مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/04/03 18:48
النحل البوليسي ..وجه آخر من الاعجاز العلمي

النحل البوليسي وجه آخر من الإعجاز العلمي

 

﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 68، 69].

 

هي آية دالة على عظمة الخالق؛ أن جعَل الله - عز وجل - في خَلقِ النحل آياتٍ للمُتدبِّرين، والحِكمة مِن خلقه ما يُحير العقول، خاصة ذوي الألباب، وكلما تأمَّلْنا في هذه الحشرة الصغيرة، أدرَكنا قمَّة الإبداع في كيان هو أقرب للجُسيم في التسمية، والسرُّ كل السرِّ في الإعجاز الموجود في التركيبة التشريحيَّة لِهذا المَخلوق الصغير والضعيف في آنٍ واحد مُقارَنةً بغيره مِن المَخلوقات.

 

الكل يعلم أن النحل تُغادِر سكَنها - وهو الخلية - الذي بنَتْه بهندسة مُنظَّمة، بمَقاييسَ جميلةٍ، تَعكِس نظام النحل بكل فئاته وأنواعه، هي تُغادِر هذا المقرَّ - والذي دلَّها عليه الله عز وجل - في الجبال؛ لتبحث عن عِطر الزهور على مسافات طويلة؛ إذ مِن الحِكمة أنها تعود إلى مقرِّ سكنها دون تضييع للمعالم، ضِف إلى ذلك أن الله دلَّها على أكل جزء مِن الثمار وليس كله؛ لأن ذاك الجزء مُخصَّص فقط للرحيق، وهو في قوله - تعالى -: ﴿ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، هو إيحاء رباني جميل، حتى يَكون إنتاج العسل مصفًّى وبأذواق شتَّى؛ إذ مِن هذا الشراب ما فيه شفاء للناس، وهو ما رواه ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشَرطَة مِحجَم، وكيَّة نار، وأنا أنهى أمتي عن الكيِّ)).

 

إذًا؛ الدليل قائم مِن الكتاب والسنَّة على أن للنحل فائدةً عظيمةً، لكن الأمر لم يتوقَّف عند هذا الحدِّ في بيان روعة الخالق في بثِّ إعجاز دقيق وفريد، تحمل في ثناياه حشرة جميلة في تفصيل قيمتِها الوجودية واستِخلاص عبرة الجدِّ والكَدِّ مِن أجل استِخلاص عسل مُصفًّى، بل يتعدى الأمر إلى مجال الإجرام، أين أصبَحت الجريمة تُشكِّل الانشِغال الرئيسي للدول، محاولة منها في كشف المستور بوسائل أقلَّ تَكلِفة، ولِمَ لا مِن حشرة النحل؟ والتي مِن الفائدة بمكان أن يُطلَق عليها اسم: "النحل البوليسي".

 

فالتكنولوجيات الحديثة وسُرعة تطوُّر الجريمة جعَل مِن المهتمين بعالَم الجريمة - على اختلاف أنواعها، حتى الإرهابية منها - جعلهم يَعكُفون على أبحاث للتصدي للشبكات الإجرامية باللجوء إلى الكيمياء الحيويَّة والبيولوجية، وحتى بالاعتِماد على عِلم الإلكترونيات وتكنولوجيا قياس الحياة بعامِل الزمن، ومردودية الإنسان في المجال الحيوي، لكن ما دخل النحل في الكشف عن المستور؟

 

نعم، هي حقيقة أقرَّها الجيش الأمريكي، والذي يقوم بتدريب النحل والكشف عن الألغام المضادَّة للإنسان باستِشعار مادة (تي - إن - تي)، والتي تدلُّ على وجود اللغم في مكان ما تحت الأرض أو فَوقها.

 

فهناك الملايين مِن الألغام المُضادَّة للبشر حسب إحصائيات الصليب الأحمر الدولي، والتي بلغَت عددًا مهولاً، فالعِراق هي أكثر البلدان تضرُّرًا مِن الألغام في العالم، بينما أفغانستان ما زال فيها حوالي 1.3 ملايين شخص مُعرَّضين لخطر الألغام مَزروعة في حقول مساحتها 600 كم، والمُجتمَع الدولي حاليًّا يَعمل على تنظيفه مِن عشرين عامًا حسب تقرير الأمم المتَّحدة، في نفس الوقت تُعدُّ أمريكا مِن أهم أسباب انتشار هذه الأسلحة في أغلب بلدان العالم؛ بسبب التصنيع والحروب.

 

مِن جهة أخرى دعا الاجتماع الثاني للدول الأطراف في اتفاقية الذخائر العنقودية إلى "عالَم خالٍ مِن الذخائر العنقودية"، وشارَك فيه نحو مائة دولة.

 

ولقد أفاد مسْحٌ عالَمي بتطوُّر استخدام الألغام الأرضية المضادة للأشخاص، ومع هذا التزايد أصبَح البحث عن طريقة للكشف عنها مِن أولى الأولويات، فعلى صعيد آخَر تسبَّبت القنابل العُنقودية في قتل أو تشويه أكثر مِن مائة طِفل في لبنان منذ عام 2006، وعلى صعيدٍ آخَر امتزجَت فيه البراءة مع خدعة اللغَم؛ حيث كان الطفل "محمود أحمد"، والبالغ من العمر تسعة أعوام يلعب بالقرب مِن بيته غرب ليبيا، فإذا به يَعثُر على جسم أخضر اللون فحمله وبدأ بضربه على الأرض في براءة لا تَفهَم في لغة الألغام شيئًا، فانفجر في وجهِه اللغم، وأدَّى إلى قطع ذراعه.

 

هي أمثلة، والأمثلة كثيرة، لكن وفي هذا الصدد فكَّر خبراء البنتاغون في أسلوب استِعمال النحل للكشف عن الألغام، كيف ذلك؟ وهل بمقدور النحل القيام بعملية كشف للمستور من الألغام؟

 

نعم يمكن ذلك؛ إذ في سنة 1998 طرَح الجيش الأمريكي مشروعَين؛ يتمثَّل الأول في تطبيق برامج وأساليب لتدريب النحل على كشف وتحديد مواقع الألغام، والمشروع الثاني في الكشف عن الهجَمات الكيميائية، وفي هذا المشروع لا بدَّ مِن الاستعانة بعالم حشرات لاختيار أقدرها على مثل هذه الألغاز، فوقَع الاختيار على النحلة، لماذا؟

 

لأنَّ للنحلة خصائصَ في قرنَي الاستِشعار مِن وظيفتَي الشمِّ واللمس، بالإضافة إلى غشائيات الأجنحة، فوظيفة الشمِّ لديها دقيقة جدًّا؛ لذلك لجأ الخبراء الأمريكيُّون إلى تدريب النحلة (hymenoptere) بوضع مادَّة بها سكَّر؛ حيث تمدُّ لسانها لتَستكشِف مادة أكلها، وبنفس الطريقة تمَّ تدريبها على اكتشاف مادة (تي - إن - تي)، ويَكفي تدريب نحلة واحدة؛ لتقوم هي بتدريب هذا السلوك لباقي النحل.

 

وانطلاقًا مِن أي حقل به ألغام يكفي لتتبُّع مسار النحل بوضع هوائي مركَّب على ظهر النحلة، وعن بُعْد يُمكن تتبُّع مسارها بجهاز كمبيوتر، غير أن الغابات الكثيفة بالأشجار تُمثِّل عائقًا لتتبُّع أثر النحلة؛ لانقطاع الاتصال بين الهوائي والرادار، وهكذا يتمُّ فقْد النحلة.

 

ومِن الأمثلة الحية رحلة 463 باتجاه زيورخ (سويسرا)؛ حيث إن الطائرة لم تُقلِع مِن المطار بالرغم مِن صفاء السماء، إلا أن هناك بوادر قلق على طاقم الطائرة، بوجود حالة طوارئ مِن أن قنبلة موضوعة في البضائع مودَعة على متن الطائرة، وبعد 15 دقيقة تصل فرقة ميليسا مِن باريس تحمل عتاد الاستكشاف به علبة يُطلق عليها اسم: (boite ab zzz) موصولة بجهاز حاسوب، على الشاشة يظهر 3 رؤوس لنحلات معدَّة للتدخُّل؛ حيث إنها تَستشعِر الرائحة من خلال أنبوب موصَّل بالعلبة، وتمَّ العثور على الحقيبة المجهولِ صاحبُها، وفعلاً تبيَّن وجود مادة البلاستيك الناسف c4، بعدها تدخَّلت الفِرقة لتفكيك المادة المتفجِّرة.

 

أليس الاسم مناسبًا في أن يُصبِح النحل بوليسيًّا يقوم بدور مُشابه لدور المحقِّقين الجنائيِّين للكشف عن الأثر في مسرح الجريمة؟ هل سيَكتفي البشر بالاستفادة مِن عسل النحل لأجل التداوي، أم أنه سيُقحمه في مجالات الثورة البيولوجية والكيميائية في عصرٍ أقلُّ ما يُقال عنه إنه عصر التكنولوجيا والسرعة، ثم هل مِن الإعجاز العِلمي أن يُطلق على النحل اسم يجعله في صدارة وسائل الإثبات الجنائي بفضل تركيبة وظائف التحسُّس والشمِّ لديه؟

 

ربما الحقائق التي يَكتشفها الخبراء والمُحقِّقون تتصدَّرها قرون استِشعار للنحلة حتى يوفِّر الوقت، فقد لا يَهتدي عقل بشريٌّ إلى ما تَهتدي إليه النحلة، أسئلة عديدة لو طُرحت على عالِم حشرات، لأجابنا على الفور: الحشرات فيها العجب، إذا سارعوا لمعرفة العجب في كون العجب بإعجاز عِلمي دقيق.




أضافة تعليق