عمل إداري أم إرهاب فكري؟
حينما تُوضَعُ المصطلحات من التسميات في الأماكن المخصصة لها، نَفهَمُ أننا أمام أفراد مجتمع منظم ومنتظم، يَتبعُ اللوائح، ويَحترِمُ القوانين، ويَضَعُ خطوطًا حمراء في تعامله مع الغير؛ حتى لا يتجاوزَ الحدود، هذا كلام منطقي ومفروغ من مناقشته، ولا يقبل تحدِّيًا في جدالٍ، لكنَّ الواقعَ شيءٌ آخر، فما يُفكِّرُ فيه العقل البشري، وما اعتادت عليه الأخلاق وألِفتْه في مجتمعات تَعرِفُ حقوقَ الإنسان وتحترمُها، تجد لها تناقضًا وتصادمًا أمام حقيقة مضعفة ومشؤومة، حينما تُنتهك حرمات، وتُهضم حقوق دونما وجه حقٍّ، وما هذا الوصف إلا صورةٌ حية لما تعيشه الإدارات على تنوع المؤسسات والهيئات العملية، فمَن سيقرأُ كلامي لاحقًا، ويُحلِّلُه وهو في طبيعة وظيفته، يشتغل في إدارة من الإدارات، فسيفهم عني ما أقول وما أَقصِدُه بالضبط؛ من تَرَدٍّ في الأوضاع، وانحطاطٍ في المستوى، وانكسار الاستقامة أمام هذه التحديات المخيبة للآمال، تحديات انتهاك الحقوق بالباطل.
فإن وجهتَ أيها القارئ الكريم سؤالاً لعامل أو موظف: هل أنت مرتاح في عملك؟ فسيُجيبك أن الملل استولى على حياته، وأن معنوياته في الحضيضِ، وإن واجهتَه بسؤال منك عن السبب، فسيقول: لقد سيطرتِ الرَّداءةُ على الكفاءة، وتميَّزَ الجاهل عن العارف بخبايا الإدارة، وأخذ المرتشي والكسول مكانَ الشخص الكفء والنَّزِيه، فلربما بعد استماعِك للإجابة تكادُ لا تُصدِّقُ ما يُقال لك، حينما تسمعُها من أشخاص آخرين، وفي نواحٍ أخرى من الانتهاك، خاصة ما يتعرَّضُ له العنصرُ النسوي من تجاوزاتٍ؛ لكنها الحقيقة! بل توجد أمورٌ أكثر إيلامًا من هذه المظاهر؛ كأن تُطبَخَ مكايد لأجل إسقاط موظف مجدٍّ ومثابرٍ في عمله في شباك الاتهام، فترى المحيطين به يكرهونه، ويُخطِّطون للإيقاع به في فخِّ التزوير والخطأ، أو نسبة أيِّ قضيةٍ ملفقة له يكون فيها متهمًا، ولا تُحيطُه أدلة دامغة لتُبرِّئَه، والمشكلة في هذا الإبداع الإجرامي أن صاحبَه لا يكونُ معروفًا وسطَ مجموعة من الموظَّفين، ولا يترك له أثرًا مباشرًا، فيتحوَّلُ العملُ الإداري إلى إجرام وخديعة، وتعدٍّ على الغير، وتُكتَبُ التقاريرُ عن الموظف النَّزِيه، وتُنسَبُ له أعقدُ التُّهَمِ، وتُلفَّقُ له أمورٌ يَجِدُ نفسَه أمامها مصدومًا، بل منهارًا عصبيًّا، وهو واقعٌ عاشه الكثيرون؛ فكان منهم الشاهد الوفي، والصادق، وكان منهم الشاهد لكنه يدعي أنه لم يَرَ شيئًا، ولا يريد التصريحَ بما رأى؛ لأنه أخَذَ مالاً مقابل التستُّر على المخطط الجبان!
أشعر بمنتهى الاستياء وأنا أستمع لقضايا يَنْدى لها الجبين، ويَنتابُني شعورٌ بالإحباط حينما يَنجَحُ المخطِّطون فيما كانوا يَطمَحون إليه، فتَجِدُ أوراقًا ضاعت من ملف ما، وشيكات من غير رصيد تم توقيعها بطريقة ذكية جدًّا، حتى إن الموقِّع عليها قام بمدِّ قلمه على الشيك، وهو يعلم أو لا يعلم، وعليه تَشتَبِهُ إرادة الفاعل من تعمُّدها ومن غير تعمدها، ولكنْ هناك أمور فعلاً يتمُّ فيها الكذب، وتلفيقُ التُّهم بأي وسيلة كانت، المهم أن يتحقَّق المرادُ، وهو إيصال الموظَّف النزيه إلى المجلس التأديبي، أو إلى المحكمة؛ ليَستمِعَ له القاضي في تهمة هو بنفسه لم يَستوعِبْ فصولَها، ويبقى الغموضُ يَكتنِفُ هذه الملفات، وتتعقَّدُ خيوطُ هذه الفعلة الشنيعة، ومن المتهمين مَن يرى نورَ البراءة، ومنهم مَن يُزجُّ به في السجن، أو يُطردُ من عمله؛ كأخفِّ إجراء يُؤخَذُ ضدَّه.
والمعضلةُ الكبيرة أن الكثيرَ من الإدارات في تنظيمها الداخلي لا تفعل آليًّا مكاتبَ لها من الأهمية ما يمكن تخفيف العبء في حل المشاكل؛ مثل مكتب المنازعات الإدارية، والذي يتولَّى الفصل في مشاكل العمل والموظفين، ويقوم بعملية التواصل مع المحامين في حالة جُنحة، أو جناية؛ لإيجاد الحلول المناسبة، كما أن القراءة التحليليَّة للتنظيم الداخلي للإدارات العمومية توجَدُ بها ثغرات وفراغات قانونية؛ تتركُ الفرصةَ للمحتالين في استغلالها؛ لتمرير انتهاكاتهم وتجاوزاتهم؛ بحيث يجد الموظفُ المتهَمُ نفسَه غيرَ محاطٍ بحماية قانونية كافية.
كما أن الجريمة الإلكترونية، وسرقة المعلومات الخاصة من العلب الإلكترونية - باختراقها - سهَّل مهمة معرفة الأسرار، وبذلك تكون فرصة نجاح الجريمة بدقتها أكثرَ وفرةً ونسبة في تجاوز فشلها، أو محاولة إحباطها، فهل من منظورٍ إداري وقانوني صريح تكون هذه الأفعال هي من الأعمال الإدارية التي أقرها القانون، أم أنها تُرتكَبُ باسم المنصب وباسم حماية حقوق الغير، والتي تُحمَى بطريقة غير شرعية؟ دون أن ننسى الجانبَ النفسيَّ للموظف المتهم بنسبة التهم له، وباختراق حُرمةِ مكتبه وأسراره، كيف يعيش حالة إرهاق نفسي وعصبي لما آل إليه مصيره؛ فهو لم يرتكِبْ جرمًا.
أكيد نحن نتكلَّمُ عن الحالات التي نكونُ قد عايشنا براءتها، ونتحدث عن أناس مع الوقت ثبتتْ براءتُهم، مع أنه في بداية الأمر لم تكن الأدلة كافيةً وواضحة، بشكل يسلم منه من أي فعل منسوب إليه مخالفٍ للقانون، ثم كيف تُصنفُ مثل هذه الأفعال؟ هل تُعتَبَرُ مخالفةً، أم جنحة، أم جنايةً بعد تكييفها التكييف الحقيقي لها، وبعد كشف الحقيقة في خلوها من الأدلة المساندة؟
وما هي طريقة ردِّ الاعتبار في مثل هذه القضايا التي تتمُّ في الكواليس؟
وكيف يمكن إنصافُ الموظَّف من غير اللجوء إلى العدالة وفي مواجهة قوية للجريمة المعلوماتية بكل أشكالها وأنواعها، وعلى اختلاف طرق ارتكابها؟
فحتى أثناء مراجعتي لقانون العمل وللوائح الإدارية والتنظيمية، وكذا التنظيم الداخلي - لم أتلمَّسْ صراحةً مادة وجيهة وصريحة، تُعطي للموظَّف الوقتَ الكافيَ لتقديم أدلة براءته، أو تَشرَح الطرق الكفيلة لمعالجة هذه الظاهرة التي فضَّلت تسميتَها الإرهاب الفكري، فقبل أن تُشكِّل هذه الأفعال تجاوزات مادية ملموسة؛ إما بتهديد منصب العمل، أو بالتنزيل في درجة السلم الإداري، أو التأجيل في الترقية، بقدر ما تلمست أنها تُرهِقُ الخاطر، وتتعب النفس، ويصبح المُتضرِّرُ في منأى وعزلة عن المحيط المهني، ويشعر بالإهانة والاحتقار، والإنقاص من شخصه، والتقليل من كرامته؛ فالرداءة تُعطِي أغلفة من حقيقة؛ فتبرئ الظالم، وتُجرِّمُ المظلوم، وتعكس أبعادًا أخرى من الحقد والكراهية للعمل حتى تصل إلى الاستقالة نهائيًّا منه، ومن ثَمَّ يَستقبِلُ المجتمع بين أحضانه إما مريضًا نفسيًّا، وإما مختلاًّ عقليًّا، وإما مجرمًا حقيقيًّا، بعد أن كان مظلومًا عاقلاً قبل اتهامه!
إن الإرهاب الفكري هو من أخطر أشكال العنف المُمارَسِ على العقل الواعي والمفكر؛ فهو يُحطِّمُ الإرادة، ويَخلُق عدائيَّةً للمجتمع وللعمل، ولكل ما يمتُّ بصلة إلى المهنة، فلا تجدُ مُبرِّرًا حقيقيًّا لمثل هذه السلوكات التي كانت بدافع الرداءة وسوء الأخلاق، سواء في المعاملات اليومية داخل المؤسسات الإدارية، أو في كيفية التعاطي مع الأخطاء أيًّا ما كانت حقيقةً؛ إذ ليس بالضرورة اللجوء إلى الإقصاء والتهميش، فمن الأمور ما يمكنُ علاجها بحسب درجة خطورتها، ومنها ما يمكن علاجه آنيًّا بترتيب أولويات، وتهميش أمور تُشكِّلُ ضررًا على الموظفين وعلى مردودية العمل.
فعلى كلِّ مسؤول يُشرِفُ على مؤسسة إدارية، وعلى مجموعة من الموظفين - أن يتحرَّى العدالةَ في تعاملاته من غير محاباة، ولا استعمالٍ للنفوذ، ولا استغلال للمنصب من أجل إيذاء ذاك الموظف الضعيف، أو كسر ذاك الكيان الكفء، فنحن بحاجة إلى عقول تُفكِّرُ لتبني، وليست تُفكِّرُ لتُحطِّم وتُخرِّب، نحن بحاجة إلى بناء وليس إلى هدم، كما أننا بحاجة إلى تفعيل القانون بحذافيره، وإعطاء كلِّ ذي حق حقَّه، ومعاقبة الجناة الحقيقيين، والتقليل من مظاهر الفساد، خاصة الفساد الأخلاقي؛ لأنه مسؤول عن بقية أنواع الفساد لتتفشى في المجتمع توابع من العملية الإجراميَّة، فلْيعِ كلُّ واحد أمانةَ المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولْيَتفكَّرْ كلُّ واحد فينا - مهما كانت درجة منصبه، ومهما كانت درجة تحصيله العلمي - أنه إذا خُوِّلت لك القوة في ظلم شخص بريء، ولم تستدرك خطأك معه، فتذكَّرْ قدرةَ الله عليك.
والله نسأل الثبات، وحسن العمل، وإتقانه، واحترام حقوق الناس، وعدم تجاوز الحدود معهم.