الاهتمام بالبحث العلمي كأساس أكيد للنهضة
لم أكن أعرف أنني سأتكلمُ عن موضوعِ الإشراف على رسائل المتخرجين، مهما كانتْ درجة نيلهم للتشريف بعد مناقشة رسائلهم، سواء كانتْ رسائل ماجستير أو دكتوراه، وفي الحقيقة هو واقعٌ صعب جدًّا على الصَّعِيدَين: المعنوي والفيسيولوجي، وبالأخص المعنوي.
فلا بد بالبدء بالمعنويات التي تبني ثقةَ الباحث، على كلِّ مَن أقبل على مرحلة المناقشة لنيل رتبة الماجستير أو الدكتوراه؛ فالمعنوياتُ يَبنيها ويُشكِّلها ويُكوِّر محتواها المشرفُ على الباحث؛ لأنَّ الباحث يكون في معنويَّاتٍ مذبذَبة، يَسودها الكثيرُ من التوجُّس والتوتُّر؛ نظرًا لما يتطلَّبه إنجازُ البحث مِن جهدٍ كبيرٍ، ودقَّة في تحرِّي المعلومة بأمانةٍ علمية متناهية الأبعاد، سواء في مصدرها أو معرفة صاحبها الأوَّل المنسوب له تلك المعلومة، وهنا يبرز دَور المُشرف في الاحتواء الجيد للباحث، خاصَّة من ناحية المعنويَّات والاستقرار النفسي طوال فترة إنجاز مشروع البحث، بالإضافة إلى ضرورة توفُّر جوٍّ مستقرٍّ ومكثَّف في الوسائل والمراجع لنجاح البحث العلمي؛ سواء في البيت، أو في المكتبة الجامعيَّةِ، أو في أيِّ مكتبةٍ تابعة لمركزٍ أو معهد، أو غيره مِن مُلحقات التعليم.
فالباحثُ كالمحارب؛ يجوبُ بحارَ الكتب والمؤلفات، ويطالعها بعينٍ مبصِرة، وعقلٍ متدبِّر، وعليه أن يلتزم بأوقات الإنجاز بحسب فتراتِ التسجيل التي يكرِّرها مع كلِّ فصلٍ دراسي، وخلال هذه الرحلة تنشأ علاقةُ صداقة علميَّة بين الباحث والمُشرف؛ فيصبحان على بساط واحدٍ من التحدِّي وتحمُّلِ المسؤولية؛ لإنجاز مشروع البحث في الوقت المناسب، هذا حينما تكون وتيرة العمل لا تُعَرْقِلها صعوبات أو عراقيل، والتي - من خلال تجربتي - صنفتُها ضمن العراقيل المُخْتَلَقة أو المصنوعة عمدًا لكسْر طُموح الطالب؛ فمثلاً: عنوانٌ يختاره الباحثُ، ويَقبله مركزُ تصنيف البحوث عبر جهاز الإعلام الآلي، وبعدها يُرفض مِن هيئة المجلس العلمي بدون مبرِّر؛ حيث تكرَّر الرفضُ معي بعد أن اخترتُ بحثًا ورُفض من غير توضيحٍ لسبب الرفض، فرُحتُ أفكِّر في بحث آخر، واقترحتُ عنوانًا جديدًا، وقَبِله برنامجُ البحوث عبر جهازِ الإعلام الآلي، ليصل مرَّة أخرى إلى لجنة المجلس العلمي، ويُرفض للمرة الثانية بحجَّة أنه مكرَّر.
ولو أن الأستاذة المشْرفة أبدَت موافقتها فلن يكون مكرَّرًا على الإطلاق، فشعرتُ بانتكاسةٍ في المعنويات، وابتعدتُ فترةً عن أجواء الجامعة والضغوطات حتى لا أتأثَّر أكثر، وكلمتُ الدكتورة المشرفة وأخبرتها بأني سألغِي اشتراكي في البحث لهذه السَّنةِ؛ لأني أرى أن معنوياتي ليستْ كما يجب، فكانتْ أن شجَّعَتني، واقترحَت عليَّ عنوانًا ثالثًا ليُقبَل بعد مدٍّ وجَزرٍ، وكنتُ آخرَ المسجلين في كتابة بحث التخرُّج لنيل شهادة الماجستير، وكان بحثًا صعبًا في صياغة خُطَّتِه؛ لأنه ليست لديَّ مراجعُ كافية، ولا أدنى فكرة عن الموضوع؛ فهو جديدٌ بالنسبة لي لأنه لم يكن الموضوع الذي اخترتُه في البداية، فانطلقتُ في رحلة جَمْع المعلومات، وسؤالِ المختصِّين في الميدان، والذين كانوا يُعَدُّون على الأصابع في الجامعة الجزائرية، حتى تواصلي مع أساتذةٍ خارجَ البلد كان غير متاحٍ لي بشكل موسَّع؛ نظرًا لضيق وقتي، والتزامي بالعمل في الإدارة، فكان أنْ بذلتُ جهدًا جهيدًا حتى تضرَّرتُ معنويًّا ونفسيًّا من مشقة التحصيل، وإني أتفهَّم مُعاناة وتضحيات الكثير من الأساتذةِ والباحثين في سبيل تقديم فائدة علميَّة تكون مرجعًا للأجيال الصاعدة والطامحة لتحصيل المميَّز والفريد من البحوث.
وفي الحقيقة وجدتُ نفسي وحدي أسعى بجهد ضعيفٍ لإتمام المشروع، حتى التشجيع لم يكن في مستوى حاجتي لأتقوَّى بمعنوياتٍ تدفعني بثقة كبيرةٍ في النفس، فكان عوني هو اللهُ، ومجهودي مع مجهود الأستاذة المُشْرِفة.
ولا أخفي أنه كانتْ هناك لحظاتٌ تردَّدتُ فيها، حتى كدتُ لا أُكمل المشروع بسبب ظرفي الصحِّي الذي لم يمنحني القوَّة الكافية، فكنتُ أكتبُ بأوجاعٍ سببها الإحباطُ من الوسط الجامعي الذي لم يقدِّم التسهيلات اللازمة لمساعدة الباحث في العمل المُريح والمطمئن.
أضِف إلى هذا أنه حينما تكون بعض المراجع مُنعَدِمةً باللغة العربية فإن هذا يعدُّ مشكلاً لبعض أنواع البحوث الذي يغلب عليها الطابع العلمي، والتي تحتاجُ إلى ترجمةٍ دقيقة في المصطلحات والمفاهيم، وكذلك وجود الفراغات القانونية والأدبية التي تجعلُ من البحث صورة مجزَّأةً أو مصغَّرة غير مكتملة مِن حيثُ الإقناع والحجِّية؛ ما يجعل الباحثَ ينتقل إلى التجربة الأجنبية في محاولةٍ منه لسدِّ ذلك الفراغ العلمي الموجود.
فمن المفترض أن يكون زَخم المكتبات منوعًا بالمراجع العلمية وبشتَّى اللغات، حتى لا يضطر الباحثُ إلى السفر بحثًا عن مراجعَ لبحثه، كما أنه يجبُ أن تُغَيَّرَ القوانين عبر تعديلاتٍ دوريَّة لتلبية الحاجة الملحَّة للاستدلال بالقانون فيما يخصُّ البحوثَ القانونية، والتي يكتمل نصاب الإنجاز فيها بدعم مواد قانونية تمنع الظنَّ أو الشكَّ في قضية معينة؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى لاحظتُ تَباطؤًا كبيرًا في وتيرة العمل، وعقدَ اجتماعات دورية من شأنها تعطيل تمريرِ مشاريع الماجستير أو الدكتوراه، فيشعر الباحثُ أن الوقت يفرُّ منه وأنه لم يقم بأيِّ شيء يعود عليه بالفائدة.
كما أني لاحظتُ عدم إيلاء الأهمية المستحقَّة للبحوث الجديدة وإعطائِها نفَسًا متجدِّدًا من الدعم ليستمرَّ البحثُ في وتيرةِ التحديث، بغَرَض ترقيةِ الجامعة أو الكلية إلى مستوًى راقٍ من التحصيل العلمي، فحتى غياب ترقيم المكتبات وألسنة هياكل الجامعة تُفقد الهيكلَ أو الحرمَ الجامعي أدبيات العلم؛ فيتيه الطالبُ بين وَيلات اليأس والإحباط، ويشعر أن ما يقوم به ليس له أهمية أو غاية، بل حتى وجودُه لا قيمةَ له على مقاعد المكتبة، وهذا من شأنه أن يؤثِّر على معنويَّاته، فيختار بحوثًا مكرَّرة أو سهلةً، وإن سألتَه عن السبب يقول: إن بحثه سيُرَتَّب في رفوف الأرشيف، ولن تكون له أهمية!
إن نهضة أية أمَّة لا بد أن تكون في العلم، فالأمَّةُ التي تُولي أهميةً لعلمها وباحثيها وعلمائها تَحظَى بتفوُّق رِيادي في الإنتاجية والتطورِ والنهضة الأكيدة؛ لأنها تستقِي بنودَ الحضارة من البحث العلمي مهما تنوعَت تخصُّصاته، والدَّولةُ التي لا تخصِّص ميزانياتٍ ضَخمة للبحث العلمي هي دولةٌ مُستهلِكة ومتهاونة، وتعتمدُ على ما تستورده من مستهلكاتٍ، وتعجز عن الإنتاج لتواكُلِها على غيرها، على الرغم من أنها تملك مقومات ودوافعَ المنافسة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية.
فنجاحُ أيِّ مشروعٍ يبدأُ من أبجديات التعامُل؛ إذ كلما حظي البحثُ العلمي بأبجدياتٍ منتظمة ومرتَّبة في أساسيَّاتها حظيَت الجامعةُ بزحفٍ تدريجي، بل ومتطوِّر عبر سنوات الجدِّ والعمل المتفاني، فتغييرُ الذِّهنيات مطلبٌ أساسي للتحضُّر، بدلاً من أن تُكْسَرَ إرادةُ الباحث في تحصيله للعلم، ويجب الانتباه إلى الهدف الأسمَى مِن دور المعاهد والجامعات بدلاً من تبديد الأموال في مظاهر لا تمتُّ بصلةٍ إلى العلم، فضلاً عن الاهتمام بشريحة الطلبة والباحثين المميَّزين والذين يعوَّل عليهم في الدُّول المتقدمة؛ حيث تخصص لهم أماكن للسكن خاصةً بهم وحدهم، وتُقدم لهم تسهيلات في طريقة التعاطي مع الحياة.
حفظ الوقت والذاكرة والروح من اليأس، هو التخطيطُ الممتاز لصيانة الكيان البشريِّ المنتج بعقلٍ ذكيٍّ ومخترع.
تُرى متى نصلُ إلى رُتبة المصداقيَّة والعمل الجاد، بعيدًا عن إيماءات التمويه والتضليل في أنَّ كل شيء على ما يرام؟! والأصحُّ أن ما وراء الجدران ينطق بحقائقَ مغايرة.
نكمل إن شاء الله..