هل يولد المجرم مجرمًا بالفطرة؟
أذكُر قبل سنتين أنني كنتُ أتابع في الكليَّة محاضرةً عن ظاهرة الجريمة وطُرُق ردْعِ المجرم بعقوبةِ الإعدام إذا تعلَّق الأمرُ بجريمة قتْلٍ مع سَبْق الإصرار والترصُّد، وتوفُّر نيَّة ارتكاب الفعل المجرِم، فشرَدْتُ في التفكير عن أسباب ارتكاب الأشخاص لجرائمَ عنيفةٍ، توحِي وتترجَم على أنها شراسَة النَّفس البشريَّة في الانتقام، فكان أن وجَّهتُ سؤالاً للأستاذة المحاضِرة كما يلي: هل يُولَد المجرمُ مُجرمًا بالفطرة؟
فسكتَت طويلاً الأستاذةُ لتجيبني: ربما نعم، وربما لا، وهنا طرحتُ سؤالاً آخر:
إن كان نعم، فهل للجينات دورٌ في توجيه السلوك الإنساني نحو العنفِ، ولو أنَّنا لسنا عبيدًا لجيناتنا، بل أحيانًا الظروف هي مَن توجِّه السلوكَ لتغيِّرَه عن مَنْحاه؟
فردَّت عليَّ: إن هذا السؤال يحتاج إلى تعمُّق في دراسة الجينات بالأدلَّة العلمية، واكتفَت بالقول: إن الظروف توجِّه السلوكَ الإنساني وتدفعه إلى الانتقام.
فهمتُ شطرًا من الإجابة، ولم أفهم الباقي؛ لأني لم أقتنِع أن الإنسان يُولد بالفطرة مجرمًا، بسبب الكيمياء التي يحتويها جسمُه، فرحتُ أطالع وأسألُ مِن حينٍ لآخر، فكان أن طالعتُ بعضَ الكتب علَّني أجد ضالَّتي؛ فمثلاً للطبيب الإيطالي وعالمِ الجريمة الشهير "تشيزدي لومبروزو"؛ الذي أنشأ المدرسةَ الوضعية التي تختصُّ بنظريات السلوك الإجرامي، فهذا العالِمُ يرى في كتابِه الشَّهير "الإنسان والمجرم" أنه انتهى إلى نتيجتين في تفسير سببِ الإجرام لدى القائم بالفعل المجرم قانونًا، وهما:
أولاً: أن هناك خَلَلاً عضويًّا يجعل الإنسانَ يشعر بداخله بمركب النقص؛ فيرتكب الجريمةَ؛ كأن يكونَ ضيِّق الجبهة، أو لديه شذوذٌ في تركيب أسنانِه، أو اعوجاجٌ في أنفه، أو قِصر غير عادي في أذنيه.
ثانيًا: أن المجرم يتميَّز ببعض الصفات النفسيَّة التي نشأَت من تكوينٍ نفسيٍّ مربِك لشخصيته؛ كأن يكون ضعيف الإحساس بالألم مثلاً؛ فتصبح الجريمة لديه شيئًا عاديًّا؛ بل حتى ظاهرة العود إلى ارتكاب الجريمة تمثِّل لديه أمرًا روتينيًّا ليس لديه رادعٌ لذلك؛ بسبب افتقادِه الإحساس بتأنيب الضمير، وهذا خللٌ نفسي واضح في أثره، وعليه يكون "لومبروزو" قد انتهى إلى أن الإنسان الذي توجد فيه إحدى الصفات المذكورة آنفًا هو مجرمٌ بالميلاد؛ أي: مجرم بالفطرة؛ هذا مِن جهة.
ومن جهةٍ أخرى؛ فإن علماء الاجتماع يَرَوْنَ أن الجريمة ظاهرةٌ اجتماعية.
وبالمفهوم القانوني: فإنَّ للجريمة تعريفاتٍ عديدةً منها بالمعنى الواسع؛ أنها كلُّ مخالَفةٍ لقاعدةٍ من قواعد القانون المنظِّم لسلوكِ المجتمع، هذا القانون يوجِّه السلوكَ بما يكفل احترام حقوقِ الغير وعدم المساس بكيانِهم الإنساني، وكل ما هو لصيقٌ بالشخصية الإنسانية.
أما علم الإجرام فهو:
العلمُ الذي يدرس الظاهرةَ الإجرامية؛ لمعرفة الأسباب الدافعة لارتكابِها، وكذا العوامل المساعدة على ذلك، وبالتالي مُحاولة احتوائِها بما يُساعد على التقليل منها، وإن كان القضاء عليها نهائيًّا يكون مستحيلاً؛ بسبب تفاعلِ الوسط البشري بظروفٍ ومعطيات قد تخلُّ بالتوازنِ المجتمعي، فتدفع بالإنسان لدَرْءِ الخطر عنه؛ وهو ما يسمَّى دفاعًا عن النفس، مما قد يُلحق الضررَ والأذى لدرجة ارتكاب جريمةٍ وبعنف، وإن كان البادئ أظلمَ في إِثارة نزعة الانتقام لاقتصاصِ الحق المسلوب.
إذًا فهي مفاهيم منطقيَّة تعود لعقلٍ بشري يسعى لدراسة الظاهرة؛ لمعرفةِ الأسباب، وإيجادِ الحلول الرادعة، وأولها: تطبيق القانون بعد عقد محاكماتٍ يُفترض أنها عادلة.
ولو أن هذه المسائل في هذا العصر - بقدرٍ ما - وُجدتْ لها أدلَّة علمية ومادية، والتي هي بمثابة حلولٍ أو نتائج لافتِكاك عُقدة الجريمة من مسرحِ الجريمة، أو من أيِّ مكانٍ آخر له صلة بالفعل المرتكَب، إلا أن عواملَ أخرى يَصْعُب تحرِّيها وسط تضارُب وتسابُق المعرفة القانونية والمجتمعيَّة، التي تتفاعل فيما بينها لاستخلاص دليلٍ يدلِي بدلوِه، فيستقيم وفقه ميزانُ العدالة، وإن كان هذا أمرًا صعبًا للغاية؛ لماذا؟
بدايةً ((الإنسان يُولَد على الفطرة؛ فأَبَواه يهوِّدانه، أو يمجِّسانه، أو ينصِّرانه))، ويتبع في ذلك ملَّة تحدِّد له نسَقًا للحياة، فينشأ إما مستقيمًا، وإمَّا منحرفًا على حسب البيئة التي نشأ فيها، ضِف إلى ذلك أن الإنسانَ قد يُولد على الفطرةِ المسلمةِ، فينشأ ذا خُلُقٍ رفيع واستقامةٍ وجيهة، تجعل مِن سُلوكِه محلَّ رضا المحيط المجتمعيِّ على اختلافِ درجةِ القرابة والصِّلَة، لكن أحيانًا يُصادف هذا الشخصُ المتخلِّق ظروفًا قاهرة، أقول: قاهرة؛ كفقدانه لعزيزٍ عليه، أو تعرُّضه لنائبةٍ مِن النوائب؛ كحادثٍ مروري كان هو السبب في مقْتَل مَن كان راكبًا معه، فتنشأ العُقدة النفسيَّة وينحرف السلوك بسبب الشعور بالذنب، فهو يضع نفسَه في دائرة الإجرام؛ لأنه كان السبب في الحادِث المفضي للموت، أو أن يتعرَّض الشخصُ المتوازن الشخصية ذو الطِّباع الهادئة والمتخلِّقة لهزَّاتِ مظالم عدِيدة فترتَبِك العزيمةُ فيه، وتُفقده السيطرةَ على نَسق الحياة المعتدل بسبب جور الأسرةِ أحيانًا، وهو ما يشكِّل عاملاً قويًّا للانحراف، على عكس ما كان متوقعًا أن يكون هذا الحضن هو المتفهِّم الأوَّل والمعالِج بدلَ الطبيب، والدافِع بدل المحامي، فيصبح مَلاذُ هذا الشخص هو سَعيه لإثباتِ ذاته، خاصَّة إِنْ ضَعُفَ إيمانُه ولم يجد له بدًّا أو متنفسًا من تلك الضغوطات إلا طريق الجريمة لإثبات فكرةِ الانتقام، فيذوق الغيرُ ما تذوَّقه هو لملْء فجوةِ الفراغ العاطفي المفقود؛ فيختل المجتمع، وتضيع القِيَم بين أصحاب القِيَم، فهل يستحقُّ هذا الشخصُ سجنًا مدى العمر، أو إعدامًا كعقوبة نافذة في حقِّه؟ وإن كان هدف المحاكمة العادلة هو تحرِّي الأدلة إلا الحقيقة!
فهل مجرى القانون تُتَّخَذ له دراسة كلِّ الأسباب المفضية إلى الجريمة، بتجانُسٍ مع علمِ الاجتماع والقانون وعلمِ الإجرام الحاوي لهما؛ لاستخلاص عصارةِ الحقيقة وتكيِيف الواقعةِ التكيِيف المستحقَّ لها؟ وهل هذا المجرم المصنَّف في خانَةِ المجرم المتعمِّد كان مجرمًا بالفطرة، وأنَّ الظروف هي التي أظهرَتْ فيه هذه العلَّة المتستِّرة بتكالُب ظروفِ الظُّلم والجَوْر والحرمان؟
لست أُدافع عن فكرةِ تبرئة الجريمة أنها لم تكن مقصودةً، ولا بتبرئةِ الجاني أنه لم يكن مجرمًا بالفطرة؛ بقدر ما أحاول فهمَ حقيقة الجُرم وأسبابه وعوامله، فهل هي كلُّها تنسب للشَّخصِ المجرم وفقط؟ أو أن المجتمع يكون سببًا مباشرًا من أسباب الانحراف، وبالتالييُصبح المجتمع حاويًا ودافعًا للجريمة في آنٍ واحد؟ وإن كان كذلك، فما عقوبة المجتمع هنا إن أردنا فعلاً تطبيقَ محاكمة عادِلَة، والتي نادَت بها كلُّ قوانين الدنيا؟ علمًا بأن المجتمع في مفهومِه هو: مزيجُ تفاعلِ الأفراد مع الظروفِ بسبب ضرورةِ التواصل والاحتكاكِ بالغير كسنَّة مجتمعية نشأ عليها الإنسانُ منذ القِدَم.
ثم هل مواد قانون العقوبات تستمدُّ لها خُلاصة العدلِ من الحقيقة النائمةِ بداخل المجتمع؟ أو من حقيقة تركيبةِ المجرِم النفسيَّة والفيسيولوجية؟ أو من تركيبة طبقاتِ المجتمع التي صنعَت لها طبقيَّة مميزة؛ ترخِّص لبعض الأرستقراطيين ارتكاب الجريمة دونما عقابٍ، وبالتالي فالجريمة هنا هي حقٌّ مشروع لهم؛ للتمتُّع بالسيطرة على القوة والمال معًا؟ أو إنها سلاحٌ للثَّأر للطبقة المحرومة والفقيرةِ لتلغِي عنها كلَّ انتسابٍ لطبقةِ الفقر، ولو بغلافِ التظاهر بالغِنى المموِّه للواقع، فتصبح الجريمةُ مكسبًا حقوقيًّا للاسترزاق؛ كالسرقة مثلاً؟
وهل قوامة المجتمع تستعيد عافيتَها بالتقليل من الجريمةِ؛ بتقوية الوازعِ الديني بضرورة تبجيلِ مبادئ الإيمان والقناعة والصبرِ على الابتلاء من غير سخطٍ، والرِّضا بما قسمه اللهُ بنفسٍ طائعة مخشوشنة؟
أظن أن فكرة الإجرامِ في حدِّ ذاتِها بحاجةٍ إلى إعادةِ دراسة وتكييفٍ صحيحٍ بمنطقٍ قرآنيٍّ سَمْح، من خلال تفسير النصوص التي تخدم التشريفَ الإنساني ككيانٍ آدمي شرَّفه اللهُ بالعقل، وميَّزه عن باقي المخلوقات للتميِيز بين الحلالِ والحرام، بين الخطأ والصحيح، بين النافعِ والضارِّ، وبما يربِّي فيه النفسَ والروح معًا؛ فيمتزج الصبرُ والرِّضا والتقوى؛ ليكون خير علاجٍ لظاهرةِ الجريمة.
أي: البدْء بفكرة الإصلاح الفرديِّ ليتعدَّاه إلى إصلاحٍ مجتمعي عبر مؤسَّسات عقابيَّة مغلَقَة أو نصف مغلقة، ومصحَّات نفسيَّة تُسهم بما يجب في الجانب المرضيِّ، ثم بعدها يُوضع الشخصُ الجاني تحتَ المراقبة السلوكيَّة، فلربَّما يخرج مِن صُلبه ما يكون خيرًا للعباد وللأمَم، بدلًا من تطبيق أحكامِ الإعدام، دون المرور بمحاكماتٍ عادلة تنصف البريءَ وتدين المتَّهمَ الحقيقي، حتى لو كانت الأسرة في حدِّ ذاتها أو المجتمع، فالفأسُ العادلة لا تسقطُ على رأسِ من ارتكبَ الفعل المجرِمَ؛ لأنه ارتكب مخالفةً لقانونٍ وضعي وكفى، وإنما العدالةُ تحتاج لبصيرةٍ فذَّة تفتِّش وتتحرَّى وتناقش وتحاور، وتأخذ لها وقتًا حتى تظهر الحقيقة بأدلَّة دامغة.
بعد هذا السردِ يبقى سؤالي، يبقى دومًا كما هو، في ظلِّ عولمةٍ ماجنة وعصرٍ سريعِ الخُطى، يبحث له عن الميسور والسهلِ ولو بالخطأ: هل المجرم يولد مجرمًا بالفطرة؟
ذلكم هو سؤالي وأتمنَّى أن أجد الجوابَ الشافي والمقنِع، وأتمنَّاه ليس عبرَ دواليب المحاكم، وإنَّما بفكرةٍ يصنعها عقلٌ منصِف، وروحٌ طاهرة، وقلبٌ مؤمن، يحبُّ الحقَّ ويكره الباطلَ، وأتمنى أن يكونَ الجواب مِن شخصية إنسانيةٍ ظُلمت هي الأخرى يومًا ما، وشربَت من كأسِ الحرمان؛ وبالتأكيد لن تميل إلى أيِّ كفَّةٍ، ما عدا كفَّة الحقِّ والعدلِ معًا.