د. عبدالعزيز المقالح
العربية المثقفة كانت على خطأ في تفاؤلها المفرط من أن مصر العربية ذات التجربة الفكرية السياسية، والثقافية، الممتدة إلى أكثر من قرنين قادرة على أن تحتوي مشكلاتها السياسية الداخلية الراهنة بالاعتماد
على منطق التفاهم والحوار، وأنها ستضرب بذلك الصنيع مثلاً تقتدي به الأقطار العربية التي تتعرض لمشكلات مماثلة ناتجة عن التشنجات السياسية . كما كان الأمل يحدو كثيراً من المراقبين بأن القوى السياسية المختلفة في مصر سوف تتجنب تحت كل الظروف الضاغطة استخدام العنف أو اللجوء إلى المواقف المتصلبة وما يتبعها من انسداد منافذ الحل الذي يحفظ لمصر أمنها وسيادتها واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي، لكن وبوصول الأمور إلى ما وصلت إليه جعلت الجميع يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن يؤكد الواقع الأليم أن ما حدث في مصر من تطور فكري وسياسي ومن تقدم في الوعي وتوسع في التعليم لم يكن سوى قشرة خارجية كشفت عن هشاشتها المواقف التي استولت على النخب السياسية على اختلاف انتماءاتها، فقد بلغت تجاوزاتها غير المبررة حداً لم يكن متوقعاً على الإطلاق .
لقد كان واضحاً منذ بداية أحداث “الربيع العربي” الذي كان لمصر فيه دور محوري أساسي أن عهد الرئيس القائد والملهم والحكيم الذي لا يخطئ قد انتهى إلى غير رجعة، وأن استحواذ حزب أو جماعة على الحكم وانفراد أتباعها بالسلطة المطلقة أياً كان نفوذها والإجماع على قيادتها مرحلة انتهت وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الوفاق والحوار والقبول بالمشاركة واحترام وجهات النظر المختلفة، لكن الأمور في مصر الكبيرة، مصر العظيمة، سارت على النحو المخالف لما فرضته مبادئ “الربيع العربي”، وتعود البداية الخاطئة إلى تخبط القوى السياسية المشاركة في الثورة وغياب الرؤية الشاملة، وإلى المرونة الزائدة التي أبدتها هذه القوى بعد الانتصار على رأس النظام القديم وعدم الانتباه إلى أن الشراكة التي أدّت إلى إسقاط ذلك النظام كان ينبغي أن تستمر وأن تكون أساساً للنظام الجديد، كما امتدت آثار تلك المرونة إلى السماح للقوى الخارجية باقتحام الشؤون الداخلية والتقدم باقتراحاتهم المسمومة التي أدت إلى بعثرة الصفوف وانهيار التوحد المدهش الذي صنعه الميدان ودمّره القصر، أو بعبارة أخرى الّفته الثورة وفرقته السياسة .
ولا يشك أحد في أن الأحزاب في العالم الثالث كانت وسيلة معاصرة وآلية سياسية مستحدثة لإدارة الاختلافات وتداول السلطة بتفويض من الشعب، لكنها في أقطارنا العربية كانت ولا تزال تجربة عديمة الجذور سريعاً ما تتحول إلى تجمعات أنانية مهمتها الاستحواذ ومحاربة الآخرين المخالفين واتهامهم بالسعي إلى اختطاف السلطة، وهذا هو السبب في أن هذه الأحزاب إما أن تأكل نفسها أو يأكلها الآخرون بعد أن تكون قد هيأت بتصرفاتها غير المسؤولة لمن يأكلهم في واقع متخلف محكوم بالثارات والانتقامات المضادة، وما يبعث على الأسى في تجربة هذه الأحزاب أنها لا تقرأ التاريخ ولا تستفيد من تجارب الآخرين، ولا تعترف بأنها تسير في طريق الخطأ عندما تعمد إلى إقصاء خصومها والتشهير بهم ووضعهم في خانة الأعداء بدلاً من اعتبارهم معارضة من شأنها أن تخدم الحزب الحاكم بالكشف المستمر عن أخطائه ودفعه إلى تصحيح مساراته .
وسبق لمصر أن قطعت أشواطاً في مرحلة التعددية الحزبية، وأشواطاً في مرحلة الحزب الواحد، وكان لكل من المرحلتين إيجابيتها وسلبيتها، ومن الإيجابيات التي لا تنكر، في ترسيخ مفهوم التطور والإصلاح الاقتصادي، والمحافظة على مكانة مصر عربياً ودولياً، رغم ما تعرضت له من حروب وانتكاسات سياسية، فقد كاد الانسجام الوطني يمثل القوة التي تحفظ عليها تماسكها ومكانتها، ولم يحدث أن وصل الشقاق السياسي بين أبنائها إلى ما وصل إليه في العامين الأخيرين، وفي الأيام الأخيرة على وجه الخصوص . وهو ما جعل الأمة العربية والعالم أجمع في حالتي قلق وترقب لما تسفر عنه المعارك الدائرة بين الأخوة الذين لم يكونوا أعداء، ولا أحد يريد لهم أن يكونوا كذلك سوى العدو التاريخي المتربص بالأمة العربية كلها، والذي لا يسعده شيء كما يسعده أن يختلف أبناء القطر العربي الواحد مع أنفسهم، وأن تختلف الأقطار العربية مع بعضها .
ولا أخفي قلقي الشديد مما حدث ويحدث في مصر، كما لا أخفي حيرتي النابعة من حب عميق لهذا البلد العربي الشقيق ولأبنائه الذين تميزوا بالطيبة التي تعكس طيبة الأرض التي ولدوا عليها، وتميزوا أيضاً بالقدرة الهائلة على التعايش والانسجام، وعلى التسامح مع الآخر إلا أن يكون عدواً غازياً أو محتلاً متجبراً .
*التجديد
العربية المثقفة كانت على خطأ في تفاؤلها المفرط من أن مصر العربية ذات التجربة الفكرية السياسية، والثقافية، الممتدة إلى أكثر من قرنين قادرة على أن تحتوي مشكلاتها السياسية الداخلية الراهنة بالاعتماد
على منطق التفاهم والحوار، وأنها ستضرب بذلك الصنيع مثلاً تقتدي به الأقطار العربية التي تتعرض لمشكلات مماثلة ناتجة عن التشنجات السياسية . كما كان الأمل يحدو كثيراً من المراقبين بأن القوى السياسية المختلفة في مصر سوف تتجنب تحت كل الظروف الضاغطة استخدام العنف أو اللجوء إلى المواقف المتصلبة وما يتبعها من انسداد منافذ الحل الذي يحفظ لمصر أمنها وسيادتها واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي، لكن وبوصول الأمور إلى ما وصلت إليه جعلت الجميع يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن يؤكد الواقع الأليم أن ما حدث في مصر من تطور فكري وسياسي ومن تقدم في الوعي وتوسع في التعليم لم يكن سوى قشرة خارجية كشفت عن هشاشتها المواقف التي استولت على النخب السياسية على اختلاف انتماءاتها، فقد بلغت تجاوزاتها غير المبررة حداً لم يكن متوقعاً على الإطلاق .
لقد كان واضحاً منذ بداية أحداث “الربيع العربي” الذي كان لمصر فيه دور محوري أساسي أن عهد الرئيس القائد والملهم والحكيم الذي لا يخطئ قد انتهى إلى غير رجعة، وأن استحواذ حزب أو جماعة على الحكم وانفراد أتباعها بالسلطة المطلقة أياً كان نفوذها والإجماع على قيادتها مرحلة انتهت وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الوفاق والحوار والقبول بالمشاركة واحترام وجهات النظر المختلفة، لكن الأمور في مصر الكبيرة، مصر العظيمة، سارت على النحو المخالف لما فرضته مبادئ “الربيع العربي”، وتعود البداية الخاطئة إلى تخبط القوى السياسية المشاركة في الثورة وغياب الرؤية الشاملة، وإلى المرونة الزائدة التي أبدتها هذه القوى بعد الانتصار على رأس النظام القديم وعدم الانتباه إلى أن الشراكة التي أدّت إلى إسقاط ذلك النظام كان ينبغي أن تستمر وأن تكون أساساً للنظام الجديد، كما امتدت آثار تلك المرونة إلى السماح للقوى الخارجية باقتحام الشؤون الداخلية والتقدم باقتراحاتهم المسمومة التي أدت إلى بعثرة الصفوف وانهيار التوحد المدهش الذي صنعه الميدان ودمّره القصر، أو بعبارة أخرى الّفته الثورة وفرقته السياسة .
ولا يشك أحد في أن الأحزاب في العالم الثالث كانت وسيلة معاصرة وآلية سياسية مستحدثة لإدارة الاختلافات وتداول السلطة بتفويض من الشعب، لكنها في أقطارنا العربية كانت ولا تزال تجربة عديمة الجذور سريعاً ما تتحول إلى تجمعات أنانية مهمتها الاستحواذ ومحاربة الآخرين المخالفين واتهامهم بالسعي إلى اختطاف السلطة، وهذا هو السبب في أن هذه الأحزاب إما أن تأكل نفسها أو يأكلها الآخرون بعد أن تكون قد هيأت بتصرفاتها غير المسؤولة لمن يأكلهم في واقع متخلف محكوم بالثارات والانتقامات المضادة، وما يبعث على الأسى في تجربة هذه الأحزاب أنها لا تقرأ التاريخ ولا تستفيد من تجارب الآخرين، ولا تعترف بأنها تسير في طريق الخطأ عندما تعمد إلى إقصاء خصومها والتشهير بهم ووضعهم في خانة الأعداء بدلاً من اعتبارهم معارضة من شأنها أن تخدم الحزب الحاكم بالكشف المستمر عن أخطائه ودفعه إلى تصحيح مساراته .
وسبق لمصر أن قطعت أشواطاً في مرحلة التعددية الحزبية، وأشواطاً في مرحلة الحزب الواحد، وكان لكل من المرحلتين إيجابيتها وسلبيتها، ومن الإيجابيات التي لا تنكر، في ترسيخ مفهوم التطور والإصلاح الاقتصادي، والمحافظة على مكانة مصر عربياً ودولياً، رغم ما تعرضت له من حروب وانتكاسات سياسية، فقد كاد الانسجام الوطني يمثل القوة التي تحفظ عليها تماسكها ومكانتها، ولم يحدث أن وصل الشقاق السياسي بين أبنائها إلى ما وصل إليه في العامين الأخيرين، وفي الأيام الأخيرة على وجه الخصوص . وهو ما جعل الأمة العربية والعالم أجمع في حالتي قلق وترقب لما تسفر عنه المعارك الدائرة بين الأخوة الذين لم يكونوا أعداء، ولا أحد يريد لهم أن يكونوا كذلك سوى العدو التاريخي المتربص بالأمة العربية كلها، والذي لا يسعده شيء كما يسعده أن يختلف أبناء القطر العربي الواحد مع أنفسهم، وأن تختلف الأقطار العربية مع بعضها .
ولا أخفي قلقي الشديد مما حدث ويحدث في مصر، كما لا أخفي حيرتي النابعة من حب عميق لهذا البلد العربي الشقيق ولأبنائه الذين تميزوا بالطيبة التي تعكس طيبة الأرض التي ولدوا عليها، وتميزوا أيضاً بالقدرة الهائلة على التعايش والانسجام، وعلى التسامح مع الآخر إلا أن يكون عدواً غازياً أو محتلاً متجبراً .
*التجديد