ترنم ما بعد الهزيمة
أدرِكْني يا ليل واطوِ عني صفحة يومي؛ لأني أريدُ يومًا جديدًا وابتسامة صريحة وبشرًا جددًا، هم موجودون بكثرة، وبتنوع الأخلاق والمبادئ والسير تتشكَّلُ سرائرهم، لكني أريد نوعًا آخر، أتعامل معهم وفق قوانين إنسانية بَحْتة، لا دخل لتاريخ ميلادي في أن تنتقي لي يا ليلُ مَن يُناسِبُ عمري؛ لأن عمري مهما أطلت التمعُّنَ فيه ستجده قصيرًا في انقطاعه، طويلاً في ثوانيه، أما دقائقه وساعاته فتلك رزنامة وقت آخر من حياتي، شققت فيها طريقًا في ظلامك، ولم أبالِ، وقطفت من فوق ترابه ثمارَ جهدي ولم أحصِ لا كميَّتَها ولا أعدادها؛ لأن كلَّ ما كان يهمُّني هو أن ألغيَ صفحاتٍ من كتاب حياتي، بل أمزِّقها وأحرقها؛ ولذلك أريد بشرًا من طينة أخرى كلها حيوية وإخلاص، وصدق وتفانٍ في العمل؛ لأن عشقي للعمل يجعلني أنسى بشرَ الأمس، وأركِّز على ثُلَّتِك المختارة لي اليوم.
ليلي، أو يا ليلُ، إن لم تَشَأْ أن أنسبَك لمساحة عمري، طوق على آهاتي خناقًا يُسكِتُ أنفاسي حتى لا تضيعَ في وادٍ لست تعرف مصبَّه إلى أين، ليلي أو يا ليل، إن شئت انفصالاً عني، فسأبقيك ليلاً أسودَ بلونِك العادي، لكنك تحمل لي البشائرَ القريبة إن شاء الله؛ ولذلك ومن فضولي وأنانيتي أحب أن أنسبَك لي؛ لأني فضَّلتُك وانتقيتُك بدلاً من نور النهار واليوم المشرق بالشمس اللامعة؛ لأن كلَّ نكساتي كانت في وضح النهار، وبأيدٍ تعمَّدت شرًّا نهارًا جهارًا ظهارًا؛ لذلك أصبحت أخاف النهار وضوءه كثيرًا؛ فهو لا يضيء لي دربي وتطلعي، بقدْرِ ما يَغتالُ طموحي في كل دقيقة، بل في كل ثانية تنتشرُ فيها أفكاري عبر موجات الأثير الراحلة، وغير الماكثة في سراديب الصمت؛ لذلك اختياري كان موفَّقًا، ومن غير مدح جميل لسكون البحر فيك، فحتى لنوم الذئاب والكلاب في براري غابات التيه، لم تُخِفْني لا بنواحها، ولا بعوائها بقدر ما بعثت في نفسي شوقًا لبزوغ النهار سريعًا على الرغم من أني أخاف ضياءه، لكني أحتاج إليه مع كل إحساس برغبة في تجديد الأمس إلى اليوم، أما الغد فلا شأن لي به؛ لأنه في غيبيات لا يستطيعُ - أيًّا كان من البشر - أن يُفتي في محاصيلها ولا في نِتاجها مهما تنوع؛ لذلك أرحني يا ليلُ، وهدِّئ من رَوْعي تحت نور النجوم المضيئة، فأنا أريد سكنًا بين جوانحكَ تلفُّني نسمات تهبُّ في خيام موافقات لسوادك، زدني رغبةً أخرى لأترنَّمَ تحتَ صوت طائر البوم الراكن على شجر من شهادة العين المتوقِّدة، هو يشهدُ لكل مارٍّ من أمامه أيًّا كان نوع البشر: راحلاً أو عابرَ سبيل أو راغبًا في أن ينامَ إلى جذع الشجرة الصامدة؛ ولهذا تنوَّعت الشواهد في سوادك، وهي مستيقظة وبأعين حذرة في ألاَّ تنفلت منها لقطة شاهد على زمن الاغتراب.
كف عني إذًا يا ليلُ مطالب كثيرة لست أقدر على تحقيقها إلا تحت ضوء القمر، فأنا أجلس الآن فوق هضبة عالية أكتب وأدوِّنُ وأترنَّمُ بنفسي لشعائر ما أكتب، إنها فرصة مميزة لأعرف كيف أرتِّبُ رَغَباتي - ولو بتناقض النتائج - فليس دائمًا الذهبُ دليلاً على الصفاء، وليس دائمًا اللؤلؤ دليلاً على ثقل المعدن؛ لأنه كثيرًا ما انطلقت هزَّات من معيار التحليل الدقيق؛ فانكشف القناع من على أوجه المخادعين الذين انخدع فيهم الساذج والصريح، والمستأمن لعَذْب كلامهم، وعليه يبقى نفي الصريح لنفائس الأشياء لا يُعطي التحصيل الحاصل من الغنى والفضل والمعيار الكبير من جودة الأخلاق، ونزاهة الآراء، وحرية الفكر الراقي.
ليلي أو يا ليل، هي حريتك في أن تنضم لآرائي ومواقفي، يكفيني منك أن تكون الشاهد على رغباتي، والمدوِّنَ لكلمات تمردي، والملتقطَ لصور أحداثي، فلن تكون بحاجة لا إلى رسائل من نور لتضمَّ فيها حاجاتي، ولا إلى شواهد عصر مخادع، فقط اقبل فرصةَ الانتماء إلى طموحي، واترك الباقي عليَّ؛ لأني سأعرف كيف أنتهزُ الفرصة التي لا تأتي إلا لمن يستحقُّها، خاصةً أنها تأتي مرة في العمر، وليست تتكرَّرُ باستمرار.
صدقني يا ليلُ، ثُمَّ ساعدني يا ليلي بعد أن تُدلي بمؤازرتك لي، ستصبح ليلي وليس ليلاً لكل الناس، أريد أن أكتب وأترنَّمَ بعد هزائمي الكثيرة، نعم ليس يحلو النشيد إلا بعد حدوث الفشل والضعف والانكسار، فأنا لا أغترُّ بصنيع مَن يظنون أنفسهم كبارًا على أضواء مصابيح مائلة ميول الطبع فيهم، فما كان ثابتًا في نسق تعامله صهر كلَّ حديد، ومجَّد كل عجيب، هي هكذا سيرُ المتنبِّهين لقيمة سوادك يا ليل، ستصبح ليلي ويزداد الإعجاب بك أكثر؛ لذلك دون وسجِّل بعد أن تشهد على عزيمتي، وصرح بعد أن تكتب مسيرتي، وراوغ بعد أن تعرف مَن كسرني، وأعطه فرصة لأن يطلبَ ظُلمتك، ثم أزح عن ستار الحقيقة لتترك كلَّ الخصوم، من كانوا بشرًا تعاملت معهم بالأمس، سرابًا أمام عيني فيما يلي لياليك القادمات، لست أبالي بعد انقشاع ظلمتك أي محاولة جديدة للخذلان؛ لأن العقل والقلب أصبحا نسقًا واحدًا من حكمة، بل تاريخًا من عبر.
وبعد أن وافقت على شروط عقدي الأزلي أصبحت منذ الليلة ليلي، ومن حقي أن أصعد هضبتي عبر روابي الكرامة؛ لأكتب قصائدي، وأنشرَها لمن اشتاقَ لقلمي الحرِّ، حرية الأنفة والاعتزاز والتحدِّي، فهلاَّ أعطيتني يا ليلي ميعادًا مع من اخترتهم بشرًا جددًا تتجدَّدُ معهم الحضارة، وينطلق معهم البناء العتيد لصرح النصرة بعد انكسار عميق! ولي شرط وحيد حتى يكتمل نصاب المجد، وهو ألا تترك لضوء النهار فرصة ليخطف سكنات سوادك، ويحوِّلَها إلى نور من خداع؛ لأن ما امتزج بالسواد والبياض صار رماديًّا باليًا، ولا ثقة لي فيما يكون أحيانًا سوادًا مظلمًا، وأحيانًا بياضًا ناصعًا، ويبقى الحذر من كل ما يلمع واجبًا مشروعًا في زمن ترطَّبت فيه الملامس، وبين ذرات كلِّ ملمس يسكن غدر ماكر.
ولست مستعدة لمكرٍ جديد، بل حتى أنت يا ليلي لن تسمحَ لضوء النهار أن يزاحم صدق سكونك، ورَوْنقَ نظرات البوم من فوق غصن شجرة الصمود؛ فاحرِصْ أن تحافظ على سوادك حتى تبقى غامضًا لكل بصير!