مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/04/02 14:26
بخلاء في عصر مجنون

بخلاء في عصر مجنون

 

في دبَكات الحلمِ يرقُد في قلبي عنوانٌ للأمل مسجًّى بباقة الورود، أنثرها عبر لقطات الحلم على كلِّ مدخل باب دخلتُه بالأمس طرقت قلوبًا أحببتها كثيرًا ولم أكرهها، ولست كذلك؛ لأني رتَّبت الخواطر فيها بانتقاء مني! سلام لكلِّ مثابر كتب قصائدَ في الأملِ ولم يكن يعيشُه، لكنه كان يسطِّر اللقيا بإصرار، فالحقُّ أنه كان مغامرًا ومجنونًا عند البعض من الناس مَن لم يفهموا لغة التحدِّي والتعب معًا.

 

هل تعرف أيها القارئ ما معنى أن يمتزج على المكافح لغتان اثنتان؛ هما التعب والإصرار فيما فوق التعب؟ إنه العيش بالجنون وبإدراك ممتاز منه، لكنه مصرٌّ على تكملة المشوار حتَّى يحقق الهدف المنشود؛ هي ألوان التحدِّي راحت تنحرف اليوم عن جادَّة الفهم لدى العقول الضيِّقة الفهم، أو بالأحرى من كان استيعابها لعبقريَّة التحدي متوسِّط الفهم.

 

لك أن تطير أيها الصَّبور بجناحَي النَّجاح؛ فاليوم كُتب لك النصر بيديك اللامعتين، وبقَطر العرق التي غسلَت تجاعيد الصبر والضعف فيك حينما كنتَ تخلط أوراقك البريئة، بالمرَّة كنت تُبعثرها لما يطفح بك الكيل، فتفكر في التولي للوراء؛ لأنك بشر، ولست تقدر على الحرب، وزادك لا يكفيك.

 

دعني أسألك سؤالاً مميزًا: ماذا لو كنت تكتب اللَّحظة وشعرت بزلزلة تحت قدمَيك هي حقيقة؟ هل ستفرُّ إلى خارج البيت كما يفعل عامة الناس، أم أنك ستكمل آخر لقطة إبداع توقفت فيها؟ أعتقد أمثالك سيسبحون لحظة ارتعاش الأرض، ويغير موضع الجلوس ليركن للاستغفار الكثير؛ لأنها فاصلة تذكرة في أننا عُرضة لهزات ارتداديَّة كالتي عشتُها منذ أيامٍ في مقر عملي! فركنتُ أنظر لتحرك الأغراض حيث بدأتُ أركز في قدَر الخالق أن الموت قريب جدًّا، وأن مضاربات التحدِّي قد تقف موقفًا نهائيًّا، ولا تكتمل إلا إذا شاء الله أن يكتَمل عمرك بحسب ما قدَّره لك!

 

فهلاَّ رفضت عصر الجنون التافه وتركتَه لأهله؛ من يعشقون الخراب في نهاية كل سنة؟! واترك لجنونك المحمودِ فسيح التحرُّر حينما يشتد عليك الخَطب بلحظات من السداد عند فراغك؛ من إنجاز الأهم في مسعاك لما ناشدت علمًا، أو تفقَّهت في بِر قمت به لوالديك، أو أشفقتَ على مريض لتُشعره أن الأمل يعيش في نبضِ العذاب.

 

صدقًا أحتار لأنواع الجنون، وإني أفضل الجنون المسمَّى بجنون الصمود، لا تسألني: لمَ كل هذا التغريد مني؟ لكني أحبُّ لقطات مميزة ليس يفهمُها عوامُّ الناس؛ ركِّز معي في طوابع الكرَم لحظةَ الجنون، ولا تعش منفردًا أو معزولاً إلا حينما تريد إنجازًا يبهر المعجبين، فأنت في أصلك مميز، ولست تقبل الإنجاز العادي الذي يقوم به أغلبية الناس.

 

لا تكن بخيلاً لو سألوك عن امتِداد الحضارة عندك، اشرَح لهم أنَّ أصلك ينطلق من أساس الحضارة، وبيِّن لهم أن الحضارة لفظٌ، ليس ينتَقيها أيٌّ كان إلا من أحبَّ الخير والطموح العالي لأمته ولبلده ولإخوانه.

 

أنت لستَ ممن يحبون الانفراد بالشُّهرة لأجل الشهرة، أنت سخيٌّ في تذكُّر الغير على اختلاف مستوياتهم؛ لترد القلب إلى نصابه من الحب والتكريم، كم كنت في مخيلتي رقمًا مهمًّا حينما انطلقتَ تبحث عن أوراق ضاعَت منك؛ لتزيد الشرح تفصيلاً فوجدت ضالتك في أدراج مكتبك!

 

هي لقطة انفلات حدثَت لك حينما بدأت تفكر في مصير الأمة جمعاء من منطلقٍ حضاري، وفي مستقبل شبابها من منطلق التحسُّر لما اندفعت هذه الفئة المهمة جدًّا في بناء الصرح، وانغمست في مراسيم الاحتفال بأعيادٍ ليست لنا، لكنَّهم يحبون الحضارة على مقاس الجنون المُغاير لجنون الإنجاز، فبخِلوا على أنفسهم بالإصلاح والعودة إلى الذات الحقيقية بمراجعة الانتماء وأسباب الوجود.

 

لقد زاد بخلُهم بانغماسهم في أغانٍ ومُجون وهدايا نُسجت من ضياع، والغير مِن إخوانهم مشرَّد تقريبًا في كل بقاع الأرض، ويبكي دموع الفقر والمرض بآهات خرصت منذ زمن، هو نوعٌ من الجنون غير مضبوط الرُّؤى والأهداف، وأيُّ جنون يخالف رُزنامة الأمراض المعروفة في قائمة الحصر المعمول بها؟! هي حتمًا أمور دخيلة على الفكر والعبقريَّة المسلمة.

 

ستحتار مثلي حتمًا يا من كان جنونه سويًّا حينما ترقَّب جيلاً مخضرمًا من البنات والأولاد في هندام حقيقة أصبحتُ لا أقدر على فرز ألوانه التي تبثُّ في نفسي اشمئزازًا بحرارة ألوانها القاتمة والتي لم تُختَر بانتظام وبتنسيق وتدرُّج في التراتيب كما تعوَّدَت أعيننا استحسانَه!

 

وفي تسريحات شعر الشباب ألفُ سؤال لي عن مصدر هذه الحضارة الماجنةِ والمجنونة على السواء، أو على الأقل معناها وتسميتها، وإلى أيِّ مبدع تنتمي؟ إن كانت فعلاً تنتمي لقائمة مَن خلَّدهم التاريخ والإنجاز، هل اكتفى هؤلاء بمبادئهم فعرَفوها ثم عقَلوها ثم ترجموها أفعالاً روائعَ؟ أم أنهم تشبَّعوا لدرجة التخمة، وراحوا يبحثون لهم عن جديد لم يفهَموه بالمرَّة؟

 

حاورني لطفًا في الآذان الصمَّاء لكلِّ آدمي اختار له عزلة عن أمِّه وأخته وأبيه؛ ليعيش أحلام اليقظة بجنون البخل الشديد، عبر كوابلَ موصولةٍ بهواتفَ ذكية، وكم كانت ذكيةً حينما قطعَت الوصال بين القلب والعقل؛ ليحل الغناء محل الوصال الحقيقي من صلة الأرحام عن تحمل المسؤوليَّة الفاضلة في التعلم النزيه والقوامة السديدة!

 

صدقًا بدأتُ أرقب انحطاطًا لحضارةٍ قرأنا عنها الكثير، انطلقَت من عند ابن خَلدون وابن بطوطة؛ ليستقر الرِّحال إلى اللهو والتغريب، حاوِرني - بكسر الواو - ولنكسر لجامَ الصمت عن ألسنتنا، واتركنا نكتب بطريقةٍ فيها جنونٌ آخر، ولكنه مضبوط التقاليد، إنه جنون السَّخاء في التكرم، ونقاش شبابنا إن كان المركب قد استقرَّ بهم أم توقَّف في منتصف الطريق، لكني واثقةٌ من أننا لن نلقى إجابةً مقنعة؛ لأن العقول تخدَّرت بانبهار الأضواء الكاسبة لطموح الشباب والفئات الصغيرة المتطلِّعة على حسب ظنِّها إلى مستقبل واعد، ترى هل لنا مستقبل زاهر وسط هذه الفوضى التي خطفَت منا طاقاتٍ هائلةً ومزجَت الطيب والخبيث فجعلَته كالركام المحطَّم ليس يعرف له حقيقة تعيده إلى نصاب التمكين الحقيقي؟!

 

يا ترى كم يلزمُنا من تقنيةٍ تساير هذا التطوُّرَ لكبح جماح هذا الطوفان الجارف والذي جرَف العقول بنكهة الاستمتاع الممرِض، وسلَب القلوب نبضها الحقيقي، فأصبحت لا تتأثر لاهتزاز الأرض دلائلَ لغضب الله عز وجل، ترى هل حضارةُ الجنون هذه جلبَت لنا السخط ونزعت منا البركة في أكلنا ومَجالسنا وبريق السعادة في وجودنا؟ ترى هل سيرورةُ الكون أصبحَت تسير بانتظامٍ في ظل الاحتباس الحراري وتبدُّل جوِّ الشتاء ربيعًا بحرارةٍ تجعل الجنون فينا واضحًا حينما نرتدي ألبسةً ليست تليق بطابع الفصل الذي نحن فيه؟! ترى هل أصبحَت الطيور تغرِّد فرحًا أم لها رنَّة حزن شديدٍ على حال هذه الأمة؟!

 

هل غاب بريقُ الندى بسِحر اللمعان على وُريقات الرَّبيع الزاهية لتُرسل فينا نشوة التجوُّل والخروج إلى منتزَهات الترفيه الجيِّد؟! ترى هل بحَّت أصوات العقلاء وركنوا للراحة قبل موعد الراحة؟ وهل جمُد مِداد الأحرار الأوفياء، واحتبَس بداخل بوتقة القلم لحين إشعار آخر؟! أم أن الكلَّ في عطلة لأنهم مغيبون أو غائبون؟!

 

صدقًا أشعر أنَّ الجنون يُحيط بنا في كلِّ مكان، ولكن الشيء المسلِّي لدي أني - في قمَّة هذا الجنون - أكتب بانتظام ورويَّة حينما أتذكَّر أن الدنيا لا تزال بخير، حينما أجد أوفياءَ مثلكم يقرَؤون ويعلِّقون إما نقدًا أو إعجابًا؛ فتلك دلالةٌ أنَّ قلوبًا في أماكنَ ما تُشاطرنا الرأي أنَّ الجنون مرفوض لدى الحكماء، ولكنه مقبول باقتدار لما يكون موزونًا بإنجاز لهدم حضارةٍ فاشلة.

 

أحمد الله أننا كرماءُ في عصر كثُر فيه البخل، وفي عالمٍ مجنون، كما أحمد الله أنَّ فيه عظماءَ يكدُّون في صمت وجدٍّ ليحطِّموا الأوهام ويزرَعوا بدلها روحَ الوثبة من جديد في النفوس المهزومة.

 

دمتم فضلاءَ في راحة عقولكم النيِّرة، وفي عالم متعقِّل صنعتموه خصِّيصى لكم؛ لتحموا عبقريتكم المتوقِّدة من موجات التَّضليل، وأكسبتم هويتكم بميكانزمات الدِّفاع المضادة لكل أجسام غريبة لا تُترجمها حروفُ لغتكم الأصيلة، والأصل أنكم محصَّنون بالثبات من فواصل الجنون المضيعة، فهنيئًا لكم، وأسأل العليَّ القدير لي ولكم الثَّبات دائمًا.




أضافة تعليق