د. فيصل بن جاسم آل ثاني
في منتصف القرن الثالث الهجري ومن بلدة سلميَّة انطلقت الدعوة الباطنية وسُميت باطنية لقول المنتسبين إليها: إن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا، وانطلقت هذه الدعوة بطريقة سرية تدعو لعقائد مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وعقيدة المسلمين عامة، وتنص على طاعة أئمة تزعم أنهم معصومون وأنهم أولى من غيرهم من الناس بالحكم لأنهم - كما يزعمون - مُنصَّبون من الله وإن الإيمان بهم هو كالإيمان بالله ورسوله، وإن جُحود إمامتهم كفر مخرج من الملة.
ثم تجلى هذا المشروع الباطني - الدعوة الباطنية - على شكل عدة دول سادت وبسطت نفوذها على الجزء العربي من العالم الإسلامي وهي كالتالي:
1 - دولة القرامطة: والتي تأسست سنة278هـ، وسُميت بهذا الاسم نسبة لحمدان بن قرمط زعيم الدعوة في البصرة الذي أرسل أبا سعيد الجنابي إلى الأحساء والقطيف فنشر الدعوة وأسس الدولة القرمطية التي اتسعت بعد ذلك فشملت أغلب أرجاء الجزيرة العربية وجنوب العراق، وكانت تقطع القوافل بما فيها قوافل الحجيج، فتسلب الأموال وتسفك الدماء، حتى إن نساء القرامطة كُن يُجهزن على الجرحى والأطفال فيمعنَّ فيهم تقتيلا وذلك من فرط ما أُشربوا من حقد وكراهية على المسلمين.
وفي عام 317 غزا القرامطة المسجد الحرام وسفكوا الدماء وذبحوا الآمنين في الحرم، قال الإمام الذهبي: «استباح أميرهم أبوطاهر القرمطي الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة، يصيح:
أنا بالله وبالله أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم نقلوا الحجر الأسود إلى الأحساء وبقي هناك نحو عشرين عاما إلى أن رد عام 339هـ.
2 - الدولة الفاطمية العبيدية: والتي تأسست عام 297 في شمال إفريقيا في شرق الجزائر حاليا ثم أنشأ أول زعمائها عبيدالله المهدي مدينة المهدية في تونس وجعلها عاصمة حكمه، وبلغت هذه الدول في أوج اتساعها أجزاء واسعة من المغرب العربي ومصر والحجاز والشام وصقلية وكان لها نفوذ قوي في السودان، وامتد نفوذهم إلى بغداد حتى خُطِب للفاطميين في عاصمة العباسيين سنة كاملة بعد تشيع أبي الحارث البساسيري أحد القادة العسكريين العباسيين الذي ثار على الخليفة واستولى على بغداد وطرد الخليفة منها عام 450 وأعلن الخضوع للدولة الفاطمية، فسميت هذه الحادثة في كتب التاريخ فتنة البساسيري.
وفي زعيمهم قال أبوهانئ الأندلسي:
ما شئتَ لا ما شاءَتِ الأقدار
فاحكمْ فأنتَ الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصـار
3 - الدولة البويهية: نسبة للأسرة البويهية التي حكمت غرب إيران سنة321هـ وامتد نفوذها إلى العراق وأصبح الخليفة العباسية ألعوبة في يدهم لا يحكم حتى قصره، وقد شجعوا الفتنة الطائفية، وإن اختلفت الدولة البويهية في بعض التفاصيل العقدية عن بقية الدول الأخرى، إلا أنها بالجملة إحدى مكونات المشروع الباطني، وفيهم يقول المؤرخ ابن كثير: إنهم «أعلنوا لعن الخلفاء الراشدين الثلاثة وكانت الطبول تضرب في بغداد ونحوها من البلاد يوم عاشوراء ويُذرُّ الرماد في الطرقات ويُظهر الناس البكاء ويَمتنع الرجال عن شرب الماء ليلتَئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشان، وتخرُج النساء حاسرات عن وجوههن فينُحن ويلطِمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتكات المخترعة».
4 - الدولة الصليحية: نسبة إلى مؤسسها علي بن محمد الصليحي وقد قامت في اليمن عام 429هـ ابتداء من مدينة مسار ثم زَبيد إلى أن استطاع الصليحي توحيد اليمن جميعها تحت رايته، وكانت هذه الدولة تدين بالولاء السياسي والعقدي للدولة الفاطمية.
5 - دولة الحشاشين: ومؤسسها حسن بن الصبَّاح الحميري الذي نشأ في الري (طهران) ودرس بالأزهر عندما كان ينشر الدعوة الباطنية، وخالف ما فعله الوزير الفاطمي القوي بدر الجمالي من نقل الإمامة الفاطمية من الأخ الأكبر إلى الأصغر ابن أخت الوزير، فخرج من مصر باتجاه الشرق وأخذ يبث دعوته ويبحث له عن موطن قدم في القلاع الموجودة في الأماكن الوعرة حتى استقر في قلعة آلموت سنة483هـ.
واعتمد الحشاشون أساليب العنف والاغتيالات وتمكنوا من قتل العديد من الأمراء من أهمهم الأمير مودود الحاكم الموصل، وقد حاولوا اغتيال صلاح الدين نفسه أكثر من مرة ولكنه لم يُصب سوى بجروح خفيفة بفضل الله ثم بفضل الدروع التي كان يرتديها، ثم اتخذ صلاح الدين بعد ذلك احتياطات مشددة للحفاظ على حياته، من ذلك أنه كان ينام في برج خشبي أُقيم خصيصا له ولم يكن يسمح لأحد الاقتراب منه إلا بإذن شخصي منه.
وفي قصة مثيرة يرويها المؤرخ كمال الدين يقول فيها: إن زعيم الحشاشين أرسل مبعوثا إلى صلاح الدين الأيوبي وأمره أن يسلم رسالته إليه دون حضور أحد، فأمر صلاح الدين بتفتيش المبعوث وعندما لم يجدوا معه شيئا خطيرا أمر صلاح الدين بالمجلس فانفض ولم يعد ثمة سوى عدد قليل من الناس، وقال للمبعوث ائتني برسالتك، فقال: «أمرني سيدي ألا أقدم لك الرسالة إلا في عدم حضور أحد» فأمر صلاح الدين بإخلاء القاعة تماما إلا من اثنين من المماليك يقفان عند رأسه ولكن المبعوث أجاب: «لقد أمرت بألا أقدم الرسالة في حضور أحد على الإطلاق» فقال صلاح الدين: هذان المملوكان لا يفترقان عني، فإذا أردت فقدم رسالتك وإلا فارحل، عندئذ التفت المبعوث إلى المملوكين وسألهما: «إذا أمرتكما باسم سيدي أن تقتلا هذا السلطان فهل تفعلان؟» فردا قائلين «نعم»، وجردا سيفهما وقالا: «أؤمُرنا بما شئت» فدهش السلطان صلاح الدين وعندها غادر المبعوث المكان وأخذ معه المملوكين، وكانت هذه رسالته.
لقد مثلت هذه الدول مجتمعة مكونات المشروع الباطني السياسي والعقدي الذي أضر بالأمة وكلفها ثمنا باهظا من الدماء والأموال وأشغل الأمة بالصراعات الداخلية وتسبب في ضعف اللحمة الداخلية.
وختاما فليس المقصود من المقال الحديث عن هذه الدول ولا عن عقائدها وإلا لطال بنا المقام، وإنما المقصود ذكر وقائع حدثت بالفعل تُبين كيف تسلل في غفلة ما المشروع الباطني إلى أن هيمن على أهم حواضر البلاد الإسلامية حتى لا تكاد تجد بلدا في العالم العربي خارج تأثير هذا المشروع بشكل مباشر أو غير مباشر.
والناظر في الواقع المعاصر يرى مدى التشابه بين المشروع الباطني القديم والمشروع الباطني المعاصر الذي ترتسم ملامحه من خلال ابتلاعه الدول العربية الواحدة إثر الأخرى.
قال تعالى: «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».
[email protected]
صفحة الكاتب على تويتر http://twitter.com/AlThani_Faisal
في منتصف القرن الثالث الهجري ومن بلدة سلميَّة انطلقت الدعوة الباطنية وسُميت باطنية لقول المنتسبين إليها: إن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا، وانطلقت هذه الدعوة بطريقة سرية تدعو لعقائد مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وعقيدة المسلمين عامة، وتنص على طاعة أئمة تزعم أنهم معصومون وأنهم أولى من غيرهم من الناس بالحكم لأنهم - كما يزعمون - مُنصَّبون من الله وإن الإيمان بهم هو كالإيمان بالله ورسوله، وإن جُحود إمامتهم كفر مخرج من الملة.
ثم تجلى هذا المشروع الباطني - الدعوة الباطنية - على شكل عدة دول سادت وبسطت نفوذها على الجزء العربي من العالم الإسلامي وهي كالتالي:
1 - دولة القرامطة: والتي تأسست سنة278هـ، وسُميت بهذا الاسم نسبة لحمدان بن قرمط زعيم الدعوة في البصرة الذي أرسل أبا سعيد الجنابي إلى الأحساء والقطيف فنشر الدعوة وأسس الدولة القرمطية التي اتسعت بعد ذلك فشملت أغلب أرجاء الجزيرة العربية وجنوب العراق، وكانت تقطع القوافل بما فيها قوافل الحجيج، فتسلب الأموال وتسفك الدماء، حتى إن نساء القرامطة كُن يُجهزن على الجرحى والأطفال فيمعنَّ فيهم تقتيلا وذلك من فرط ما أُشربوا من حقد وكراهية على المسلمين.
وفي عام 317 غزا القرامطة المسجد الحرام وسفكوا الدماء وذبحوا الآمنين في الحرم، قال الإمام الذهبي: «استباح أميرهم أبوطاهر القرمطي الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة، يصيح:
أنا بالله وبالله أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم نقلوا الحجر الأسود إلى الأحساء وبقي هناك نحو عشرين عاما إلى أن رد عام 339هـ.
2 - الدولة الفاطمية العبيدية: والتي تأسست عام 297 في شمال إفريقيا في شرق الجزائر حاليا ثم أنشأ أول زعمائها عبيدالله المهدي مدينة المهدية في تونس وجعلها عاصمة حكمه، وبلغت هذه الدول في أوج اتساعها أجزاء واسعة من المغرب العربي ومصر والحجاز والشام وصقلية وكان لها نفوذ قوي في السودان، وامتد نفوذهم إلى بغداد حتى خُطِب للفاطميين في عاصمة العباسيين سنة كاملة بعد تشيع أبي الحارث البساسيري أحد القادة العسكريين العباسيين الذي ثار على الخليفة واستولى على بغداد وطرد الخليفة منها عام 450 وأعلن الخضوع للدولة الفاطمية، فسميت هذه الحادثة في كتب التاريخ فتنة البساسيري.
وفي زعيمهم قال أبوهانئ الأندلسي:
ما شئتَ لا ما شاءَتِ الأقدار
فاحكمْ فأنتَ الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصـار
3 - الدولة البويهية: نسبة للأسرة البويهية التي حكمت غرب إيران سنة321هـ وامتد نفوذها إلى العراق وأصبح الخليفة العباسية ألعوبة في يدهم لا يحكم حتى قصره، وقد شجعوا الفتنة الطائفية، وإن اختلفت الدولة البويهية في بعض التفاصيل العقدية عن بقية الدول الأخرى، إلا أنها بالجملة إحدى مكونات المشروع الباطني، وفيهم يقول المؤرخ ابن كثير: إنهم «أعلنوا لعن الخلفاء الراشدين الثلاثة وكانت الطبول تضرب في بغداد ونحوها من البلاد يوم عاشوراء ويُذرُّ الرماد في الطرقات ويُظهر الناس البكاء ويَمتنع الرجال عن شرب الماء ليلتَئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشان، وتخرُج النساء حاسرات عن وجوههن فينُحن ويلطِمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتكات المخترعة».
4 - الدولة الصليحية: نسبة إلى مؤسسها علي بن محمد الصليحي وقد قامت في اليمن عام 429هـ ابتداء من مدينة مسار ثم زَبيد إلى أن استطاع الصليحي توحيد اليمن جميعها تحت رايته، وكانت هذه الدولة تدين بالولاء السياسي والعقدي للدولة الفاطمية.
5 - دولة الحشاشين: ومؤسسها حسن بن الصبَّاح الحميري الذي نشأ في الري (طهران) ودرس بالأزهر عندما كان ينشر الدعوة الباطنية، وخالف ما فعله الوزير الفاطمي القوي بدر الجمالي من نقل الإمامة الفاطمية من الأخ الأكبر إلى الأصغر ابن أخت الوزير، فخرج من مصر باتجاه الشرق وأخذ يبث دعوته ويبحث له عن موطن قدم في القلاع الموجودة في الأماكن الوعرة حتى استقر في قلعة آلموت سنة483هـ.
واعتمد الحشاشون أساليب العنف والاغتيالات وتمكنوا من قتل العديد من الأمراء من أهمهم الأمير مودود الحاكم الموصل، وقد حاولوا اغتيال صلاح الدين نفسه أكثر من مرة ولكنه لم يُصب سوى بجروح خفيفة بفضل الله ثم بفضل الدروع التي كان يرتديها، ثم اتخذ صلاح الدين بعد ذلك احتياطات مشددة للحفاظ على حياته، من ذلك أنه كان ينام في برج خشبي أُقيم خصيصا له ولم يكن يسمح لأحد الاقتراب منه إلا بإذن شخصي منه.
وفي قصة مثيرة يرويها المؤرخ كمال الدين يقول فيها: إن زعيم الحشاشين أرسل مبعوثا إلى صلاح الدين الأيوبي وأمره أن يسلم رسالته إليه دون حضور أحد، فأمر صلاح الدين بتفتيش المبعوث وعندما لم يجدوا معه شيئا خطيرا أمر صلاح الدين بالمجلس فانفض ولم يعد ثمة سوى عدد قليل من الناس، وقال للمبعوث ائتني برسالتك، فقال: «أمرني سيدي ألا أقدم لك الرسالة إلا في عدم حضور أحد» فأمر صلاح الدين بإخلاء القاعة تماما إلا من اثنين من المماليك يقفان عند رأسه ولكن المبعوث أجاب: «لقد أمرت بألا أقدم الرسالة في حضور أحد على الإطلاق» فقال صلاح الدين: هذان المملوكان لا يفترقان عني، فإذا أردت فقدم رسالتك وإلا فارحل، عندئذ التفت المبعوث إلى المملوكين وسألهما: «إذا أمرتكما باسم سيدي أن تقتلا هذا السلطان فهل تفعلان؟» فردا قائلين «نعم»، وجردا سيفهما وقالا: «أؤمُرنا بما شئت» فدهش السلطان صلاح الدين وعندها غادر المبعوث المكان وأخذ معه المملوكين، وكانت هذه رسالته.
لقد مثلت هذه الدول مجتمعة مكونات المشروع الباطني السياسي والعقدي الذي أضر بالأمة وكلفها ثمنا باهظا من الدماء والأموال وأشغل الأمة بالصراعات الداخلية وتسبب في ضعف اللحمة الداخلية.
وختاما فليس المقصود من المقال الحديث عن هذه الدول ولا عن عقائدها وإلا لطال بنا المقام، وإنما المقصود ذكر وقائع حدثت بالفعل تُبين كيف تسلل في غفلة ما المشروع الباطني إلى أن هيمن على أهم حواضر البلاد الإسلامية حتى لا تكاد تجد بلدا في العالم العربي خارج تأثير هذا المشروع بشكل مباشر أو غير مباشر.
والناظر في الواقع المعاصر يرى مدى التشابه بين المشروع الباطني القديم والمشروع الباطني المعاصر الذي ترتسم ملامحه من خلال ابتلاعه الدول العربية الواحدة إثر الأخرى.
قال تعالى: «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».
[email protected]
صفحة الكاتب على تويتر http://twitter.com/AlThani_Faisal