مقتطفات من مكنونات صدري (1)
أصمُد كثيرًا حينما أَكتُب عما نُحدِّث به أنفسنا في الداخل الذي لا يطلُّ عليه أحدٌ ما عدا الله، ففي رحلتي العملية اليومية، وأثناء احتكاكي بمَن عرفتُ وبمَن لم أعرف، أستمِع إلى حديث العامَّة من الناس، وأركِّز كثيرًا على مَشاهد الحسرة والتعَب والتصادُم في الحياة بشتَّى أنواع المشاكل والعراقيل، فأنصِتُ جيدًا، وأركِّز، وأُحلِّل في نفسي ذاك الموقِفَ أو المشهَد، وأُبدي النَّصيحة أو الرأي، ولي في البيت قراءة لرسائل مِن شتَّى الأعمار، ومِن مُختلَف الأجناس والتصوُّرات، فأنقل حرفيًّا مطالبَ المُتعَبين ورغبتَهم الشديدة في أن أسلِّط الضوء على ملفات تُعتبَر ظلمًا مِن المظالم، أو سرقةً من سرقات الحُقوق، فأُسرع في واجباتي المنزلية لأردَّ الجواب لمن طلَب السؤال، وأحيانًا - ولضيق الوقت - أحتفظ بما نقلتُ مِن مَشاكل وحيثيَّات مواضيع للغد أو ما بعدَ الغد، لكنِّي لا أتجاهل مطلبًا واحدًا؛ لأنِّي أشعر أنَّ هؤلاء الناس هم بحاجة لذلك الحرف الذي يُسكت فيهم إلحاح السؤال، أو حاجة في إيجاد مسلك صحيحٍ لمعضلة أهمَّتْ بهم في حياتهم.
وحينما انتهي وأنطلق إلى أريكتي في جلستي المعتادة، أبدأ في نسج كلِّ التصورات والاستنتاجات التي بَقِيَت مسيطرة على تفكيري، خاصة أثناء مواجهتي لموضوعٍ ما هو نفسه موضوعي في لحظةٍ من اللحظات، وأبدأ في نقل مكنونات صدري إلى ذاك التأمُّل الذي أخصُّ به نفسي للحظاتٍ في فترة من فترات الأسبوع؛ لأجدد طاقة تصوُّري، وأستَعيد نشاطَ فكري بشكل متوازن، إما في وقفة هادئة على شطِّ البحر، أو مشي على الأقدام في حديقة من الحدائق المنورة بالأزهار؛ لأني أعمل عملاً يَختلِفُ تمامًا عن نوع كتاباتي وعملي، ولو كان متعبًا فهو مَن منحني فرَص اللقاء والتحاور، ومعاينة الواقع بنفسي دون حاجة لأَنْ ينقله لي أحد، وكوني أتنقَّلُ بين المستشفى والجامعة يَنضُجُ في عقلي عمقُ الأَزَمات في الأوطان العربية؛ لأنها تقريبًا متقاربة ومتشابهة في نقطٍ ومحاور، فرؤيتي البسيطة أنقلها بما يوافق مبادئ أخلاقي التي تفرض عليَّ أن أكتب في إطار مُنتظِمٍ ومحافظ؛ حتى أعرفَ كيف أحتوي المعاناةَ والألم، والفرح والنجاح في قالب من حكمة وموعظة حسنة تكون في الختام بلسمًا شافيًا، وفي ذلك أشعر بتعبٍ في وجداني؛ لأني أنقل تجاربَ الغير واهتماماتِهم بأمانة كبيرة، ومن غير نسيان لبندٍ من البُنود؛ لتكتمل فصول القضية بجوهرها.
مِن مكنونات صدري ما انتفض إلى الخارج، وصرَّح ليُفسِّرَ وينقلَ شكوى فتاةٍ روتْ لي ما ذاقتْه من مرِّ التحصيل الدراسي، وأن لها في النجاح مساومات عديدة من أستاذها وغيرها من الطالبات النجيبات، وما كان من الإهانة من مديرها، أو شخص رفيع المستوى في السلم الإداري؛ فكان ذاك النجاح بطعم المرارة بعد أن صرحتْ بأنها تعبت لأجله، وأن في رفعة خلقها ما كان شحنة زائدة فجَّرت غضب مَن كان فيهم الطمعُ؛ فتعثَّرت في تخطِّي العتبة، وتنازلت عن النجاح في آخر المطاف، لتُعيدَ السنة، ولا تمدَّ يدَها لتُصافِحَ مساومة دنيئة من المساومات، وفضَّلت النجاح للعام الذي يليه، وفعلاً كان ما كان!
وفي ركن آخر من المستشفى يدفعُ المريضُ رشوةً، أو يقطع أشواطًا في سفره بين الإياب والذهاب؛ ليَحْصُلَ على موعد مع طبيب، أو ليُجرِيَ عملية جراحية، أو ليقوم بتحاليلَ وما شابه ذلك، فيعتصر القلق روحَه، ويسقط أرضًا؛ لما يُعايشُه من حقيقة خادعة ليست تبدو لأحدٍ، فيختارُ له أيسرَ الطرقِ؛ ليتحصَّل على مراده، خاصة إن كان الشخصُ المستفيد شخصًا عزيزًا على قلبه، فيرى في القِيَم والممنوعات ما تَستبيحُه الضرورة لإنقاذ الحياة، والمسارعة للتداوي، فيَستسلِمُ تفكيري أنا الأخرى أمام موقفٍ صحيٍّ مُزْرٍ كهذا!
لأنتقل إلى صفحة أخرى من صفحات الواقع المرِّ؛ لأقرأَ تجربةً أخرى قاسية تلفُّ كيانًا وَثِقَ كثيرًا، فباع السرَّ والمشاريع لقلبٍ اطمأنَّتْ له صديقةٌ لصديقتها بعد أن عرفت نقاط الضعف فيها، فانطلقت بعد عمر من الصداقة لتفجر أمامها قنبلةَ الخيانة، وتنقل حضارتَها إلى مستودع التسرُّب، وتُبادِر في فنِّ التجريح لها؛ حتى لا تكتَمِلَ المشاريعُ في بنائها، ولا يتألَّقُ الصَّدَى في تموُّج نهضتِه؛ فيُصبِحُ ذاك الكيان البريء في صدمة نفسية بالكاد ينهضُ منها، ويندمُ على اليوم الذي تعرَّف فيه على خلائق بشرية كهذه، وهنا أضع فاصلةَ الحيطةِ والحذرِ، وإن كان الأسد مرات ينخدع من مكره بنفسه، فما بالُك بعزيمةٍ انطلقت متوكلةً على الله، فنال منها المكر ما نال، وأضعُ سطرًا على أن مثل هذه الانتكاسات هي مرادة من الله عز وجل، خاصَّةً لما يُبنَى الوفاءُ على التوكل عليه، فلستُ أرى في هذا الخذلان خسارةً بقدر ما أنسب الحقارة والخيانة لمن لم يُحافِظْ على طعم الأكل السابق في بطونه، ولم يَحترِمْ نيَّة الأتقياء في التواصل معه؛ فأختصر القراءةَ هنا لأن التحليلَ واضحٌ وبيِّن أن لا ضررَ ولا ضِرارَ على مَن قدَّم الخدمة والوفاء بُغيةَ ابتغاء وجه الله تعالى، ولكن يبقى الحذرُ مطلوبًا في العَلاقات القادمة.
وفي وضعيَّة أخرى لعنوان يحمِلُ الكثير من المعاني في صلةٍ لأرحامٍ تربَّت وترعرعت على أيادٍ من أصالةٍ وحرصٍ أكيدٍ على نموِّ عَلاقات أخوَّة الدم بين الأخ وأخته، غير أنها وفي فرجة من فرج الفرح الأنانيِّ تلحظ الأخ يُخطِّطُ لأكل ميراث الأخت، أو يَرسُمُ أبعادًا سريعةَ الالتهابِ للحقوق، فلا يُعرَفُ له حدٌّ للاستغلال، ولا يَتذكَّرُ أيام الطفولة ومواطن التَّرْعرُعِ في الخطى عبر أركان البيت العائلي، فتَجِدُ الأنانية تأكُلُ كلَّ ما بني من جمال وأُلفَةٍ ورحمة.
أغرقُ اللحظة في أسباب هذه الهمجيَّة التي تظهر جيدًا بعد الزواجِ، فهل بدخول الطرف الجديد للبيت يتغيَّرُ تفكير الأخ، ويتبع في ذلك ما تمليه عليه زوجتُه لتكبر البطن، ولا تشبع مما تأكلُه حاضرًا ونصيبًا محددًا؟ أم إن وجود الذرية فيما بعد الزواج، وكثرة عدد الأفواه، يُحتِّمُ أكلَ حقوق الغير؛ لوضع ركائز البناء الجديد لهم، وغلق الباب إذا ما طرقه واصلٌ للرحم؟
هنا، ومن مكنونات صدري يترتَّبُ الآه بعد الآه؛ لكثرة هذه التجاوزات العائلية في المجتمعات العربية! فتُصبِحُ القوامة هنا أن يقول الأخ لأخته: أنا هنا موجود لحفظ عِرْضك ومالك، ولكن في حقيقة الأمر إن تُوُفِّي الوالدان أو أحدُهما تظهر عفاريتُ الطمع؛ لترقص في كل ركن من أركان البيت الطفولي.
ما يُقلِقُني صراحةً - لو أني أفكر وأُحلِّل بعقل واقعي - هو أن القرآن جاء مُفصِّلاً لكل شيء نعيشُه، ولم يُغفِلْ نقطةً واحدة إلا أحصاها وتناولها بكل موضوعية، فقد يكون المجتمع الذكوري مسيطرًا وظاهرًا ليمحو كلَّ حقٍّ للأنثى؛ لأنها أنثى، ولا تملك القوةَ لتدافع عن نفسها، حتى وإن امتلكتْها فهي لن تنتصر؛ لأن النظرة المجتمعية لها - في بعض الدول - لا تَزالُ ترى فيها الكيان المطيع، والغير معارض لأي سلوك فيه انتهاك للحقوق، ثم الحقوقُ في مُجملِها إن لم تَعُدْ لأصحابها في الدنيا - فهي آيلةٌ لهم في الآخرة، وما التنافس الدنيوي إلا شيءٌ زائد؛ لأن الإنسان في تحصيله للمدركات لن يكونَ له من القسمة إلا ما كان مكتوبًا له، ولن يأخذه منه أحد، فيا ليتَ المشاعر تُرى ليَعرِفَ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، أم إنه على قدر الطيبة تأتي الأوجاع؟
كانت هذه مُقتطفات من بعض مكنونات صدري صرحتُ بها، وفي الأخير اللهُ هو النورُ لكلِّ ظلمةِ حزنٍ! وسأصرح بمكنونات صدري في المرة القادمة؛ لأنها كثيرة ومهمة، وليستْ تنتهي.