بقلم : فهمي هويدي
في مصر نزوع للترويج للأساطير السياسية التي زادت عن الحد وباتت تحتاج إلى تحرير وتفسير.
(1)
حين زار المشير عبد الفتاح السيسي ومعه وزير الخارجية موسكو هذا الأسبوع وعاد الاثنان في آخر النهار، وصفت الزيارة في وسائل الإعلام المصرية على النحو التالي: مهمة تاريخية، منعطف في السياسة الخارجية، قنبلة سياسية، صفعة لأميركا، زلزال في واشنطن، أوباما سيطلق على نفسه الرصاص، انقلاب في موازين القوة، عودة إستراتيجية عبد الناصر، خريطة جديدة للإقليم، خروج من التبعية لواشنطن، كسر احتكار السلاح الأميركي.. إلخ.
ليس ذلك كله جديدا، فقد تفتحت أعيننا على خطاب استلهم ثقافة الأقدمين التي اعتبرت الفرعون ’’الملك الإله’’، و’’صانع المطر’’ و’’ضابط النهر’’، وبمقتضى تلك الثقافة الموروثة فإن حاكم البلاد ظل دائما صانعا للتاريخ في جولاته ولقاءاته وأحاديثه وخطبه، إذ تشكل كلها صفحات في كتاب التاريخ.
وقبل أن يصبح المشير السيسي رئيسا فإن خطابنا الإعلامي استبق، وأطلق على رحلته تلك الأوصاف، رغم أنها استغرقت أقل من يوم وتخللها اجتماعان لم يستغرقا أكثر من ثلاث ساعات تحققت في ظلها تلك الخوارق التي قد يسوغ البعض قبولها بعدما اعتبر الفريق السيسي من ’’رسل الله’’ الذين لا يستكثر وقوع المعجزات على أيديهم.
ماكينة صناعة الأساطير لم تقف عند التركيز على تاريخية الزيارة، وإنما نسجت عدة أساطير أخرى بشأن دلالاتها، فهي عندهم -كما رأيت- تمثل تحولا إستراتيجيا وترسم خرائط جديدة في المنطقة.
وهى ثانيا خروج من بيت الطاعة الأميركي، ثم إنها ثالثا صفعة للرئيس أوباما مرشحة لأن تدفعه إلى الانتحار، إلى غير ذلك من الإشارات التي تنطلق من أسطورة الصراع بين القاهرة وواشنطن ومناطحة نظام يوليو الجديد للقطب الأعظم في العالم.
وقد سبق أن ناقشت تلك الأسطورة من قبل، وخلصت إلى أن بين مصر والولايات المتحدة حلفا إستراتيجيا له أصول لا يختلف عليها، وله هوامش فرعية تحتمل الاختلاف، والأصول تتمثل في نقطتين جوهريتين، الأولى تتمثل في التسهيلات العسكرية التي تقدمها مصر للولايات المتحدة، المتعلقة بالمرور في قناة السويس وباستخدام الأجواء المصرية، وبالتعاون الاستخباراتي بين الأجهزة المعنية في البلدين. وتلك التسهيلات تقدم مقابل معونة سنوية تقدمها الولايات المتحدة لمصر تقدر بـ2.1 مليار دولار.
النقطة الجوهرية الثانية تتعلق باتفاقية السلام مع إسرائيل التي تعتبرها واشنطن خطا أحمر في سياستها الخارجية بالمنطقة، خارج هذا الإطار فاختلاف السياسات وارد، وهو حاصل بالفعل.
الذين تحدثوا عن التمرد المصري على التبعية الأميركية وعن الصفعة التي تلقتها واشنطن من خلال الزيارة، أو الانقلاب الذي افترضوه في خرائط المنطقة، هؤلاء تناسوا أمورا وحقائق عدة، منها أن الحرب الباردة انتهت، وأن روسيا لم تعد خصما يصارع الولايات المتحدة، رغم أن علاقة التنافس بينهما واردة.
ومنها أيضا أن العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة لا تزال قائمة لم يتغير فيها شيء، ومن ثم فإن التواصل مع موسكو لا يمثل تحولا إستراتيجيا، لكنه يتم في إطار الهوامش المفتوحة التي تستطيع السلطة المصرية أن تتحرك فيها بحرية، وتنشيط التعاون العسكري بين مصر وروسيا يدخل ضمن تلك الهوامش، رغم اعتماد مصر بصفة أساسية على السلاح والنظم العسكرية الأميركية، وهو ما لا يسرنا بطبيعة الحال.
من الحقائق -التي يتم التغاضي عنها أيضا- أن صفقة السلاح الجديدة مع روسيا ممولة من جانب المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، حسب ما أعلنت الصحف، وأي متابع للشأن السياسي يعرف جيدا عمق وتشابك العلاقات بين البلدين وبين الولايات المتحدة، ولا يخطر على باله أن تمول الدولتان صفقة سلاح يمكن أن توصف بأنها ’’صفعة’’ لواشنطن أو مساس بمكانة الرئيس الأميركي الذي ادعى بعض صناع الأساطير أنه يوشك على الانتحار بسبب الصدمة التي تلقاها من القاهرة.
(2)
العالم تغير بعد الثالث من يوليو، تضيف الأسطورة أن التغيير -الذي قاده وزير الدفاع وأدى إلى عزل محمد مرسي وإسقاط نظامه وتعطيل دستوره- أفشل قرارا دوليا تمثل في خطة مشروع الشرق الأوسط الكبير بقيادة تركيا، هدفه إقامة خلافة إسلامية موالية للغرب تلحق الشرق الأوسط بحلف الأطلنطي. وبإفشال تلك المؤامرة فإن العالم انتقل إلى طور جديد أصيبت فيه السياسة الأميركية بضربة موجعة.
تنطلق الأسطورة من فرضيتين، الأولى أن العالم العربي متمرد على الغرب وليس مواليا له ولذلك يتعين تطويعه وإعادته إلى بيت الطاعة مرة أخرى، والثانية أن ثمة قرارا دوليا يستهدف إجهاض ذلك التمرد، من خلال إقامة خلافة إسلامية تلحق الشرق الأوسط بحلف الأطلنطي.
والفرضيتان بمثابة اختراع من صنع خيال أصحابه، أريد به تصور ما جرى في دول الربيع العربي بأنه جزء من مؤامرة غربية كان الإسلام السياسي هو الأداة التي استخدمت في تنفيذها.
وفضلا عن الاعتبارات العملية القائمة على الأرض التي تجعل من فكرة إقامة الخلافة حلما مستحيل التحقيق إلا في ظل حرب تعيد رسم خرائط المنطقة، فإن العالم العربي في وضعه الراهن لا يمثل أي خطر يهدد الولايات المتحدة أو المصالح الغربية، ناهيك عن أن الإسلام السياسي الذي يصور بحسبانه أداة تنفيذ المؤامرة أصبح يفرخ جماعات هي التي تهدد المصالح الغربية في اليمن والعراق مثلا.
وعلى مستوى الدول، فإننا للأسف لا نكاد نرى دولة في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يمكن أن توصف بأنها متمردة على الولايات المتحدة، وإذا كان هناك خطر يهدد مصالحها فهو من التطرف الإسلامي بالدرجة الأولى.
من ناحية أخرى، فإن الذين تحدثوا عن ذلك القرار الدولي الوهمي لم يحددوا مصدره، وإذ اتجهت الأنظار إلى الولايات المتحدة باعتبارها المرشح الأكبر للقيام بذلك الدور فإننا لا نكاد نجد أثرا لذلك المخطط في أي وثيقة سياسية معتبرة. صحيح أن إدارة الرئيس بوش تبنت في عام 2004 مشروع ’’الشروق الأوسط الكبير’’ الذي تصورت أن يضم الدول العربية كلها ومعها تركيا وإسرائيل وإيران إضافة إلى أفغانستان وباكستان، إلا أن الفكرة وئدت في مهدها.
كما أن الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز كان قد تبنى فكرة ’’الشرق الأوسط الكبير’’ التي طرحها في كتاب صدر عام 1993 بالعنوان نفسه، لكنه كان يتحدث عن سوق مشتركة تنضم إليه وتقوده إسرائيل، وهذه أيضا ماتت قبل أن تولد.
أما إقامة خلافة إسلامية بقيادة تركيا موالية للغرب وترتبط بحلف الأطلنطي فليس لها ظل من الحقيقة، وهي لا تعدو أن تكون أسطورة سياسية ودعائية جرى تفصيلها بأثر رجعي لتصفية حسابات مع تركيا ومع الدول العربية التي صوتت أغلبية شعوبها لصالح الإسلام السياسي، واعتبار ذلك كله جزءا من المؤامرة مجهولة المصدر.
(3)
ثمة أسطورة أخرى شائعة تقول إن محمد مرسي أطلق سراح الجهاديين الذين كانوا في السجون المصرية، وأن هؤلاء استعادوا نشاطهم وتمركزوا في سيناء وحولوها إلى قاعدة لإقامة إمارة إسلامية ترتبط بحركة حماس في غزة، وقد أصبح هؤلاء مصدرا للعمليات الإرهابية التي استهدفت الجيش والشرطة وباتت تهدد الأمن القومي المصري.
وقد أعفاني الناشط والباحث الحقوقي المستقل حسام بهجت المدير السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية من تحرير تلك الأسطورة وتفنيدها، ذلك أن موقع ’’صدى مصر’’ نشر له هذا الأسبوع دراسة مهمة ومثيرة فاجأتنا بمعلومات نقضت الفكرة وكشفت عن التغليط والتزييف فيها.
في دراسته أثبت أن ذلك الادعاء لم تطلقه وسائل الإعلام في حملاتها التعبوية فحسب، ولكنه تردد أيضا على لسان وزير الداخلية وغيره من مسؤولي الأجهزة الأمنية الذين تحدثوا في أكثر من مناسبة عن الفكرة للادعاء بأن ثمة علاقة مباشرة بين القرار الذي اتخذه مرسي وبين العمليات الإرهابية اللاحقة، بما يدعم اتهام الإخوان بأنهم أثناء وجودهم في السلطة دعموا التطرف الديني المسلح.
أشار الباحث إلى مؤتمر صحفي عقده وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن فيه إلقاء القبض على واحدة من أخطر البؤر الإرهابية التي ضمت 39 شخصا يقودهم نبيل محمد المغربي الذي ذكر أنه أفرج عنه أثناء فترة حكم الرئيس المعزول، إلا أن حسام بهجت اكتشف أن الرجل أفرج عنه في 5 يونيو/حزيران 2011، أي قبل عام كامل من انتخاب مرسي رئيسا، وتم ذلك بموجب قرار صدر بالعفو عنه لأسباب صحية، وقد أصدر القرار النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود.
أمسك حسام بهجت بذلك الخيط وتتبع قوائم الجهاديين الذين تم الإفراج عنهم بعد تنحي مبارك عن الحكم، وبعد مراجعة وتحليل البيانات الرسمية -التي تضمنت تلك القوائم- فإن النتيجة جاءت مخالفة بصورة جذرية للانطباع السائد والمقولات الرائجة.
هكذا قال في دراسته، مضيفا أنه ’’بينما أصدر مرسي بالفعل قرارات بالعفو الرئاسي عن المئات، فإن أغلب هؤلاء كانوا من المتظاهرين الذين تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري بعد الثورة’’.
كما أنه أصدر بالفعل قرارات بالعفو عن بعض قيادات الجهاديين الذين تم اعتقالهم أثناء سنوات المواجهة مع السلطة في تسعينيات القرن الماضي بسبب كونهم مجرد أعضاء أو متعاطفين، وبسبب عدم وجود أدلة على تورطهم في أعمال إرهابية فإن أجهزة الأمن اكتفت باعتقالهم إداريا دون تقديمهم للمحاكمة.
أضاف صاحبنا أنه إزاء المظاهرات الغاضبة -التي انطلقت ضد نظام مبارك، وفي ظل حكومة الفريق أحمد شفيق- أعلن اللواء محمود وجدي وزير الداخلية آنذاك سياسة جديدة للوزارة تقضي بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين.
وبعد أقل من شهر على تنحي مبارك أصدرت وزارة الداخلية بيانا ذكرت فيه أن قطاع مصلحة السجون قام منذ أول فبراير/شباط 2011 بالإفراج عن 904 معتقلين جنائيين و755 معتقلا سياسيا، وتم ذلك بناء على توجيهات علنية من الفريق شفيق وبمباركة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ذكرت الدراسة أنه في طور لاحق أصدر المجلس العسكري قرارات بالعفو عمن وصفهم ’’بالمحكوم عليهم سياسيا’’، وهؤلاء بلغ عددهم 103 أشخاص، كان من بينهم الشقيقان طارق وعبود الزمر المحكوم عليهما في قضية اغتيال السادات، وبذلك بلغ عدد الإسلاميين الذين أطلق سراحهم قبل تولي مرسي رئاسة البلاد 858 سجينا.
تحقق الباحث من أنه بعد تولي مرسي منصبه لم يكن قد بقي في السجون من الإسلاميين سوى أقل من خمسين شخصا، في حين كانت السجون تكتظ بالشبان الذين قدموا إلى المحاكم العسكرية بعد الثورة، وقد أصدر الرئيس السابق قرارا بالعفو عن 645 من هؤلاء الأخيرين مرة، ثم عن 490 متهما منهم في مرة ثانية.
أما الإسلاميون فإنه أصدر قرارا وحيدا بالعفو عن 27 شخصا منهم، بينهم تسعة من قيادات الإخوان المتواجدين بالخارج (أحدهما سوري والآخر سعودي).
أما الثمانية عشر اسما الباقية فقد كانت من الجهاديين المدانين في قضايا متنوعة، من بينها محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا وتنظيم العائدين من ألبانيا، ثم لم يصدر بعد ذلك أي قرارات عفو أخرى.
مما خلصت إليه دراسة الأستاذ حسام بهجت ’’أن جميع أسماء السجناء السابقين الذين اتهمتهم المصادر الأمنية بالعودة لممارسة الإرهاب خرجوا من السجون بقرارات من المشير طنطاوي بصفته رئيسا للمجلس العسكري، أو بأحكام أصدرها القضاء العسكري’’.
(4)
أهمية الدراسة المثيرة التي نشرت يوم 16/2 على موقع ’’صدى مصر’’ أنها تفتح الأبواب لدراسات جادة أخرى يقوم بها الباحثون الشرفاء بشأن قائمة أخرى من الأساطير الرائجة في مصر التي يتعلق بعضها بتهديد حركة حماس للأمن القومي المصري أو بحكاية بيع قناة السويس أو حقيقة الدولة الدينية التي يقال إن مرسي أقامها أثناء العام الذي أمضاه في السلطة، وحقيقة الدولة المدنية التي بشرنا بها بعد عزله.
في تفسير سيل الأساطير -الذي انهمر علينا أثناء الأشهر السبعة الماضية- لم أجد سوى التعليق البليغ الذي ذكره الأستاذ أحمد سيف الإسلام المحامي والحقوقي المعروف، حين سئل عما وراء إطلاق مثل هذه الأساطير، فكان رده: فتش عن الدولة العميقة.
موقع*الصحوة نت*
في مصر نزوع للترويج للأساطير السياسية التي زادت عن الحد وباتت تحتاج إلى تحرير وتفسير.
(1)
حين زار المشير عبد الفتاح السيسي ومعه وزير الخارجية موسكو هذا الأسبوع وعاد الاثنان في آخر النهار، وصفت الزيارة في وسائل الإعلام المصرية على النحو التالي: مهمة تاريخية، منعطف في السياسة الخارجية، قنبلة سياسية، صفعة لأميركا، زلزال في واشنطن، أوباما سيطلق على نفسه الرصاص، انقلاب في موازين القوة، عودة إستراتيجية عبد الناصر، خريطة جديدة للإقليم، خروج من التبعية لواشنطن، كسر احتكار السلاح الأميركي.. إلخ.
ليس ذلك كله جديدا، فقد تفتحت أعيننا على خطاب استلهم ثقافة الأقدمين التي اعتبرت الفرعون ’’الملك الإله’’، و’’صانع المطر’’ و’’ضابط النهر’’، وبمقتضى تلك الثقافة الموروثة فإن حاكم البلاد ظل دائما صانعا للتاريخ في جولاته ولقاءاته وأحاديثه وخطبه، إذ تشكل كلها صفحات في كتاب التاريخ.
وقبل أن يصبح المشير السيسي رئيسا فإن خطابنا الإعلامي استبق، وأطلق على رحلته تلك الأوصاف، رغم أنها استغرقت أقل من يوم وتخللها اجتماعان لم يستغرقا أكثر من ثلاث ساعات تحققت في ظلها تلك الخوارق التي قد يسوغ البعض قبولها بعدما اعتبر الفريق السيسي من ’’رسل الله’’ الذين لا يستكثر وقوع المعجزات على أيديهم.
ماكينة صناعة الأساطير لم تقف عند التركيز على تاريخية الزيارة، وإنما نسجت عدة أساطير أخرى بشأن دلالاتها، فهي عندهم -كما رأيت- تمثل تحولا إستراتيجيا وترسم خرائط جديدة في المنطقة.
وهى ثانيا خروج من بيت الطاعة الأميركي، ثم إنها ثالثا صفعة للرئيس أوباما مرشحة لأن تدفعه إلى الانتحار، إلى غير ذلك من الإشارات التي تنطلق من أسطورة الصراع بين القاهرة وواشنطن ومناطحة نظام يوليو الجديد للقطب الأعظم في العالم.
وقد سبق أن ناقشت تلك الأسطورة من قبل، وخلصت إلى أن بين مصر والولايات المتحدة حلفا إستراتيجيا له أصول لا يختلف عليها، وله هوامش فرعية تحتمل الاختلاف، والأصول تتمثل في نقطتين جوهريتين، الأولى تتمثل في التسهيلات العسكرية التي تقدمها مصر للولايات المتحدة، المتعلقة بالمرور في قناة السويس وباستخدام الأجواء المصرية، وبالتعاون الاستخباراتي بين الأجهزة المعنية في البلدين. وتلك التسهيلات تقدم مقابل معونة سنوية تقدمها الولايات المتحدة لمصر تقدر بـ2.1 مليار دولار.
النقطة الجوهرية الثانية تتعلق باتفاقية السلام مع إسرائيل التي تعتبرها واشنطن خطا أحمر في سياستها الخارجية بالمنطقة، خارج هذا الإطار فاختلاف السياسات وارد، وهو حاصل بالفعل.
الذين تحدثوا عن التمرد المصري على التبعية الأميركية وعن الصفعة التي تلقتها واشنطن من خلال الزيارة، أو الانقلاب الذي افترضوه في خرائط المنطقة، هؤلاء تناسوا أمورا وحقائق عدة، منها أن الحرب الباردة انتهت، وأن روسيا لم تعد خصما يصارع الولايات المتحدة، رغم أن علاقة التنافس بينهما واردة.
ومنها أيضا أن العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة لا تزال قائمة لم يتغير فيها شيء، ومن ثم فإن التواصل مع موسكو لا يمثل تحولا إستراتيجيا، لكنه يتم في إطار الهوامش المفتوحة التي تستطيع السلطة المصرية أن تتحرك فيها بحرية، وتنشيط التعاون العسكري بين مصر وروسيا يدخل ضمن تلك الهوامش، رغم اعتماد مصر بصفة أساسية على السلاح والنظم العسكرية الأميركية، وهو ما لا يسرنا بطبيعة الحال.
من الحقائق -التي يتم التغاضي عنها أيضا- أن صفقة السلاح الجديدة مع روسيا ممولة من جانب المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، حسب ما أعلنت الصحف، وأي متابع للشأن السياسي يعرف جيدا عمق وتشابك العلاقات بين البلدين وبين الولايات المتحدة، ولا يخطر على باله أن تمول الدولتان صفقة سلاح يمكن أن توصف بأنها ’’صفعة’’ لواشنطن أو مساس بمكانة الرئيس الأميركي الذي ادعى بعض صناع الأساطير أنه يوشك على الانتحار بسبب الصدمة التي تلقاها من القاهرة.
(2)
العالم تغير بعد الثالث من يوليو، تضيف الأسطورة أن التغيير -الذي قاده وزير الدفاع وأدى إلى عزل محمد مرسي وإسقاط نظامه وتعطيل دستوره- أفشل قرارا دوليا تمثل في خطة مشروع الشرق الأوسط الكبير بقيادة تركيا، هدفه إقامة خلافة إسلامية موالية للغرب تلحق الشرق الأوسط بحلف الأطلنطي. وبإفشال تلك المؤامرة فإن العالم انتقل إلى طور جديد أصيبت فيه السياسة الأميركية بضربة موجعة.
تنطلق الأسطورة من فرضيتين، الأولى أن العالم العربي متمرد على الغرب وليس مواليا له ولذلك يتعين تطويعه وإعادته إلى بيت الطاعة مرة أخرى، والثانية أن ثمة قرارا دوليا يستهدف إجهاض ذلك التمرد، من خلال إقامة خلافة إسلامية تلحق الشرق الأوسط بحلف الأطلنطي.
والفرضيتان بمثابة اختراع من صنع خيال أصحابه، أريد به تصور ما جرى في دول الربيع العربي بأنه جزء من مؤامرة غربية كان الإسلام السياسي هو الأداة التي استخدمت في تنفيذها.
وفضلا عن الاعتبارات العملية القائمة على الأرض التي تجعل من فكرة إقامة الخلافة حلما مستحيل التحقيق إلا في ظل حرب تعيد رسم خرائط المنطقة، فإن العالم العربي في وضعه الراهن لا يمثل أي خطر يهدد الولايات المتحدة أو المصالح الغربية، ناهيك عن أن الإسلام السياسي الذي يصور بحسبانه أداة تنفيذ المؤامرة أصبح يفرخ جماعات هي التي تهدد المصالح الغربية في اليمن والعراق مثلا.
وعلى مستوى الدول، فإننا للأسف لا نكاد نرى دولة في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يمكن أن توصف بأنها متمردة على الولايات المتحدة، وإذا كان هناك خطر يهدد مصالحها فهو من التطرف الإسلامي بالدرجة الأولى.
من ناحية أخرى، فإن الذين تحدثوا عن ذلك القرار الدولي الوهمي لم يحددوا مصدره، وإذ اتجهت الأنظار إلى الولايات المتحدة باعتبارها المرشح الأكبر للقيام بذلك الدور فإننا لا نكاد نجد أثرا لذلك المخطط في أي وثيقة سياسية معتبرة. صحيح أن إدارة الرئيس بوش تبنت في عام 2004 مشروع ’’الشروق الأوسط الكبير’’ الذي تصورت أن يضم الدول العربية كلها ومعها تركيا وإسرائيل وإيران إضافة إلى أفغانستان وباكستان، إلا أن الفكرة وئدت في مهدها.
كما أن الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز كان قد تبنى فكرة ’’الشرق الأوسط الكبير’’ التي طرحها في كتاب صدر عام 1993 بالعنوان نفسه، لكنه كان يتحدث عن سوق مشتركة تنضم إليه وتقوده إسرائيل، وهذه أيضا ماتت قبل أن تولد.
أما إقامة خلافة إسلامية بقيادة تركيا موالية للغرب وترتبط بحلف الأطلنطي فليس لها ظل من الحقيقة، وهي لا تعدو أن تكون أسطورة سياسية ودعائية جرى تفصيلها بأثر رجعي لتصفية حسابات مع تركيا ومع الدول العربية التي صوتت أغلبية شعوبها لصالح الإسلام السياسي، واعتبار ذلك كله جزءا من المؤامرة مجهولة المصدر.
(3)
ثمة أسطورة أخرى شائعة تقول إن محمد مرسي أطلق سراح الجهاديين الذين كانوا في السجون المصرية، وأن هؤلاء استعادوا نشاطهم وتمركزوا في سيناء وحولوها إلى قاعدة لإقامة إمارة إسلامية ترتبط بحركة حماس في غزة، وقد أصبح هؤلاء مصدرا للعمليات الإرهابية التي استهدفت الجيش والشرطة وباتت تهدد الأمن القومي المصري.
وقد أعفاني الناشط والباحث الحقوقي المستقل حسام بهجت المدير السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية من تحرير تلك الأسطورة وتفنيدها، ذلك أن موقع ’’صدى مصر’’ نشر له هذا الأسبوع دراسة مهمة ومثيرة فاجأتنا بمعلومات نقضت الفكرة وكشفت عن التغليط والتزييف فيها.
في دراسته أثبت أن ذلك الادعاء لم تطلقه وسائل الإعلام في حملاتها التعبوية فحسب، ولكنه تردد أيضا على لسان وزير الداخلية وغيره من مسؤولي الأجهزة الأمنية الذين تحدثوا في أكثر من مناسبة عن الفكرة للادعاء بأن ثمة علاقة مباشرة بين القرار الذي اتخذه مرسي وبين العمليات الإرهابية اللاحقة، بما يدعم اتهام الإخوان بأنهم أثناء وجودهم في السلطة دعموا التطرف الديني المسلح.
أشار الباحث إلى مؤتمر صحفي عقده وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن فيه إلقاء القبض على واحدة من أخطر البؤر الإرهابية التي ضمت 39 شخصا يقودهم نبيل محمد المغربي الذي ذكر أنه أفرج عنه أثناء فترة حكم الرئيس المعزول، إلا أن حسام بهجت اكتشف أن الرجل أفرج عنه في 5 يونيو/حزيران 2011، أي قبل عام كامل من انتخاب مرسي رئيسا، وتم ذلك بموجب قرار صدر بالعفو عنه لأسباب صحية، وقد أصدر القرار النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود.
أمسك حسام بهجت بذلك الخيط وتتبع قوائم الجهاديين الذين تم الإفراج عنهم بعد تنحي مبارك عن الحكم، وبعد مراجعة وتحليل البيانات الرسمية -التي تضمنت تلك القوائم- فإن النتيجة جاءت مخالفة بصورة جذرية للانطباع السائد والمقولات الرائجة.
هكذا قال في دراسته، مضيفا أنه ’’بينما أصدر مرسي بالفعل قرارات بالعفو الرئاسي عن المئات، فإن أغلب هؤلاء كانوا من المتظاهرين الذين تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري بعد الثورة’’.
كما أنه أصدر بالفعل قرارات بالعفو عن بعض قيادات الجهاديين الذين تم اعتقالهم أثناء سنوات المواجهة مع السلطة في تسعينيات القرن الماضي بسبب كونهم مجرد أعضاء أو متعاطفين، وبسبب عدم وجود أدلة على تورطهم في أعمال إرهابية فإن أجهزة الأمن اكتفت باعتقالهم إداريا دون تقديمهم للمحاكمة.
أضاف صاحبنا أنه إزاء المظاهرات الغاضبة -التي انطلقت ضد نظام مبارك، وفي ظل حكومة الفريق أحمد شفيق- أعلن اللواء محمود وجدي وزير الداخلية آنذاك سياسة جديدة للوزارة تقضي بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين.
وبعد أقل من شهر على تنحي مبارك أصدرت وزارة الداخلية بيانا ذكرت فيه أن قطاع مصلحة السجون قام منذ أول فبراير/شباط 2011 بالإفراج عن 904 معتقلين جنائيين و755 معتقلا سياسيا، وتم ذلك بناء على توجيهات علنية من الفريق شفيق وبمباركة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ذكرت الدراسة أنه في طور لاحق أصدر المجلس العسكري قرارات بالعفو عمن وصفهم ’’بالمحكوم عليهم سياسيا’’، وهؤلاء بلغ عددهم 103 أشخاص، كان من بينهم الشقيقان طارق وعبود الزمر المحكوم عليهما في قضية اغتيال السادات، وبذلك بلغ عدد الإسلاميين الذين أطلق سراحهم قبل تولي مرسي رئاسة البلاد 858 سجينا.
تحقق الباحث من أنه بعد تولي مرسي منصبه لم يكن قد بقي في السجون من الإسلاميين سوى أقل من خمسين شخصا، في حين كانت السجون تكتظ بالشبان الذين قدموا إلى المحاكم العسكرية بعد الثورة، وقد أصدر الرئيس السابق قرارا بالعفو عن 645 من هؤلاء الأخيرين مرة، ثم عن 490 متهما منهم في مرة ثانية.
أما الإسلاميون فإنه أصدر قرارا وحيدا بالعفو عن 27 شخصا منهم، بينهم تسعة من قيادات الإخوان المتواجدين بالخارج (أحدهما سوري والآخر سعودي).
أما الثمانية عشر اسما الباقية فقد كانت من الجهاديين المدانين في قضايا متنوعة، من بينها محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا وتنظيم العائدين من ألبانيا، ثم لم يصدر بعد ذلك أي قرارات عفو أخرى.
مما خلصت إليه دراسة الأستاذ حسام بهجت ’’أن جميع أسماء السجناء السابقين الذين اتهمتهم المصادر الأمنية بالعودة لممارسة الإرهاب خرجوا من السجون بقرارات من المشير طنطاوي بصفته رئيسا للمجلس العسكري، أو بأحكام أصدرها القضاء العسكري’’.
(4)
أهمية الدراسة المثيرة التي نشرت يوم 16/2 على موقع ’’صدى مصر’’ أنها تفتح الأبواب لدراسات جادة أخرى يقوم بها الباحثون الشرفاء بشأن قائمة أخرى من الأساطير الرائجة في مصر التي يتعلق بعضها بتهديد حركة حماس للأمن القومي المصري أو بحكاية بيع قناة السويس أو حقيقة الدولة الدينية التي يقال إن مرسي أقامها أثناء العام الذي أمضاه في السلطة، وحقيقة الدولة المدنية التي بشرنا بها بعد عزله.
في تفسير سيل الأساطير -الذي انهمر علينا أثناء الأشهر السبعة الماضية- لم أجد سوى التعليق البليغ الذي ذكره الأستاذ أحمد سيف الإسلام المحامي والحقوقي المعروف، حين سئل عما وراء إطلاق مثل هذه الأساطير، فكان رده: فتش عن الدولة العميقة.
موقع*الصحوة نت*