أدعو إلى قراءة متأنية لخلفيّات وتداعيات الزلزال الذي حدث في غزة صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. وأبدأ بملاحظة شخصية خلاصتها أنّ الحدث الجلل استدعاني للكتابة بعد انقطاع تجاوز 7 سنوات بعدما عانيت من شعور بالخجل لازمني جنبًا إلى جنب مع شعوري بالبهجة والتفاؤل حينًا والحزن والخزي في أحيان أخرى.
وسبب الخجل أن اعتكافي ضمَّني تلقائيًا إلى مربع المتفرجين والصامتين، وهو ما نفرت منه طوال ستين عامًا. ولم أجد حلًا للخروج من تلك الحالة إلا بالعودة المؤقتة للكتابة أيًا كان مدى تواضعها؛ اقتناعًا مني بأن الجهر بالتضامن والمساندة في هذه اللحظة التاريخية بات فرضَ عين على كل من انتسب إلى حِرفة الكتابة، حتى وإن كان كذلك يومًا ما.
(1)
وإذ قلت إننا بصدد «زلزال» ضرب غزة يوم ذاك، فإنني أستخدم نفس الكلمة التي أطلقها يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس في غزة حين وجّه تحذيرًا إلى الإسرائيليين في لقاء له مع أحد الوسطاء، تم في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، في سياق نقاش عن بعض المشاكل العالقة المتصلة بتعنّت سلطات الاحتلال الإسرائيلية مع العمال الفلسطينيين. وعلى ما ذكر، لي، الراوي- الذي حضر اللقاء- فإنه في ختام حديثه أبلغ الوسيط بأن تلك المشاكل إذا لم تحلّ خلال أسبوعين (أي قبل حلول شهر أكتوبر)، فسوف يواجه الإسرائيليون “زلزالًا” لا قِبل لهم به.
وهي الرسالة المختصرة التي نقلها الوسيط دون أيّ تفاصيل، ولم تأبه سلطات الاحتلال بالتهديد، خصوصًا بعدما حلّ أول أكتوبر دون أن يحدث شيء في القطاع، وهو ما جعلهم لا يحملون الكلام على محمل الجِد ولا يترددون في الاسترخاء بعد دخول الشهر الجديد، إلى أن وقعت الواقعة وكانت الصدمة الكبرى في السابع من أكتوبر.
حين أطلقَ السنوار تهديده فإنه تعمّد تضليل الإسرائيليين وتنويمهم. ولم يكن ذلك التمويه الوحيد الذي مارسه، لأنه وجّه عدة رسائل غير مباشرة أوصلت معلومات مغلوطة أخرى لإسرائيل صرفت انتباه أجهزتها عن حقيقة ما تعدّه حركة حماس. ومن أبرز هذه المواقف أن إسرائيل حين شنّت حملة قمع شديدة استهدفت بعض قيادات حركة الجهاد الإسلامي منذ سنةٍ ونصفٍ، فإن قيادة حماس التزمت الصمت ولم تحرك ساكنًا. وكانت تلك رسالة استهدفت إيهام الإسرائيليين بأن الحركة مشغولة أو مكتفية بحكم قطاع غزة وأنها معنية بحل المشكلات الإنسانية والاقتصادية فيه.
وأثار انتباهي، في هذا الصدد، ما قاله الأستاذ عبد القادر ياسين المناضل والمؤرّخ الفلسطيني، أن 7 أكتوبر/ تشرين الأول لم يكن الموعد الأول للانتفاضة الكبرى، ولكنه كان الموعد الثالث، لأن حماس حدّدت موعدين سابقين، لكنها شكت باحتمال تسريبها عبر حركات المقاومة الأخرى التي أحيطت علمًا بالخبر. وفي رأيه أنه في المرة الثالثة لم تبلغ بعضَ حركات المقاومة الصديقة أو الحليفة الأخرى – حركة الجهاد الإسلامي مثلًا- إلا قبل نصف ساعة من بدء عملية “طوفان الأقصى”.
(2)
لكي نضع المشهد في إطاره الصحيح فينبغي ألا ننسى أن القطاع ظلّ تحت الحصار المُحكم منذ 18 عامًا، وهو ما يعني أن ما يدخله مراقب وخاضع للفحص جيدًا من جانب السلطات الإسرائيلية، بحيث إن كل ما يشكّ في أنه يدخل ضمن عناصر القوة والمَنَعة محظور وغير مسموح بإدخاله إلى القطاع. ومراقبة كل ما يدخل ليست كافية، لأن الطائرات المسيرة (الزنّانة) ترصد كل ما يتحرك. بالتالي فإن كل نشاط إنساني مرصود، بما في ذلك أنشطة حركات المقاومة والتدريبات التي تتم في فضائها ومعسكراتها. إلا أن المقاومة لم تستسلم لذلك الواقع القاسي، وكانت الأنفاق هي أبرز الحلول التي لجأت إليها، حتى يمكن القول؛ إن قوات الاحتلال إذا كانت قد تحكمت في كل ما فوق الأرض، فإن المقاومة أقامت عالمًا آخر لا سلطانَ لها عليه تحت الأرض.
عالم الأنفاق – التي يقدر طولها بحدود 500 كيلومتر – كان ولا يزال المصدر الأساسي للقوة العسكرية الذي توفرت له وفيه كل مستلزماتها من ورش تصنيع السلاح بمختلف أنواعه. إلى شبكات الاتصال ومراكز التوجيه والسيطرة ومعامل التجارب الفنية والدقيقة. وما عاد سرًا أن جهدًا كبيرًا بذل لتهريب السلاح ومستلزماته من مختلف الدول المحيطة. كما أن حشدًا غير قليل من خبراء بمختلف التخصصات اكتسبوا خبراتهم من الدراسة والعمل في العديد من دول العالم المتقدم والنامي، خصوصًا أن الفلسطينيين أدركوا أنهم يقفون وحدهم تمامًا أمام الاحتلال الصهيوني. وإلى جانب استعانتهم بالخبرات المكتسبة الدقيقة التي مكنتهم من صنع «المسيرات»، فإنهم استعانوا أيضًا بما توفر لهم من “خردة” في تصنيع السلاح، تولت عدة مخارط تهذيبها وتشكيلها لتتحول إلى أجزاء فعّالة في عملية التصنيع.
لم يسلط الضوء كثيرًا على ابتكار تصنيع السلاح من الخردة، كما أن عبقرية إقامة شبكة الأنفاق بأنواعها المختلفة أحيطت بستار من الكتمان، وهو الستار الذي أخفت به حقائق الجهد الاستخباري الفائق الذي بذل لرصد كل ما يجري في مستوطنات غِلاف غزة، حتى إن قيادة القسام كانت لديها صور كافية لمباني ومحتوى القوة الإسرائيلية العسكرية المسؤولة عن التحكم في قطاع غزة. وبلغت كفاءة ذلك الجهد حدًا مكّن المقاومة من قطع الاتصال بين قيادة الاحتلال والمستوطنات المنتشرة حول القطاع، ومن ثم اختراقها وتيسير السيطرة عليها خلال ساعات محدودة في السابع من أكتوبر.
حين توفّرت الإرادة واجتمعت الخبرات الفنية العالية نجحت حركة حماس في تأسيس سبع كتائب من المقاتلين قدّر عددهم بنحو 35 ألف شخص كان أكثر ما يميزهم ليس فقط الكفاءة واللياقة والتدريب، لكنهم ظلوا يتنافسون على الاستشهاد في مقاتلة العدو. واعتبر هؤلاء نخبة الحركة، التي قيل إن مجموع أعضائها ناهز عددهم مائة ألف شخص. وشكّل هؤلاء القوة الضاربة للمقاومة التي ضمت مجموعات أخرى لبقية العناصر الوطنية التي في مقدمتها حركة الجهاد الإسلامي والجبهات الشعبية والديمقراطية والجَناح الثوري لحركة فتح. وهؤلاء أصبحوا يشكلون أركان الغرفة المشتركة للمقاومة، والمقاومة الوطنية العامة.
(4)
ثمة جديد في الصراع الدائر. فلأول مرة يدخل القتال شهره الرابع متجاوزًا مبدأ الحرب الخاطفة التي درجت عليها إسرائيل. ولأول مرة تصل صواريخ المقاومة إلى عمق إسرائيل ويُطلب من سكان كل من تل أبيب والمدن الكبرى، الاحتماءُ بالمخابئ. ولأول مرة تسقط هيبة إسرائيل وتسقط في ثناياها أسطورة جيشها واستخباراتها التي اعتقد الجميع أنها لا تهزم. ولأول مرة تصطف الأنظمة الغربية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – في عداء صريح وفجّ للفلسطينيين بعد تخلّيهم عن أداء دور “الوسطاء الشرفاء” الذي روّجوا له، وهو ما يوحي أننا بصدد حرب صليبية جديدة. ولأول مرة ينكشف للعالم بشاعة وجه إسرائيل الحقيقي الذي مُورس منذ 1948 ولم يتوقف لحظة طوال 75 عامًا. ولأول مرة تخرج تظاهرات الأجيال الجديدة في عواصم العالم الغربي الحليفة لإسرائيل منددة بالعدوان الإسرائيلي. وكان مؤسفًا أنه لأول مرة تم إشهار غياب العالم العربي وعجز أنظمته عن الدفاع عن قضيتها “المحورية والمركزية”.
ولأوّل مرة تحاكم إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، الذراع القضائي الرئيسي للأمم المتحدة المسماة “محكمة العالم”، وينفضح أمر إسرائيل وتعرّى سياستها بعد القضية التي تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا متهمةً إياها بجريمة كل الجرائم، وهي إبادة الشعب الفلسطيني.
الذي لا يقل أهمية عن كل ذلك أنه لأول مرة شهد العالم العربي حربًا ومقاومة حقيقية للفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل حدوده منذ نكبة 1948، وذلك يعد تحولًا تاريخيًا تحدى الأمر الواقع الذي فرضته طوال 75 عامًا، وكانت نتيجته الزلزال. إذ تمت استعادة ملف فلسطين بقوة من زوايا النسيان بعدما تم تجاهله طويلًا، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة. وكان ذلك مما جرّأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على حذف فلسطين كلها من خريطة المِنطقة في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، أي قبل أسبوعين فقط من “طوفان الأقصى”.
هذه النقلة المهمة للملف الفلسطيني أحيت من جديد حُلم التحرير واستعادة الأرض بعد أن خبا وهج هذا الحلم بحيث لم يبقَ منه سوى اسم منظمة التحرير. وأتحدث هنا عن استدعاء الحلم بعدما وَهَن العزم وشاع بين الجميع أن إسرائيل عدو تستحيل هزيمته، ناسين أن الصليبيين مكثوا في بلادنا نحو مائتي عام قبل أن يجبروا على الرحيل إلى بلادهم.
على صعيد إحياء الأحلام وإيقاظها من رحم الغيب فإنني ألمح إرهاصات دالة على تحرك مهم للمياه الراكدة في محيطنا. أعني بذلك الموقف السلبي لأغلب الأنظمة الغربية إزاء قضية فلسطين، وإزاء تضامن بعض الدول الأفريقية وقرينتها في أميركا اللاتينية وهي أجواء أعادت إلى الوجود فكرة إحياء دور دول الجنوب. وهو الذي عانى الكثير من استفزاز واستعلاء المستكبرين في دول الشمال. تلك التي دأبت على امتصاص دماء الجنوب وإذلاله بسلطانها حينًا من الدهر وبنموذج الليبرالية الغربية طيلة الدهر. وهو الذي أصبح مجللًا بالعار بعد فشله الذريع في الامتحان الأخلاقي برفض إدانة حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
(5)
أدري أن ثمة فرقًا بين كسب معركة وبين الفوز في الحرب. والأول إنجاز يتم أثناء جولات القتال، أما الفوز فهو لا يعلن إلا بعد وقف إطلاق النار وتوقف القتال.
وليس بعيدًا عن الأذهان إنجاز القوات المسلحة المصرية الذي تحقق في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 وتكلل بعبور خط بارليف، وبه وجهت ضربة موجعة لإسرائيل. لكن التطورات التي حدثت بعد ذلك بزيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل وتصالحه معها، حيث أدّى إلى المقاطعة العربية للقاهرة وانفراط العِقد العربي مع إضعاف القضية الفلسطينية، ذلك كله سحب الكثير من رصيد إنجاز الجيش المصري، حين تبين أن مصر كسبت معركة العبور لكنها خسرت الحرب ضد إسرائيل. لذلك فإن حفاوتنا بما حققته المقاومة في غزة يجب ألا تصرف انتباهنا عن ضرورة الاحتشاد لكسب الحرب ضد إسرائيل يومًا ما، حتى إذا كان بعيدًا. وتلك ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، ولكنها مسؤوليتنا جميعًا ليس من باب التضحية والنخوة ولكن دفاعًا عن أمننا القومي والمصلحة الوطنية لكل قُطر عربي.
ومن المؤسف أنني لا أكاد أجد أحدًا مشغولًا بهذه القضية في الوقت الحالي، وأشهد بأن الفلسطينيين سبقونا بتقديم حصتهم فيها، وكتبوا صفحتهم ببسالة رجالهم ودماء شعبهم.
*نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام