سلمان بن فهد العودة
في بلاد خراسان كان هناك مولى أسود له تقوى وصلاح وعلم، فمال الناس إليه، خرج يومًا من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق يسألونه ويُسلّمون عليه، فلقيه رجل من الأشراف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ الصالح وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله، أُذَلّ وتُجَلّ! وأُذَمّ وتُكْرَم! وأُهَان وتُعَان! فَهَمّ الناس بضربه، فقال الشيخ: لا. هذا محتمل منه لجده علي رضي الله عنه، ولكن يا أيها الشريف بيَّضتُ باطني وسوَّدتَ باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي، وأخذتُ أنا سيرة أبيك وأخذتَ أنت سيرة أبي، فرآني الخلق في صورة أبيك الصالح، ورأوك في صورة أبي الكافر، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يُعمل مع أبي، وعملوا معي ما يُعمل مع أبيك!
كلكم لآدم وآدم من تراب..
هذا قانون البداية، أما النهاية (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:95).
وبينهما يمكنك أن تطالع صورتك، تلبس بشتك وتتعطر، وتنادي بصوتك خادمك المغترب لكي يحضر ساعتك التي ترتب مواعيدها بحسب الأشخاص الذين ستقابلهم.
ترمي بنظرة شزر على هذا (الإنسان) البسيط الذي لم يُلَمّع حذاءك بشكل لائق.
تخرج للشارع بسيارتك، تلقي التحيّة على الرجل الذي يشبهك وطنا ولقبا، يبادلك التحية، تجتاز شارعين وفي الثالث ليس لك أحقية المرور، ولكنك تعبر؛ لأن الطرف الآخر لا يشبهك لونا، فجأة تتلقى اتصالًا تتأفف (أووه ها العبيد)!
تقف عند الإشارة، يناديك أحدهم مستفسرا عن مكان ما، تتأمل ملامحه تنزل الزجاج، وفي داخلك نداء مستعلٍ: ماذا يريد هذا (الأجنبي)؟!
وكلٌّ يغني على ليلاه، وليلاك شجرة عائلية تتصدر مجلسك، زامّا بها شفتيك كلما أحرقك تفوّق أحدهم استظللت بظلها.
هذا المار أمامك (هندي)، نعم هندي ولكنه إنسان، وربما يتميز عنك في أشياء كثيرة لا تعرفها.
هذا الآخر (باكستاني، بنقالي، فلبيني..) وقائمة طويلة تعبر هذا الطريق، ربما يتفوقون عليك في إنسانيتك وفي ذكائك وتقواك، ولكنه القَدَر الذي جاء بهم إليك بحثا عن لقمة..
وأنت العائد لبيتك منهكا جرّب أن تخلع حذاءك وتدوس هذا التراب، جرّب أن تدوس بعضك..
خفِّفِ الوطءَ! ما أظن أديمَ الــ *** أرض إلا من هذه الأجسادِ!
رُبَّ قبرٍ قد صار قبراً مراراً *** ضاحكاً من تزاحم الاضداد!
جرّب أن تدوس أصل هذه الهامة المتغطرسة والأنف المرفوع..
جرّب أن تبحث عن مكان آخر غير التراب لكي لا تلقي بنفاياتك عليك..
جرّب أن تشم هذا التراب لربما تأففت من بعضك وأصلك الذي لم يُخلق..
جرّب! لربما سحقت بقدمك تربة أصلها رأس سيدك..
جرّب! لربما دُستَ قبيلةً من الرمل تُسمى قبيلتك، وكثيبًا من التراب يسمى وطنك..
جرّب أن تمشي حافيًا، وإذا تعثَّرت قدمك بأصلك فتذكر أولئك الذين ازدريتهم لعاهة المشية والشكل..
جرّب أن تطأ بشدة على الطين، وإذا ما سمعت صوتا ما فتَرَفَّق؛ قد تكون وطئت بقية لسانك الهاجي لغيرك..
جرّب أن ترى موضعا آمنًا لقدمك مابين الشوك، وإذا ما دهست عليه وسمعت أنين الترب فلربما تكون وطئت قلب أنثى.
وإذا ما أتعبك المشي جرّب أن تسجد لله، وما علق بجبينك من بقايا ترابٍ هو أصلُ هذا الإنسان الذي ازدريته..
في الحج وبينما الكل سواسية في زيهم وشكلهم، وكل مظاهر الأبهة معدومة، سلّمت على جمعٍ سلاماً عابراً، حتى إذا بدأ التعريف بهم صار هذا وزيراً وذاك مديراً، تبسمت وقلت: أعتذر لأني لم أعرفكم!
لم أكن مدركًا أنني أمارس عنصرية من نوع آخر، وأن بعض الاعتذارات هي عنصرية أيضاً.
هنا في مكة كان أبوبكر، وبلال، وسلمان، وصهيب، وعمّار.. مجموعة واحدة تلاشت بينها الفروق، وبقي تفاضلها بالتقوى (أبو بكر سيِّدُنا وأعتق سيِّدَنا).
كان لدى ’’غاندي’’ حلمه بأن تشبع البطون السمراء الجائعة بدلا من المستعمر العنصري.
كان لدى ’’مانديلا’’ حلمه بأن تصدح الحناجر السمراء بالنشيد الوطني لأرضهم.
كان لدى ’’مارتن لوثر’’ حلمه الطويل بأن لا يُعامل أبناؤه الأربعة على أساس لونهم..
ليكن لدينا حلم أن ينبع نور الإنسان من الداخل لا من الخارج، وأن تشكل الألوان المتعددة لوحة مكتملة جميلة.
مثلك أنا.. أحن لذات التربة التي ركضت عليها طفلاً ولثمتُها شابا.
مثلك أنا.. مليءٌ بالطموح والتطلعات وأحمل هم الخلود بعد موتي.
مثلك أنا.. تجرحني الكلمات التي تحاكمني على وطنٍ لا أعرفه، ومكانٍ لا أنتمي إليه، وتحرمني من مسقط رأسي وحيي ولهجتي التي لا أعرف سواها.
مثلك أنا.. أحمل همّ صغارٍ تركتُهم هناك من أجل لقمة عيش.
مثلك أنا.. أعود لبيتي وأكون الرجل الأول يوم أن كنتُ عندك الرجلَ الأخير.
مثلك أنا.. حتى وإن كانت شجرتي في الأطراف، إلا أن ظلي ممتد لكل الوطن.
مثلك أنا.. وإن نقص مالي واندثر جاهي.
مثلك أنا.. تؤذيني نظرة دونية وعطف مبتذل وسلامٌ بنصف يد.
مثلك أنا.. أبحث عن الود، لكن من السماء (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) (مريم: 96).
سلمان العودة
salman_alodah@
في بلاد خراسان كان هناك مولى أسود له تقوى وصلاح وعلم، فمال الناس إليه، خرج يومًا من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق يسألونه ويُسلّمون عليه، فلقيه رجل من الأشراف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ الصالح وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله، أُذَلّ وتُجَلّ! وأُذَمّ وتُكْرَم! وأُهَان وتُعَان! فَهَمّ الناس بضربه، فقال الشيخ: لا. هذا محتمل منه لجده علي رضي الله عنه، ولكن يا أيها الشريف بيَّضتُ باطني وسوَّدتَ باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي، وأخذتُ أنا سيرة أبيك وأخذتَ أنت سيرة أبي، فرآني الخلق في صورة أبيك الصالح، ورأوك في صورة أبي الكافر، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يُعمل مع أبي، وعملوا معي ما يُعمل مع أبيك!
كلكم لآدم وآدم من تراب..
هذا قانون البداية، أما النهاية (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:95).
وبينهما يمكنك أن تطالع صورتك، تلبس بشتك وتتعطر، وتنادي بصوتك خادمك المغترب لكي يحضر ساعتك التي ترتب مواعيدها بحسب الأشخاص الذين ستقابلهم.
ترمي بنظرة شزر على هذا (الإنسان) البسيط الذي لم يُلَمّع حذاءك بشكل لائق.
تخرج للشارع بسيارتك، تلقي التحيّة على الرجل الذي يشبهك وطنا ولقبا، يبادلك التحية، تجتاز شارعين وفي الثالث ليس لك أحقية المرور، ولكنك تعبر؛ لأن الطرف الآخر لا يشبهك لونا، فجأة تتلقى اتصالًا تتأفف (أووه ها العبيد)!
تقف عند الإشارة، يناديك أحدهم مستفسرا عن مكان ما، تتأمل ملامحه تنزل الزجاج، وفي داخلك نداء مستعلٍ: ماذا يريد هذا (الأجنبي)؟!
وكلٌّ يغني على ليلاه، وليلاك شجرة عائلية تتصدر مجلسك، زامّا بها شفتيك كلما أحرقك تفوّق أحدهم استظللت بظلها.
هذا المار أمامك (هندي)، نعم هندي ولكنه إنسان، وربما يتميز عنك في أشياء كثيرة لا تعرفها.
هذا الآخر (باكستاني، بنقالي، فلبيني..) وقائمة طويلة تعبر هذا الطريق، ربما يتفوقون عليك في إنسانيتك وفي ذكائك وتقواك، ولكنه القَدَر الذي جاء بهم إليك بحثا عن لقمة..
وأنت العائد لبيتك منهكا جرّب أن تخلع حذاءك وتدوس هذا التراب، جرّب أن تدوس بعضك..
خفِّفِ الوطءَ! ما أظن أديمَ الــ *** أرض إلا من هذه الأجسادِ!
رُبَّ قبرٍ قد صار قبراً مراراً *** ضاحكاً من تزاحم الاضداد!
جرّب أن تدوس أصل هذه الهامة المتغطرسة والأنف المرفوع..
جرّب أن تبحث عن مكان آخر غير التراب لكي لا تلقي بنفاياتك عليك..
جرّب أن تشم هذا التراب لربما تأففت من بعضك وأصلك الذي لم يُخلق..
جرّب! لربما سحقت بقدمك تربة أصلها رأس سيدك..
جرّب! لربما دُستَ قبيلةً من الرمل تُسمى قبيلتك، وكثيبًا من التراب يسمى وطنك..
جرّب أن تمشي حافيًا، وإذا تعثَّرت قدمك بأصلك فتذكر أولئك الذين ازدريتهم لعاهة المشية والشكل..
جرّب أن تطأ بشدة على الطين، وإذا ما سمعت صوتا ما فتَرَفَّق؛ قد تكون وطئت بقية لسانك الهاجي لغيرك..
جرّب أن ترى موضعا آمنًا لقدمك مابين الشوك، وإذا ما دهست عليه وسمعت أنين الترب فلربما تكون وطئت قلب أنثى.
وإذا ما أتعبك المشي جرّب أن تسجد لله، وما علق بجبينك من بقايا ترابٍ هو أصلُ هذا الإنسان الذي ازدريته..
في الحج وبينما الكل سواسية في زيهم وشكلهم، وكل مظاهر الأبهة معدومة، سلّمت على جمعٍ سلاماً عابراً، حتى إذا بدأ التعريف بهم صار هذا وزيراً وذاك مديراً، تبسمت وقلت: أعتذر لأني لم أعرفكم!
لم أكن مدركًا أنني أمارس عنصرية من نوع آخر، وأن بعض الاعتذارات هي عنصرية أيضاً.
هنا في مكة كان أبوبكر، وبلال، وسلمان، وصهيب، وعمّار.. مجموعة واحدة تلاشت بينها الفروق، وبقي تفاضلها بالتقوى (أبو بكر سيِّدُنا وأعتق سيِّدَنا).
كان لدى ’’غاندي’’ حلمه بأن تشبع البطون السمراء الجائعة بدلا من المستعمر العنصري.
كان لدى ’’مانديلا’’ حلمه بأن تصدح الحناجر السمراء بالنشيد الوطني لأرضهم.
كان لدى ’’مارتن لوثر’’ حلمه الطويل بأن لا يُعامل أبناؤه الأربعة على أساس لونهم..
ليكن لدينا حلم أن ينبع نور الإنسان من الداخل لا من الخارج، وأن تشكل الألوان المتعددة لوحة مكتملة جميلة.
مثلك أنا.. أحن لذات التربة التي ركضت عليها طفلاً ولثمتُها شابا.
مثلك أنا.. مليءٌ بالطموح والتطلعات وأحمل هم الخلود بعد موتي.
مثلك أنا.. تجرحني الكلمات التي تحاكمني على وطنٍ لا أعرفه، ومكانٍ لا أنتمي إليه، وتحرمني من مسقط رأسي وحيي ولهجتي التي لا أعرف سواها.
مثلك أنا.. أحمل همّ صغارٍ تركتُهم هناك من أجل لقمة عيش.
مثلك أنا.. أعود لبيتي وأكون الرجل الأول يوم أن كنتُ عندك الرجلَ الأخير.
مثلك أنا.. حتى وإن كانت شجرتي في الأطراف، إلا أن ظلي ممتد لكل الوطن.
مثلك أنا.. وإن نقص مالي واندثر جاهي.
مثلك أنا.. تؤذيني نظرة دونية وعطف مبتذل وسلامٌ بنصف يد.
مثلك أنا.. أبحث عن الود، لكن من السماء (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) (مريم: 96).
سلمان العودة
salman_alodah@