مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
دموع النبوة ( 5 )
بقلم مها المحمدي-خاص بالوفاق
تدلت أيام الله مشرقة على صفحة الكون تُدافع العتمة ، والعتمة تتكتل تريد البقاء ، بل والجثوم على صدر الكون ؛ لتزهق أنفاس النور .
( الله أكبر ) رددها الموحدون ، تخترق الأفق ، فقامت لها ألسنة الشياطين ناعقة ، نائحة ؛ تندب الشرك وأهله ، تهرب إلى داخل العتمة ثم تُوسِعها بأكف من شوك ؛ لتبتلع النور .
في ليلة من ليالي القَدر ، وقف الفريقان على حافة قضاء الله تعالى ، عدوة دنيا و قصوى ، والركب أسفل منهم ، يجمع بينهما الموت والحياة ، مُحِي فيها كل درب للسِعة إلا سِعةُ الأرواح مطلوقة تناجي ربها ، نام الجميع إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقف متضرعاً لله ، خاشعاً ذليلاً ، ثلاث عشرة سنة في مكة يُغالبهم ، فيَغلبونه سيطرة على الأرض والأجساد ، ويَغلِبهم تَسلل كلماته إلى القلوب والعقول !
كل تلك الذكريات بمرارة الصبر فيها وحلاوة الصمت معقوداً بروعة التوحيد ، كانت حاضرة بين الفريقين وذاكرة الأيام تَطوي وتَفرد منها ما تشاء ، والخوف حلقة تتردد في جوف الفريقين على اختلافه .
فريق الشرك كان خوفه يتردد في حَلقِه بعنجهية كِبر الشرك وصلفه ، وفريق الإيمان كان خوفه حَلقةً في سلسلة الثبات التي بدأها من هناك ، وجموع القهر تزحف من جوفه يردها سؤال :
كيف يكون اللقاء ؟
نام الجميع يُغشّيهم النعاس أمنة منه – سبحانه وتعالى - إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنى له أن ينام ؟!
في النهار كان يٌشير إلى مصارع القوم يرى الشخص مجندلاً في كفره قبل دمه فيشير إلى موقع المصرع ، كان تَنقله بين يدي معجزة التاريخ ، تنقل من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وفي الليل وقف مقام العبودية تستمطر الرحمات ، لم يكن الشاك في وعد ربه له ولكنه الصدر يمتلأ ويموج فيجيش فتهدر العينان واللسان :
’’ اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً ’’ حتى يسقط رداؤه عن كتفيه لشدة ما تعالجه نفسه وعيناه – صلى الله عليه وسلم - فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .
وربنا الرحمن الرحيم يسجل في كتابه العظيم ضراعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } الأنفال 9
بين الذي جاء بالصدق والذي صَّدق به مواقف تنبع من إحساس واحد بتصور واحد وجمالية لها آفاق في التخييل ، منها موقف الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا ، بعد أن همس له ، لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لرآنا ، وهنا يوم بدر يُهون الصديق على الذي جاء بالصدق وهو يرفع رداءه الساقط على الأرض تساقط دمعه الشريف على وجنتيه .
لكأني بالرداء وقد ارتجف محبة وتساقطت نفسه من بين خيوطه يعز عليه بكاء الأكرم – صلى الله عليه وسلم – فما طاق انعطافاً على الأعطاف فهوى يلثم القدمين !
وبين الرداء وأبي بكر حب مشترك، التزام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العمر كله ، سر الحياة الجميل أن تلتزم من تُحب في عبوسها وتبسمها .
هناك يوم الغار سأل أبوبكر سؤال المُطمئِن لا المستغيث يستزيد من منبع الطمأنينة ، وهنا كان المُطَمئِن المُذكر لنبيه وعد ربه ، وما نسي نبيه الكريم – صلى الله عليه وسلم - ولكنه عزم المستغيث في موقف الحرب بين يدي القادر على الهلاك والنجاة ، والعصبة المؤمنة أرهقها صلف الكافرة ، لقد أثبتت لها سابقاً أنها صامدة باقية على الحق لاينزعه من قلبها جبروت ولا طغيان والآن تريد أن تضرب بيدها لتدك ثقة ذلك الطغيان بخيله ورَجِله .
شيعت دموع النبوة أول أحداث المعركة برجاء النصر، وجثت على نهايتها ؛ تطلب المغفرة ؟
لقد أنجز الله وعده وهُزم القوم، فهم بين قتيل وأسير وعائد إلى مكة بعار الدهر كما صور له شيطانه ، واستشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صحبه الكرام في شأن الأسرى ، وأخذ برأي أبي بكر – رضي الله عنه – حين قال :
يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً ، وترك رأي عمر في قتلهم ؛ لقد برر الفاروق رأيه : ليعلم الله ليست في قلوبنا هوادة للمشركين .
وأنزل الله تعالى تأييد رأي عمر- رضي الله عنه - ، وعاتب رسوله – صلى الله عليه وسلم - :
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عذاب عظيم }الأنفال 67 – 68 الأنفال
غدا عمر بن الخطاب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد وأبو بكر - رضي الله عنه - وإذا هما يبكيان فقال – رضي الله عنه - : يا رسول الله ، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟! فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ’’ الذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة’’ لشجرة قريبة .
رصعت دموع وجَل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معركة بدر منذ أن وقف بين يدي الله تعالى يستنصره إلى أن جثا يستغفره عن رأي وافقه من أصحابه وأراد به خير المسلمين والأسرى ، لقد أورد – صلى الله عليه وسلم – الدنيا بأهلها مورد المستسقي لرحمات الله تعالى بهاجس الإلحاح في حزمة المتوافقات لا المتضادات ؛ فالله الذي نطلبه إنجاز الوعد بدمعنا هو تعالى الذي نبكي على بابه مستغفرين عن خطأ .
لمشاهدة الحلقات السابقة زر صفحة الكاتبة في الموقع على الرابط التالي
http://wefaqdev.net/index.php?page=pens&type_page=2&wr_no=482&num_item=3
أضافة تعليق