أرجوحة الصبر
مرات يَحلو لي أن أحمل قلمي وحفيظة أسراري معي؛ لأصعد بهما على مدارج الانعِزال عن أهلي؛ لأخلو بنفسي لبعض الوقت، لست ألبَس اللحظة ساعةَ يدٍ؛ لأني لا أحتمل أن أعدَّ ساعات من عمري في وقت لم أقدر أن أفكَّ شفرات مُعقَّدة، تُنبئ أن كل الناس في حزن، ولست أستثني أحدًا، ما عدا من لم يهمَّه أمر الإسلام والمسلمين، بل قد أضيف إلى مجموعات البشر شجرًا وأزهارًا ومخلوقات تَمشي وتسعى لتعيش ولو تحت دخان المدافع.
سآخُذ نفَسًا عميقًا؛ لأهدأ فيما بعد، ولو أن هذا الهدوء آنيٌّ وليس بالطويل.
سأَجلِس على الأرجوحة الهادئة مثل هدوئي اللحظة؛ لأتطلع إلى أفق الشمس الآيلة للغروب، كم يعجبني هذا المنظر في ختام اليوم من عمري، وكم يبدو منظر الغروب بريئًا وناعمًا، بحثت في ثناياه عن نفسي المتألمة لما يحدث بعيدًا عني من حرب وصخب وضجيج الرصاص.
أصبحتُ في خصام مع شاشة التلفزيون؛ لأجل هذه الأحداث، لكني في وئام مع أرجوحتي، منها انطلقت دوافع الأسى لتجعل مني إنسانًا آخَر، هي آلام الماضي لما طال الظلام على إخواني في حكم مستبد ومتسلِّط، واليوم مع صرخات إماء الرحمن على فلذات أكبادهنَّ وهم يرحلون عن الدنيا في شهادة، هي مساءلات الضمير، أين نحن اليوم من نصرة الحق؟ وأين الحق فينا قولاً وفعلاً وموقفًا؟
لن أتوقَّف عن البوح بما هو بداخل صدري أو قلبي، فالموقع واحد؛ لأني إن توقفتُ سأفقد نكهة الكتابة، ويُصبِح قلمي في حداد على عدد القتلى والجرحى في بلاد الإسلام.
لم أُقرِّر بعد النزول من على الأرجوحة؛ ربما لأني أجد سكينة وطُمأنينة وأنا أتأرجَح عليها ذهابًا للأمام إلى مستقبل مجهول لأمتي، وإيابًا لماضي فيه ملامات كثيرة، أو إن صحَّ التعبير: هي حركات منتظمة تطفئ ألمي، حينما سمعتُ دويَّ المدافع لتُسكِت صراخ الأهالي وهم في منأى عن مساكنهم التي سكنتْها أشباحٌ تحت أنقاض الغدر.
أنا الآن لا أُنشِد أي أنشودة، وأنا لا أزال جالسة على الأرجوحة، وكيف أنشد وإخواني يموتون في مصر وسوريا وبورما وفلسطين؟!
أنا لا أتغنى بالأمل الآن، ليس يأسًا؛ وإنما أؤجل هذا التمني لوقت آخر؛ لأني أفضل الجلوس على الأرجوحة في حداد، هي ليست ملكي ولكن لدي امتياز الجلوس عليها؛ لأني سأَصمُت طويلاً ليَنطلِق فكري إلى موقع آخَر، وحتى لا يَفرمني زحام الصحوة لضيق صدري؛ أصرُّ أن أبقى ساكتة عفوًا صامتة، فبين السكوت والصمت سكتة رهيبة ومُخيفة؛ لأنه لا أحد سيقرأ أفكاري وأنا في صمتي، بالعكس سيَشعُر كل من يريد استِنطاقي أني متألِّمة، وبالتالي يؤجل كل سؤال وأي حديث إلى فرصة أخرى.
لا أحب التأجيل في الواجبات أو عدم التفاؤل بالأمل؛ لكنها متطلبات الحداد على إخواني.
من أرحام الأحزان وُلدوا، من أضحوا اليوم شهداء، ومن خبز التواضُع اقتات هؤلاء، من هم اليوم في انتفاضة لأجل الحق ولأجل تثبيت الحق في مكانه، ومن ماء الينابيع الصافية ارتوَت بطون من اخترقتها اليوم رصاصات التهوُّر، ومِن على أبواب المساجد توجَّهت أقدام بريئة كبَّرت على أداء الصلاة في وقتها ليموت وقتهم إلى غير رجعة، ولو أن للشباب وقتًا آخر لعُمر مستمر، فبكت أركان المساجد من رهيب فراغها ذِكرًا وتسبيحًا وهي من أَلِف سُجادها سجود جباه التقوى؛ لتكون اليوم هذه الجباه مركز الرصاصة القاتلة.
صعب أن يَحدث طلاق أبدي بين لحظات الأُلفة وبين لحظات الفراق، سامحوني إن حزنت اللحظة؛ لكنها الروح تؤيد الروح؛ لأنها توءم من العربية والإسلام.
سامحوني على صمتي ولو أن ما كتبتُ هي خواطري، ترجمتها أفكاري الحبيسة بداخل جوهر مخيلتي، لكن وعد أني سأتحرَّر من صمتي فور مُغادرتي الأرجوحةَ؛ أرجوحة الصبر.