأقلِّ وخز للأشواك في اختيارٍ مُناسب لموضع أصابعي، فليست الحياة تَخلو من مكاره، وليس للحيتان عبق العيش بغير عمق أعماقك مسكن.
فلو لم أشرب من كأس الأذى لما تذوَّقتُ طعم النجاح، حتى أنت يا بحر فيك القول الفاصل لعذاب الأمس بسبب وخز أشواك اصطفَّت في طريقي، لكن ضالتي أن الله جعل لكل شيء نقيضًا؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ [فاطر: 12]، وهذا ما جعل حديثي مع الغروب يُقنعني أن فجر غدي فيه الكثير مِن الطمأنينة، ولو أن للجرح بصمة الغدر، ليسَت تُغادر مُستقرها، كالغمد للسيف حافظ، وما النظر فيك يا بحر إلا لمُتعة آنيَّة ويَبقى ما في القلب هو في القلب ساكن، ولا أحد مطَّلِع على هذا السكن إلا الواحد الأحد، فيا ربِّ ثبِّت قلبي على طاعتك.