دمعي بوزن طموحي
إن تسرَّب دمعي ووقعت حبّاته أرضًا في غضبٍ للانشطار فُرادى فرادى، فلا تظنَّن أن بي استسلامًا؛ لأني سأرفع رأسي إلى أعلى في رغبة جامحة أن أرى الوجود بكل حنان ورفْقٍ مني، إنها قوتي رغم مظاهر الظلام في أوْج ترسُّباتها على واقعي، قلَّما صدَّقتُ أني مطلوبة حيث تريد أن تُريني جُملاً من الاستفسار واستخلاص النتائج من مجرَّد دموع انسكبت هكذا في فرقة عن عينيَّ، فحتى وإن طال نزولها أظلّ أُفكر في شيء آخر خلال لحظات السكوت هذه، وخلال فترات انزلاقها على خدّي، ربما أنا بصدد التفكير في المَخرج أو المَغزى من مُراودات مَن سمح له قلبه في أن يحبَّ لقطات الحزن لدى الآخرين، إنه التفكير الضيِّق والمُنغلِق على نفسه في أن يَكتفي أن يرى الانهزام لدى المرأة، هو في ذاك التتابع للعبرات فقط، هكذا يتفنَّن عديمو الإحساس في أن يروا بنت حواء في قمة اليأس، ثم من قال لهم: إن هذا الصِّنف الجميل من الناس هو في قمة اليأس؟ بالنِّسبة لي موقِف كهذا هو للتنفيس عن النفس مِن ضيق الخاطِر، فما يُحيط بنا أحيانًا لا يَنفتِح على البعيد سواء في المحيط أو مع حكايات الناس، ثم عبرات الأنثى تزيد في ذكائها توقُّدًا في ألا تأتمِنَ الشر حتى لو لم يَثبُت بعد.
مستعدة أنا أن أبكي طالما وجدت في ذلك تحرُّرًا من كل القيود، مُستعدَّة أنا أن أمسح دمعي وأنهي بكائي في وقت من الأوقات وضمن فرصة من فرص الانفراج، هكذا أنطلق في مواجهة من كان سببًا في بكائي؛ علَّني أصفع تطاولاً ينوي دمارًا شاملاً لكل رقَّة في سلوكي في أني أُحرِّر نفسي وبنفسي.
أظنُّ أنه مَن لا يبكي يكذب على نفسه كثيرًا في أنه ليس بحاجة لذلك؛ لأنه قويٌّ في قمة النشاط والحيوية، طيِّب، وفي مُنعرَج الابتلاء هل ستقول لي إحدى الأخوات: إنها لا تبكي بل هي في صبر واحتساب؟ بدوري أُحيِّي فيها هذا السلوك الحضاريَّ، لكني أرى في نزول تلك العبرات رحمة ورأفة بما تُقابله أيٌّ من أيامى اللهِ من مِحَن، ولو أن العزاء الوحيد هو أن الإسلام كرَّم بنت حواء بمقياس العزة والكرامة إن هي احتسبت وصبرت، صدقًا لدينا حقوق مصونة ولا أحد يستطيع أن يمدَّ يديه ليَنتزِع حقًّا موجودًا أصلاً فينا ليُصبِح مكسبًا وَفْق ما يقرّه ديننا الحنيف.
إذا كنت تبغي أيِّمًا بجهالة
من الناس، فانظر مَن أبوها وخالها
فإنهما منها كما هي منهما
كقدِّك نعلاً إن أريد مثالها
فإن الذي ترجو من المال عندها
سيأتي عليه شُؤمها وخبالها
|
قد أستعير قلمًا لأكتب به، وقد أستعير سيارة لتنقلني إلى حيث أريد، أين سأتوارى من واقع الضغط على أعصابي؟ ولكن لا أحد سيعيرني عيونه لأبكي بها؛ لذلك كانت دموعي هي من كياني المتفاعل مع خطوب الزمن، وبالتالي أي دمعة تنهمر هي بالنسبة لي كالنقطة للحرف، هي مِلكي لأصحِّح بها فكرة أو سلوكًا صدر مني عن خطأ أو عن غير خطأ، هو مسار جديد إلى حيث لا أعرف مَن عرفتهم فيما مضى؛ لأنه دمعي بوزن طموحي وبحجم ما صادفت لأجله عراقيل وصعوبات، ولذلك أنا عازمة على تغيير كل شيء مِن حولي، لستُ أركن لأي ضغوطات لبنود ورَقة الفشل، بل سأُزيحها من دفتر الأمنيات عندي حتى لا تَختلط عليَّ المنايا، فبالدموع نعبِّر عن ألمنا وأسفِنا لما آل إليه واقعنا، ولكن في نفس الوقت نعبِّر به عن حجم الطموح الساكن في فِكرنا إلى حين أن يتحقَّق، وسيتحقَّق طالما توحَّدت العَبرات في أن تنزل تباعًا مثلما ينزل الغيث بعد توحُّد الغَيم!
إنه الرجاء حينما يَكثُر البلاء، إنه السكوت حين يكثر الكلام، فالطموح يسكن أرواحًا هي للغاية متألقة في عُلا العلم بطلب منقطع النظير وبدموع الفرح ليَكتمِل في أوْج تألّقه، إنه الهُيام في تيهِ الإبل حينما لا يرعاها راعيها ليكون الشبه لمن ضلَّ السبيل، فنصرُّ على المقصد والمتَّجَه من الطريق في البداية حتى لا نظلَّ أو يظل بنا.
لسْنا دعاة الفناء، لكننا إذا ابتُلينا نلتقي صفًّا موحَّدًا - نحن الصامدات - لنخوض بحر الموت سعيًا للحياة، ومَن له الشجاعة في ركوب الغرق من فوق حطام سفينة التجربة؟ هو في الحقيقة مُغامَرة لنَيل الخلاص؛ لذلك أنا أدرى بنفسي وبقيمة دمعي في أنه يفسِّر عني لوعة الشوق في رجاء للأمل بعد تقاطُع الصعوبات والتواء المُنعرَجات.
لذلك لستُ أشعر بالأمان إلا وأنا أستمدُّ قوَّتي من دمعي، وحده من يُواسيني حينما يكثر التأويل عن مَدعاة غضبي، لكني وحدي من يعزف ألحاني على شفا حافة النقد في أني أشعر وأحس بكل مَن تترك للدمع سبيلاً لتُحرِّر نفسها من ظلام الوحدة، ولكل من تكون لها الدمعة مدعاة للملل أقول لها:
أختي، كوني أقدر على البكاء حينما يشتدُّ الكرب، ولكن أبدًا لا تستحي في أن يلومك أحد على نزول عبرات من غير كدر، فما صفَتِ الحياة يومًا لشارب، ولا طلعت شمس ولا غربَت إلا وذِكرُ الله مقرون بأنفاس هي لنا دواء، ولا شربْنا لذيذ الماء عن ظمأ إلا ووجدت أثر دمعي في كأسي، ولا جلستُ إلى قوم أحدِّثهم إلا وكان لمعان الدمعة يُسابقني في التعبير عما في صدري، فليس العيب في البكاء؛ لأنه يوزن بميزان الطموح، إنما العيب فيمَن يحب أن يراني أبكي ليتسلى بفكرة أني أضعف مخلوق لحظتها... ويَبقى أني ما استحضرت خيال التفوق والنجاح إلا وأطرقت بالتفكير في دموع الفرح؛ لذلك دمعي هو بوزن طموحي، ولستُ أخشى نقدًا أثناء بكائي؛ لأن ما بعد الفرج أعظم... وليس كل بكاء هو دلالة على الضعف، فما خفي من النوايا أعظم، ومن كان له الله ناصرًا فتلك بحق جائزة الفرح بدموع قدَّت من استماتة منقطعة النظير؛ ليكون الدمع بوزن الطموح كنزول الشلال من تلِّ الارتفاع فيُعطي مع قوس قزح أجمل صورة للإبداع.