الثورة الفكرية بين مطرقة الصوفية وسندان السلفية
أحمد محمد بلقيس
لاشك أن الاستقطاب الفكري المتمثل في المعسكرين السلفي والصوفي قد أثر سلبا في مجريات الحركة الفكرية الإسلامية ، خصوصا أن هذا الاحتكار لم يكن لصالح النهضة الفكرية بل كان لتصفية حسابات قديمة بين الطرفين ، فالمعسكران تربطهما صراعات متجذرة منذ قرون.
ولا شك أيضا ، أن كلا من المدرستين الصوفية والسلفية خرجت أجيالا من المفكرين والمجديدن في الفكر الإسلامي ، وقديما كان الاحتكار نتيجة طبيعية للقوة العلمية في المدرستين، أما اليوم فهما يحاولان قدر المستطاع طمس أي تغيير في الحركة الفكرية اليوم خوفا من أن تمثل هذه التغيرات ريحا تعصف في وجه هاتين المدرستين فتنزع منهما العرش التاريخي الذي تربعتا عليه لقرون ، مع أن أية نهضة في الحركة الفكرية لا يمكن أن تكون دون الولوج من هذين البابين العظيمين - السلوك والعلم - ، إلا أن الجهل والتعصب القابع في هاتين المدرستين على مستوى الجماعة لا الأفراد ، قد خيل لهما هذا !
هذا الاستقطاب دفع المدرستين لإحداث حالة من النمطية في التعامل مع الحركات الإسلامية الحديثة التي نشأة من منطلق تنويري أو حتى على أطلال غيرها من المدارس السابقة التي خفت نجمها نتيجة الضربات الفكرية الموجعة التي تلقتها سابقا على يد أعلام المدرستين – السلفية والصوفية- وما ظهورها مجددا إلا نتيجة الخواء العلمي الموجود على الساحة اليوم ، فالعلاقة عكسية نوعا ما كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية .
مع ظهور الحركات التكفيرية اليوم وعلى رأسها داعش قامت المدرسة الصوفية بعمل " بروبجندا" إعلامية لتشويه صورة المنافس العنيد عبر تسويق ما تراه تورط الفكر "الوهابي" في إنشاء هذه الأفكار وظهور هذه الحركات ، وألبستها ثوب يوسف الصديق ، واعتمدت في ذلك على اتفاق الحركة الوهابية – إن صح التعبير – والحركة التكفيرية على مسائل الشرك والإيمان بشكل عام ، وعلى وجوب هدم مظاهر الشرك والكفر مع وجود فوارق عملية بين الحركتين ، وهذه الطريقة من المدرسة الصوفية طغت على التعامل مع كل حركة تكفيرية تظهر على الساحة.
أما الحركة السلفية فقامت – كعادتها- بتلبيس هذه الحركات لباس الخوارج دفعا للشبهة عنها ، وهذا الجواب الذي تبنته الحركة السلفية قد استخدمته مع جميع الحركات التكفيرية أيضا ، من القاعدة مرورا بالإخوان المسلمين الجناح القطبي وانتهاء بداعش.
هذه الطريقة الساذجة في التعامل مع هذه الظاهرة تكشف اللوثة الفكرية التي تغرق فيها هاتان المدرستان ، وكيف شوهتا ماضيا عريقا استمتع به المسلمون، وأثريت بها المكتبة الإسلامية ثراء على جميع الأصعدة.
وفي صورة أخرى من صور التراشق الفكري ، قامت المدرسة السلفية بجعل الصوفية المتهم الأول بفتح بوابة التشيع وأنهم يحملون الفكر الشيعي بلباس السنة !
أيضا؛ قام المعسكر الصوفي باتهام السلفية – بطريقة غير مباشرة- بأنهم سبب إلحاد الكثير من الشباب ، فيخرج أحد أعلام الصوفية ليناقش قضايا إلحادية ، ويصدر حلقاته بمقطع تعريفي بالملحد على أنه "خريج الدعوة السلفية سابقا" ! ألهذا الحد وصل الانحطاط الفكري بل والأخلاقي ؟
إن وجود تشابه بين فكرين أو نقاط اشتراك لا يعني أبدا اتحاد الأصل بالضرورة ، فالملاحدة والأشاعرة يتفقون في نفي الغائية والترابط بين الكون وهذه مسألة محورية ، فهل يعني أن الإلحاد قد خرج من رحم الأشاعرة ؟ لا يقول هذا عاقل.
فوضى توصيف المشكلة اليوم هي ذاتها التي أشار إليها وحيد الدين خان في كتابه الإسلام والعصر الحديث ، فالابتعاد عن أصل المشكلة والحيد عنها إلى التراشق بين المدرستين هو مكمن الخلل ، وهذا كله نتاج التعصب والابتعاد عن العلم وعدم صفاء النيات.
هذا الاستقطاب الفكري شكل حالة من الهلع والخوف من فكرة التجديد في الخطاب الشرعي فيما مجاله التجديد ، وهذه هي من أهم نقاط الضعف الموجودة ، فالقوالب الجاهزة والدوغمائية في طرح الأفكار قد ولى زمانها فلا يمكن التعامل مع الحركات التكفيرية كمعاملة الخوارج ، ولا التنويريين على أنهم معتزلة ، نعم قد تجد تشابها إلى حد كبير بينهم ولكن التجديد الذي طرأ عليهم يفرض علينا بالضرورة أن نجدد في الخطاب المقابل وإلى تعميق النظرة لنصل إلى مكمن المشكلة.
إن الأمة الآن أحوج ما تكون إلى ثورة فكرية تحررها من أغلال هذه الحزبيات الضيقة التي فرضت واقعا أليما على المفكرين المسلمين ، فأصبح المفكر المسلم مضطرا إلى الانتساب إلى إحدى المدرستين حتى لا يمارس في حقه التشبيح الفكري !
قلت وما زلت بأن الثورة الفكرية التجديدة في هذه الأمة اليوم إنما تقوم بتأصيل المفاهيم الدينية في القرآن والسنة بعيدا عن المناكفات والمماحكات المملة والمراشقات المذهبية ، وعلى هذا يتم لم شمل هذه الأمة بالعلم والسلوك ليعيد إلى هذه الأمة رونقها ويرشدهم من الانحراف الذي حصل فيها على مدى هذه القرون الأخيرة.