فتوحات أم ميولات؟
أشعر بالدفْء في الشتاء، وبعرق يتصبب على جبيني في امتياز لإحساسي أن الوقت ليس يمنحني قوة كالسابق، لكن أعشق القوة ولو في ضعف؛ لركيزة أفكاري، أشعُر بوقار في مشيتي وأنا بعدُ لم أستعِدْ كامل قواي التنظيمية لدأب الخطى وحركة الأيدي، ربما لأن الجهد يتوقف هنا حيث أردت أن أبدو أكثر صلابة وأكثر اندفاعًا، لكنه الميزان المضبوط لعمر السنين التي خلت وأخذت مني طلاقة وسماحة وعنفوانًا في التسامح ولو على ضيق صدري الذي استوعب الكل، أو ربما هي بداية التثقف لمرحلة ما بعد اليقظة من رخوة المرض ولزومية المشي بهدوء، حتى لو كان من يحيط بي يسرع السباق ليصل للمقدمة في أقصر مدة وبأقل تكلفة من التخطيط، لست أقدر، ولكن بإمكاني أن أقدر على اختزال المسافات الطويلة بعد أن فهمت ردود أفعال كثيرة توَّجَت بصيرتي إلى فتح باب الخلاص بسلام وبثقة كبيرة مني أن لا شيء يخيف بعد محنة ألمَّت بي، هي الروعة في وصف مُتغيِّرات الحال وثوابت القرارات وصدق نبضات القلب أن العودة والطمأنينة هي بجوار الله.
حالت بيني وبين الطموحات ظروف قاهرة أضعفت عزيمتي وكسرت شراع سفينتي، فلم أقدر كربَّان أن أتحكم في قيادتها نحو الوجهة الخلفية للاحتماء من عواصِفِ الفِتَن والأكاذيب، لكني كنت مجبرة على إدارة الوقت فيها بشق الأنفس حتى لا تنفلت الأمور من يدي، فكانت السفينة تَميل بثقل كبير لكي لا تثبت على وسطية في التحمل، ما جعلني أغيِّر اتجاهَها إلى اتجاه آخر أتعبَني في تحصيل الطريق الصحيح، إلى أن هبَّت عاصفة قويَّة أدخلتني في دوامة الصراع بين أن أنجوَ أوْ لا، فكان العِراك مُستلزمًا لي.
أخطأت كثيرًا في الاتجاه لكن باستمرار المحاولات التي بدَتْ فاشلة، في الأول أدرتْ مِقوَد القيادة نحو وجهة كانت بالنسبة لي آخر ورقة لعبتُها مع التيار الجارف لطموحي، أعترف أنه هزَّني فوق الأمواج لتَتقاذف حروفي حيثما أراد لها غضب البحر أن يستقرَّ بها المطاف، فكان لزامًا عليَّ أن أنتشِلَ نفسي مِن موت حقيقي لإرادة كادَت تُلغي لديَّ كل مواعيد الأمل، فمرة أقول: اليوم خير من الأمس، ومرَّة أقول: لا، لا، الغد سيكون أفضل بإذن الله، وبين أن يكون وما يجب أن يكون ترددتُ كثيرًا في دخول هذه المغامَرة وركوب الخطر، لكن كان لا بدَّ منه في آخر قرار لي أنَّ الخلاص الوحيد هو ما كان في أضعف مُحاوَلة وأيسر طريقة لتطبيقها؛ لأنَّ العدة بالنسبة لي مُنتهيَة الصلاحية، ووسيلة ضبْط رزنامة قيادة سفينتي لم تعد مدروسة الأبعاد؛ لأنَّ الموقف كان أكثر ضغطًا عليَّ، في مُجملها هي تراكُمات لسنين بدأتُ أفكِّك عقد الضريبة بيدي؛ لأنَّ ربان السفينة هي أنا، وحتَّى لو وجد مَن يَنوبني في قيادتها سيَفتقد للكثير من الصبر والاستماتة، وهو ما كان مطلوبًا مني في لقطة انفِلات، وليتصور كل واحد هذه اللقطة الحرجة والخطيرة، فهل فعلاً ستكون النجاة، وهنا مكمَنُ الشكِّ والتخمين فيما إن كان شعاع النور الذي بدا واضحًا هو معبر عن فتوحات المحنة لتتحول إلى منحة، أو ربما هي الاهتداء أخيرًا إلى شاطئ النهاية للمشاكل والصراعات والقلق والتوتر ومزاحمة الفضوليين المستطلعين على الجديد عن حال السفينة فيما إن كانت غرقت أو رست أو ركنت، فبين الرسو والركون فاصل ضمان وأمان أن المنتهي انتهى، والغاية تحقَّقت، والهدف ارتسمت ملامحه في الأفق، وقد يكون ما توصَّلت إليه من نتيجة أنها مجرد ميولات لإرادتي في أن كل شيء على ما يرام، ولا داعي للتوتر في تحصيل النتائج المرضية؛ لأن ما يهم هو خلاص الروح والجسد والباقي يعوض ويجدَّد، كم سأبدو سخيفة لو فكَّرتُ بمنطق الازدواجية في الشخصية؛ لأن لا شيء يحطم الإيمان والثقة وحسن الظن بالله مثل أن يفكر الواحد منا بمنطقين ليعيش خيالاً من الطمأنينة، والواقع غير ذلك، أو ليلغي ويلات الفشل ويعوِّضها بأحلام اليقَظة، وكل ذلك مُضعِف للعزيمة، ومخذِّل للمقصود والمَنشود من طول الكفاح والصراع المتجاذب بين أن أثبت أو لا، لكنَّها رحمة الله ولطْفُه هما مِن يَزرع فينا القوة والتشبُّث بحبله المتين الذي كلما اشتدَّ التمسُّك به حافظْنا على ثبات المركب والراكب، لذلك فكرت في البداية أنها ميولات، لكنها كانت بوادر فتوحات لما ألغيت الشخصية الثانية، واكتفيت بشخصية اليقين وحسن الظن بالله أن بعد العسر يُسرًا، ولن يغلب عسر يسرَين، فلنُحسن الظن بالله، ولا داعي لضرب الأخماس في الأسداس، وفتح المجال أمام هلوسة تزرَع فينا الشك والضياع بعد تذبذب في الإحساس والثقة، فلا تخشوا على سفنكم حينما تعبث بها أمواج الخداع والمكر، بل ناموا على تسبيح في القلب وترتيل لآيات القرآن بلسان عربي فصيح تحت نور خافت؛ لتسكن الطمأنينة في قلوبكم، وستَجِدون حقيبة أسراركم مع الغروب أنها نجَت مع السفينة حينما حفظكم الله ورعاكم، فهل حافظتم على فنِّ القيادة في الحياةبحسن الظن بالله؟!
ولتحقيق ذلك يجب عدم المبالاة بالفوضى محيطة بنا من كل صوب، ولا ننسى أن الربان الماهر تظهر قيادته البارعة أثناء هبوب العواصف وتمازُج الظلام مع الوحدة، لكن لا خوف مع الله ولا فشل مع اليَقين، ولا ضياع مع الاستغفار، ولا تردُّد مع حسن التوكل، هو درس تعلمته وأنا أقود سفينة المغامرة للنجاة من إحدى الأزمات... دمتم أقوياء.