بقلم فهمي هويدي
حين اجتمعت لجنة تقصي حقائق أحداث ما بعد 30 يونيو بالقاهرة يوم السبت الماضي (4/1) كان بعض النشطاء الحقوقيين يعقدون في الوقت نفسه مؤتمرا لهم بمقر نقابة الصحفيين حول «أذرع الظلم» في ظل المرحلة ذاتها. لجنة تقصي الحقائق آثرت أن تبدأ عملها بالتصدي لملف إحراق بعض الكنائس، بعدما عدلت من برنامجها الذي سبق إعلانه وذكرت فيه أنها ستنظر في عشرة ملفات أولها ما خص مذبحة الحرس الجمهوري. لكن يبدو أن الملفات المتعلقة بموضوع الإخوان وحلفائهم تقرر تأجيلها لاعتبارات تتعلق بالملاءمات السياسية، وهو ما لا يقلل من شأن ملف حرق بعض الكنائس بطبيعة الحال، الذي لا يقل أهمية عن الملفات الأخرى.
لأن اللجنة المذكورة حكومية ومشكلة بقرار جمهوري فإنها شغلت بالإجراءات. في حين أن مؤتمر الحقوقيين تجاوزها بكثير لأن المتحدثين لهم خبراتهم الطويلة التي مكنتهم من رصد العديد من الانتهاكات في مرحلة ما بعد 30 يونيو، وفي حين أن اللجنة كانت تتحسس مهمتها وتطرح الأسئلة بحذر ملحوظ، فإن مؤتمر الحقوقيين قدم التشخيص والأجوبة، إذ انطلق من أن ثمة ظلما واقعا بحق المجتمع خلال تلك المرحلة. وربما لهذا السبب فإن أغلب الصحف التي صدرت صباح الأحد تجاهلت المؤتمر في الوقت الذي أبرزت فيه خبر اجتماع اللجنة الحكومية على صفحاتها الأولى. الأمر الذي لم يخل من مفارقة، لأن مؤتمر الحقوقيين لامس الحقائق كما هي، في حين أن لجنة التقصي، لا يتوقع منها سوى أن تصور الحقائق كما أرادتها السلطة والأجهزة الأمنية. كما سنرى بعد قليل.
في هذا الصدد أزعم أن ما قيل في مؤتمر الحقوقيين أهم بكثير مما جرى في اجتماع اللجنة. أخص بالذكر شهادتين لاثنين من النشطاء، الأولى للأستاذ أحمد سيف الإسلام عبدالفتاح ـ وهو محام ـ أحد مؤسسي مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان، والثانية للدكتورة عايدة سيف الدولة مديرة مركز النديم. الملمح الرئيسي في شهادة الأستاذ سيف الإسلام تمثل في استعراض مواقف القضاء والنيابة إزاء النشطاء، التي وصفها بأنها كارثية وتبعث على التشاؤم بالمستقبل إذا ما استمرت على صورتها الراهنة، وفي حين اعتبر الحكم الذي صدر بحق فتيات الإسكندرية «عارا في جبين قضاة المرحلة»، حتى بعد تخفيفه، فإنه انتقد بشدة الإهدار المستمر لقواعد القانون ونصوصه في تصريحات بعض كبار المسؤولين في الهيئة القضائية، وأبدى دهشة إزاء تصريح وزير العدالة الانتقالية المستشار أمين المهدي الذي اعتبر فيه أن مجرد صدور قرار بإحالة بعض الإخوان إلى محكمة الجنايات مبررا لإعلان الجماعة منظمة إرهابية، لأن الإحالة لا تعد دليل إدانة وإنما يظل المتهم بريئا حتى يصدر حكم نهائي بإدانته، واستشهد بتصريحات أخرى نشرتها الصحف منسوبة إلى قضاة خالفوا فيها صحيح القانون وتلاعبوا بنصوصه. كما تحدث عن التحقيقات التي تجرى مع الناشطين والتي تفتقد إلى أبسط ضمانات العدالة، خصوصا حين تتم في مقار الأجهزة الأمنية وتحت رقابة رجالها.
الدكتورة عايدة سيف الدولة تحدثت عن تجاوزات الشرطة وتدخلاتها ليس فقط من خلال ما تمارسه من ضغوط على القضاة والمحققين، وإنما أيضا من خلال تلاعبها في الأدلة وقمعها للنشطاء الذي لم يتوقف طيلة السنوات الثلاث الأخيرة. وأضافت أن ذراع الداخلية وصلت إلى المستشفيات حيث أصبح الإهمال الطبى إحدى أدوات القمع. قالت أيضا إنه منذ إعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية أصبح إطلاق النار على المتظاهرين حدثا يوميا تستخدم فيه القوة المفرطة. واستشهدت بأنه في اليوم السابق على عقد المؤتمر الجمعة 3/1 تم قتل 17مواطنا من المتظاهرين بشهادة وزارة الصحة. وبسبب استمرار حلقات العنف المفرط فإنه تم قتل 2260 شخصا منذ بداية يوليو الماضي (2013) وحتى نهاية شهر ديسمبر. لذلك اعتبرت أن عنف الداخلية أصبح زائدا على الحد، ويتعين إيقافه قبل فوات الأوان.
الصورة القاتمة التي قدمها الحقوقيون (14 منظمة اشتركت في المؤتمر) تمثل تحديا للجنة تقصى الحقائق، لسبب جوهري هو أن الحقوقيين المستقلين سيقدمون الصورة كما هي بغير تخفيف، بالتالي فإنهم سوف يسلطون الضوء على ما هو مسكوت عليه من جانب اللجنة الحكومية، خصوصا أن بيانات وزارة الداخلية حسمت أهم الوقائع التي يفترض أن تتحرى اللجنة حقائقها (مذبحة الحرس الجمهوري وفض اعتصام رابعة وميدان النهضة مثلا). إزاء ذلك فإن البيانات سوف تحدد سقف اللجنة الذي لن تستطيع تجاوزه.
في هذا الصدد فإننا لن نستطيع أن ننسى خبرتنا السابقة مع تقصى حقائق مرحلة ما بعد الثورة، الذي باشرته لجنتان تولي رئاستهما اثنان من أعلام القضاء والقانون في مصر (هما المستشار عادل قورة الذي كان رئيسا لمحكمة النقض والمستشار محمد عزت شرباص رئيس الاستئناف الأسبق) وقد غطى الأول مرحلة الثورة من 25 يناير إلى 9 فبراير عام 2011، وتقصى الثاني حقائق مرحلة المجلس العسكري التي تلت ذلك مباشرة. ولأن التقريرين أشارا بأصبع الاتهام صراحة إلى الشرطة والمؤسسة الأمنية فيما وقع من حوادث وانتهاكات فقد تم تجاهلهما بالكامل، في حين جرى الاعتماد على تقارير الأجهزة الأمنية وشهادة رجالها في كل القضايا التي نظرت تلك الحوادث. فتمت تبرئة الشرطة وأدين غيرهم.
لحظ لجنة تقصي حقائق أحداث ما بعد 30 يونيو أنها تشكلت في ظروف ازدادت فيها سطوة المؤسسة الأمنية الأمر الذي يجعلنا لا نطمئن إلى نتائج أعمالها، التي أخشى أن تنتهي إلى طمس الحقائق وليس تقصيها. ومن شأن ذلك أن يضعنا أمام صيغتين لتأريخ تلك المرحلة، إحداهما محكومة بسقف المؤسسة الأمنية، والثانية مكتوبة بدماء الضحايا والمعذبين كما أدركها بعض الحقوقيين الشجعان.
موقع *الصحوة نت*
حين اجتمعت لجنة تقصي حقائق أحداث ما بعد 30 يونيو بالقاهرة يوم السبت الماضي (4/1) كان بعض النشطاء الحقوقيين يعقدون في الوقت نفسه مؤتمرا لهم بمقر نقابة الصحفيين حول «أذرع الظلم» في ظل المرحلة ذاتها. لجنة تقصي الحقائق آثرت أن تبدأ عملها بالتصدي لملف إحراق بعض الكنائس، بعدما عدلت من برنامجها الذي سبق إعلانه وذكرت فيه أنها ستنظر في عشرة ملفات أولها ما خص مذبحة الحرس الجمهوري. لكن يبدو أن الملفات المتعلقة بموضوع الإخوان وحلفائهم تقرر تأجيلها لاعتبارات تتعلق بالملاءمات السياسية، وهو ما لا يقلل من شأن ملف حرق بعض الكنائس بطبيعة الحال، الذي لا يقل أهمية عن الملفات الأخرى.
لأن اللجنة المذكورة حكومية ومشكلة بقرار جمهوري فإنها شغلت بالإجراءات. في حين أن مؤتمر الحقوقيين تجاوزها بكثير لأن المتحدثين لهم خبراتهم الطويلة التي مكنتهم من رصد العديد من الانتهاكات في مرحلة ما بعد 30 يونيو، وفي حين أن اللجنة كانت تتحسس مهمتها وتطرح الأسئلة بحذر ملحوظ، فإن مؤتمر الحقوقيين قدم التشخيص والأجوبة، إذ انطلق من أن ثمة ظلما واقعا بحق المجتمع خلال تلك المرحلة. وربما لهذا السبب فإن أغلب الصحف التي صدرت صباح الأحد تجاهلت المؤتمر في الوقت الذي أبرزت فيه خبر اجتماع اللجنة الحكومية على صفحاتها الأولى. الأمر الذي لم يخل من مفارقة، لأن مؤتمر الحقوقيين لامس الحقائق كما هي، في حين أن لجنة التقصي، لا يتوقع منها سوى أن تصور الحقائق كما أرادتها السلطة والأجهزة الأمنية. كما سنرى بعد قليل.
في هذا الصدد أزعم أن ما قيل في مؤتمر الحقوقيين أهم بكثير مما جرى في اجتماع اللجنة. أخص بالذكر شهادتين لاثنين من النشطاء، الأولى للأستاذ أحمد سيف الإسلام عبدالفتاح ـ وهو محام ـ أحد مؤسسي مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان، والثانية للدكتورة عايدة سيف الدولة مديرة مركز النديم. الملمح الرئيسي في شهادة الأستاذ سيف الإسلام تمثل في استعراض مواقف القضاء والنيابة إزاء النشطاء، التي وصفها بأنها كارثية وتبعث على التشاؤم بالمستقبل إذا ما استمرت على صورتها الراهنة، وفي حين اعتبر الحكم الذي صدر بحق فتيات الإسكندرية «عارا في جبين قضاة المرحلة»، حتى بعد تخفيفه، فإنه انتقد بشدة الإهدار المستمر لقواعد القانون ونصوصه في تصريحات بعض كبار المسؤولين في الهيئة القضائية، وأبدى دهشة إزاء تصريح وزير العدالة الانتقالية المستشار أمين المهدي الذي اعتبر فيه أن مجرد صدور قرار بإحالة بعض الإخوان إلى محكمة الجنايات مبررا لإعلان الجماعة منظمة إرهابية، لأن الإحالة لا تعد دليل إدانة وإنما يظل المتهم بريئا حتى يصدر حكم نهائي بإدانته، واستشهد بتصريحات أخرى نشرتها الصحف منسوبة إلى قضاة خالفوا فيها صحيح القانون وتلاعبوا بنصوصه. كما تحدث عن التحقيقات التي تجرى مع الناشطين والتي تفتقد إلى أبسط ضمانات العدالة، خصوصا حين تتم في مقار الأجهزة الأمنية وتحت رقابة رجالها.
الدكتورة عايدة سيف الدولة تحدثت عن تجاوزات الشرطة وتدخلاتها ليس فقط من خلال ما تمارسه من ضغوط على القضاة والمحققين، وإنما أيضا من خلال تلاعبها في الأدلة وقمعها للنشطاء الذي لم يتوقف طيلة السنوات الثلاث الأخيرة. وأضافت أن ذراع الداخلية وصلت إلى المستشفيات حيث أصبح الإهمال الطبى إحدى أدوات القمع. قالت أيضا إنه منذ إعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية أصبح إطلاق النار على المتظاهرين حدثا يوميا تستخدم فيه القوة المفرطة. واستشهدت بأنه في اليوم السابق على عقد المؤتمر الجمعة 3/1 تم قتل 17مواطنا من المتظاهرين بشهادة وزارة الصحة. وبسبب استمرار حلقات العنف المفرط فإنه تم قتل 2260 شخصا منذ بداية يوليو الماضي (2013) وحتى نهاية شهر ديسمبر. لذلك اعتبرت أن عنف الداخلية أصبح زائدا على الحد، ويتعين إيقافه قبل فوات الأوان.
الصورة القاتمة التي قدمها الحقوقيون (14 منظمة اشتركت في المؤتمر) تمثل تحديا للجنة تقصى الحقائق، لسبب جوهري هو أن الحقوقيين المستقلين سيقدمون الصورة كما هي بغير تخفيف، بالتالي فإنهم سوف يسلطون الضوء على ما هو مسكوت عليه من جانب اللجنة الحكومية، خصوصا أن بيانات وزارة الداخلية حسمت أهم الوقائع التي يفترض أن تتحرى اللجنة حقائقها (مذبحة الحرس الجمهوري وفض اعتصام رابعة وميدان النهضة مثلا). إزاء ذلك فإن البيانات سوف تحدد سقف اللجنة الذي لن تستطيع تجاوزه.
في هذا الصدد فإننا لن نستطيع أن ننسى خبرتنا السابقة مع تقصى حقائق مرحلة ما بعد الثورة، الذي باشرته لجنتان تولي رئاستهما اثنان من أعلام القضاء والقانون في مصر (هما المستشار عادل قورة الذي كان رئيسا لمحكمة النقض والمستشار محمد عزت شرباص رئيس الاستئناف الأسبق) وقد غطى الأول مرحلة الثورة من 25 يناير إلى 9 فبراير عام 2011، وتقصى الثاني حقائق مرحلة المجلس العسكري التي تلت ذلك مباشرة. ولأن التقريرين أشارا بأصبع الاتهام صراحة إلى الشرطة والمؤسسة الأمنية فيما وقع من حوادث وانتهاكات فقد تم تجاهلهما بالكامل، في حين جرى الاعتماد على تقارير الأجهزة الأمنية وشهادة رجالها في كل القضايا التي نظرت تلك الحوادث. فتمت تبرئة الشرطة وأدين غيرهم.
لحظ لجنة تقصي حقائق أحداث ما بعد 30 يونيو أنها تشكلت في ظروف ازدادت فيها سطوة المؤسسة الأمنية الأمر الذي يجعلنا لا نطمئن إلى نتائج أعمالها، التي أخشى أن تنتهي إلى طمس الحقائق وليس تقصيها. ومن شأن ذلك أن يضعنا أمام صيغتين لتأريخ تلك المرحلة، إحداهما محكومة بسقف المؤسسة الأمنية، والثانية مكتوبة بدماء الضحايا والمعذبين كما أدركها بعض الحقوقيين الشجعان.
موقع *الصحوة نت*