يطالبون سوريا بأن تستوعب درس العراق، ولاتكرر تجربته أصابوا في النصيحة، لكن يبدو أن البعض اخطأ في الدرس، فمنهم من قرأه من زاوية الدعوة إلي الانصياع والاصطفاف في بيت الطاعة الأمريكي، حتي لاتتعرض سوريا لدق العنق، وهم بذلك يدفعونها إلي طريق الندامة الذي لارجعة منه، في حين أن أول صفحة من الدرس واجب القراءة تقول للجميع بصوت عال إن التصالح بين السلطة والمجتمع هو طوق النجاة وطريق السلامة، حتي لاتلقي صور وتماثيل السلطة ذات المصير الذي رأيناه في بغداد.
(1)
لم يضيعوا وقتا، وصوبوا سهامهم نحو سوريا بأسرع مما توقعنا، نعم كنا نعلم أن سوريا وحزب الله في لبنان وإيران( البعض أضاف ليبيا) احتلوا صدارة المطلوبين بعد إسقاط النظام العراقي( هناك آخرون مطلوبون ولكن دورهم يأتي في ترتيب لاحق). لكني كنت أحد الذين تصوروا أنهم سيلجأون إلي استدعاء تلك الملفات تباعا بعد ان تستقر الأوضاع للأمريكيين في العراق ولو بصورة نسبية. بوجه أخص بعد تشكيل حكومة انتقالية في بغداد ـ لكن يبدو أن ذلك الظن كان متفائلا بأكثر مما ينبغي، وان نشوة النصر الظاهر، جعلت واشنطن تبدأ في ملاحقة سوريا بمختلف الادعاءات والاتهامات.
ولست أشك في أن إسرائيل وراء استعجال الملاحقة، لسبب جوهري هو أن الحرب علي العراق تداخلت فيها المصالح الأمريكية النفطية مع الحسابات الإسرائيلية الاستراتيجية، خصوصا مخاوفها من تنامي القدرة العسكرية العراقية،( لاتنس ان اسرائيل دمرت المفاعل النووي العراقي في عام1981) ـ لكن الأمر مختلف في الحالة السورية، لإن الإغراء النفطي غير وارد، ومن ثم فالمصلحة الأمريكية المباشرة لا وجود لها في حقيقة الأمر، والمصلحة المرجوة اسرائيلية خالصة.
ومن يتابع الصحافة الإسرائيلية خلال الأسبوعين الأخيرين، يلحظ فيها بوضوح ذلك الاستعجال لقطف ثمار الحرب، التي أريد لإسرائيل من البداية أن تقف خلالها في الظل، وان تمارس دورها الكبير فيها من وراء ستار من باب الاحتياط، لتهدئة غضب الشارع العربي، وشارون نفسه هو القائل لصحيفة يديعوت أحرونوت انه خلال الحرب، ساد مستوي في التنسيق بين إسرائيل والولايات المتحدة لم يسبق له مثيل في تاريخ البلدين، منذ أقيمت إسرائيل.
اذا كان الدفع علي ذلك المستوي، فقد نفهم تعجل إسرائيل في القبض، الذي لاتمانع تل أبيب في أن يكون علي أقساط، شريطة ان تكون سوريا هي القسط الأول، ذلك أن بعد إسقاط النظام العراقي، واخضاعه لقيادة جديدة موالية لإسرائيل، وفي ظل وجود اتفاق سلام بين عمان وتل أبيب، فان الجهة الشرقية التي ظلت تهدد إسرائيل لم تعد موجودة من الناحية العملية، والجملة الأخيرة اقتبستها من تحليل كتبه اريك باخر في صحيفة( معاريف)( عدد4/15) وفيه ذكر انه لم يبق في الجبهة الشمالية غير سوريا، التي اذا لم تعتدل فأمامها الكثير من الكدر في السنوات القادمة، وفي رأيه انه اذا ما واجهت سوريا موقفا أمريكيا حازما، فان ذلك سيكون له صداه في لبنان، الذي سوف يوقف نشاط حزب الله عند حد لايسمح له بفرض اجندته إزاء إسرائيل.
هكذا ففي تصورهم ان التخلص من الصداع الذي تسببه سوريا لإسرائيل، سوف يكمل حلقات تأمين الجبهات المحيطة بها، الأمر الذي يطمئنها من ناحية، ويمكنها من الاستفراد بالملف الفلسطيني من ناحية ثانية.
(2)
حين فتح الملف اذيعت حيثيات الادعاء ضد سوريا، التي سمعناها من قبل موجهة ضد العراق، وقد ضمت القائمة المعروفة امتلاك أسلحة دمار شامل وصواريخ بعيدة المدي، ودعم الإرهاب،( المقاومة الفلسطينية وحزب الله) وإيواء ارهابيين( عناصر وأركان النظام البعثي العراقي)وأضيفت إلي القائمة مسألة العلاقة مع إيران، المعادية لإسرائيل التي تدعم بدورها حزب الله، هذه الاتهامات ترددت في واشنطن علي ألسنة الرئيس بوش ووزيري الخارجية والدفاع في حكومته، كما رددها بشكل مواز في إسرائيل رئيس الوزراء ارييل شارون ووزير الدفاع شاؤول موفاز.
ليس عندي تعليق علي مثل هذه الاكتشافات التي برزت فجأة بعد احتلال العراق، فملابساتها ومقاصدها مفهومة، لكنني سأكتفي بثلاث ملاحظات في الموضوع تساعدنا علي تصور أبعاده، منقولة عن المصادر الأمريكية والإسرائيلية.
* الملاحظة الأولي أوردتها صحيفة واشنطن بوست ونقلتها عنها صحيفة الشرق الأوسط( عدد4/19) وخلاصتها أن سوريا بدأت منذ30 سنة في الحصول علي الأسلحة الكيماوية وصواريخ سكود طبقا لمعلومات المسئولين في الاستخبارات الأمريكية( تذكروا الحكاية الآن!) وحسب أحد المسئولين في الاستخبارات فان الرئيس السابق حافظ الأسد لجأ إلي ذلك لمواجهة تطوير إسرائيل للأسلحة النووية، وقد اضطر إلي ذلك حين أدرك ان الاسلحة الروسية التي يعتمد عليها لايمكن ان تتكافأ مع ماطورته إسرائيل في مجال السلاح النووي، وماتتسلمه من أسلحة من الولايات المتحدة. أضاف تقرير واشنطن بوست أن ثمة إجماعا بين الخبراء المعنيين في واشنطن علي أن كل بلدان الشرق الأوسط تواصل تطوير برامج أسلحة الدمار الشامل، وهي تقوم بذلك بسبب ماتمتلكه إسرائيل من أسلحة، وهو ماصرح به جوزيف كرينسيون رئيس برنامج منع انتشار الأسلحة، في مركز كارينجي لتحقيق السلام العالمي.
* الملاحظة الثانية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال في حوار أجرته معه صحيفة يديعوت أحرونوت في4/16، أن لدي سوريا ترسانة ضخمة جدا من السلاح الكيماوي، ومحاولات لامتلاك قدرة صاروخية( انظروا: من يتكلم؟) غير أن إسرائيل( التي سلطت أبواقها لتملأ الدنيا ضجيجا بسبب ذلك) ليست في دائرة الخطر، ولاتتوقع هجوما سوريا عليها، وذلك يعود إلي تدهور وضع الجيش السوري،ولأنهم يقدرون ان اسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها.( لم يسأله محاوره ناحوم برنياع، اذا كان الأمر كذلك، فمم الخوف ولماذا الضجيج إذن!)
* الملاحظة الثالثة وردت في تعليق آخر نشرته الصحيفة في اليوم ذاته، وفي مستهله قال صاحب التعليق يرون لتدن مانصه:اثنان علي الأقل يبتسمان لسماع اتهامات جورج بوش بحق سوريا( الخاصة بامتلاكها للسلاح غير التقليدي) هما: موردخاي فعنونو وماركوس كلينبرج، فكلاهما يعرف جيدا طبيعة السلاح الموجود في الجعبة الإسرائيلية، فحسب منشورات أجنبية فان ذلك السلاح يفوق بقوته الفتاكة سبعة أضعاف ماهو موجود لدي كل العرب. الأمر الذي يثير تساؤلا حول مايسمح للبعض وما يخطر علي البعض الآخر، ومايباح للقوي العظمي حيازته، ومايحرم علي الآخرين،وفي اجابته قال إن المهم ليس نوع السلاح، وإنما هوية حائزيه، فالدول المهيمنة قررت أن أسلحة الدمار الشامل التي تحوزها ترمي إلي الردع وحسب، بينما أن أسلحة الدمار التي توجد في أيدي الآخرين من شأنه أن يمتشق ويستخدم لأهداف عدوانية.
(3)
التسخين مستمر في واشنطن، وفي أعقاب التنديدات والتهديدات التي صدرت عن الإدارة الأمريكية، ترددت الأصداء في الكونجرس، فبدأ بعض الأعضاء يتحدثون عن مشروع قانون محاسبة سوريا الذي قدم في العام الماضي، وذهب آخرون إلي اعلان حملة تحرير سوريا، علي غرار حملة تحرير العراق وثار لغط آخر عن توقيع عقوبات اقتصادية من قبيل تجميد الأصول والإيداعات السورية بالخارج، ومنع الصادرات، وتقييد حركة الدبلوماسيين السوريين، بل تحدث البعض عن ضرورة تحميل دمشق مسئولية أي هجمات لحزب الله اللبناني، موجهة إلي الأهداف الإسرائيلية( نيويورك تايمز ـ4/18).
ورغم أن المشهد بدا وكأنه تسابق في استباحة سوريا والنيل منها، إلا أنني ازعم أن الأمر لن يصل إلي درجة القيام بعمل عسكري أمريكي ضدها لأسباب عدة، ليس بينها بطبيعة الحال احترام سيادة البلد او احترام الامة العربية، أول تلك الاسباب ان الولايات المتحدة لاتحتاج إلي عمل عسكري ضد سوريا لكي تحقق ماتريد، فإسرائيل يمكن ان تقوم بالعمل العسكري اذا كان ضروريا، وهناك العديد من الذرائع التي يمكن أن تتعلل بها في ذلك، ثم ان الولايات المتحدة ليست لها تطلعات خاصة في سوريا، كما سبقت الإشارة، ناهيك عن أنها تدرك جيدا انه ليست لها مشكلة مع دمشق، وان المشاكل هي بين دمشق وتل أبيب، الأمر الذي يجعلها تحجم عن العمل العسكري، خصوصا ان ذلك العمل يتعذر تبريره امام الناخب الأمريكي، فضلا عن هذا وذاك فان هناك ثقة في البيت الأبيض بأن الولايات المتحدة تستطيع أن تبلغ مرادها عن طريق الابتزاز والضغوط السياسية والاقتصادية،خصوصا أن سوريا أبدت تعاونا ملحوظا رحبت به واشنطن بعد11 سبتمبر، فيما سمي بمكافحة الإرهاب.
ليس ذلك رأيي وحدي، فقد وقعت في الشرق الأوسط( عدد4/18) علي تقرير منقول عن صحيفة لوس أنجلوس تايمز عبر عن نفس الموقف، إذ ذكر كاتبه رونالد بروانستاين ان الذين كانوا اكثر الناس حماسا للحرب ضد العراق، اصبحوا يتبنون الآن الدعوة إلي السلام، أو علي الأقل التوقف المؤقت عن العمل العسكري، وحتي في الوقت الذي يصدر فيه الرئيس جورج بوش ومعاونوه تصريحات شديدة حول سوريا، فان منظري السياسة الخارجية من المحافظين الجدد الذين وضعوا الأسس الفكرية للحرب ضد العراق، يقللون حاليا من احتمالات شن أعمال عسكرية جديدة في منطقة الشرق الأوسط علي الأقل في المدي القريب.
نقل الكاتب عن ارن فريدبيرج، استاذ الشئون الدولية بجامعة برنستون، وهو من المحافظين الجدد قوله:لا اعتقد ان هناك شهية مفتوحة لدي غالبية الناس للعمليات العسكرية التي لاتنتهي، ولايشعر بهذه الرغبة حتي أولئك الذين يعتقدون أن الحرب ضد العراق سارت بصورة جيدة.
أضاف أن تلك النغمة الهادئة أدهشت البعض لان كل مفكري التيار المحافظ الجديد، تقريبا ظلوا يصورون حرب العراق كفصل واحد فقط من صراع أوسع ضد مايسمونه التطرف الأصولي، ولكن مجموعة من المقالات والتصريحات الصادرة عن هؤلاء المفكرين أنفسهم منذ سقوط بغداد، دعت إلي أن تعتمد الخطوات اللاحقة علي الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية وليس علي القوة العسكرية.
(4)
في مواجهة ما أطلق عليه البعض وصف الدبلوماسية الأمريكية الخشنة إزاء سوريا، هناك مدرستان، أولاهما الأشهر والأعلي صوتا هذه الأيام ـ في الساحة العربية كلها للأسف ـ وأسميها مدرسة التثبيط، وهي التي تنطلق من ان الولايات المتحدة قوة ينبغي ألا ترد لها كلمة أو رغبة، وهي لم تعد تحتمل الحلول الوسط منذ أحداث11 سبتمبر( حين أعلنت علي الجميع اما أن تكونوا معنا أو ضدنا). وباسم القراءة الرشيدة للسلوك الأمريكي المستجد، يدعون إلي ضرورة التحلي بالواقعية ومن ثم التجاوب مع الرغبات الأمريكية، التي وصفها بعضهم بأنها زعيمة العالم الحر والتجاوب المطلوب له معني واحد يتمثل في الانصياع، وهذا الانصياع له صورة واحدة هي الانبطاح بمعني. أن يكون الانصياع دائما ومطقا، بحيث لايقبل الامتثال في أمر والتحفظ في أمر آخر، ان شئت فقل انه من قبيل الامتثال الصوفي، الذي تكون فيه علاقة المريد بشيخه كالميت بين يدي من يكفنه، فضلا عن أن من اعترض انطرد!
وهذا الذي أقوله ليس فيه أية مبالغة، لأنني شاهد علي حالتين نموذجيتين في هذا الصدد، في عالمنا العربي والإسلامي بطبيعة الحال، حدث ذلك بعد11 سبتمبر، والبلدان اللذان اعنيهما هما إيران وقطر عربي آخر، وقد تعاونا شأنهما في ذلك شأن بقية دول المنطقة مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب،ولكن إيران بحكم ثقلها وطبيعتها كان بمقدورها أن تتحفظ علي بعض الطلبات فعوملت بصد وغضب من جانب واشنطن، ورد مرشد الثورة علي رسالتها بالمثل.
أما البلد العربي فانه لم يستطع ان يرد بكلمة، فأغرق بالطلبات التي تجاوز بعضها كل حدود، حتي بدا أن ضريبة الانبطاح لاسقف لها.
ادري ان سوريا محصنة بصورة نسبية ضد الانبطاح المطلوب، ولو كانت بغير تلك الحصانة لانصاعت وامتثلت ـ وقبضت ان كان هناك قبض ـ منذ أمد بعيد، لكن هناك من يحاول ان يسترضي الولايات المتحدة من خلال وسائل ورسائل عدة، ترد وتفند الشبهات التي تثيرها واشنطن وأبواقها ضد دمشق قدر المستطاع.
المدرسة الثانية ترفض الانصياع والانبطاح وتدعو إلي الصمود، وكنا في السابق نضيف التصدي والتحدي، لكننا أصبحنا نبتلع مثل هذه المفردات للأسباب التي يعرفها الجميع، بحيث لم يعد طموحنا يتجاوز حدود الثبات والتصدي، والذي نفهمه والدرس الذي تعلمناه من التجربة العراقية أن للتصدي مقومات وشروطا، أولها واهمها قوة الجبهة الداخلية وتلاحم السلطة مع المجتمع، ولانعرف حتي الآن صيغة نجحت في احداث ذلك التلاحم،ومن ثم توفير القوة المنشودة للجبهة الداخلية، أجدي وأكثر فعالية من ارساء أسس الديمقراطية، التي بها يتحول الناس من رعايا تابعين إلي شركاء ومواطنين.
لقد كانت أمام النظام العراقي فرص لاحصر لها لإرساء الديمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية لكنه أهدرها جميعا، وآثر ان يبقي علي المجتمع محبوسا في السراديب والزنازين، حتي كانت النهاية المهينة للنظام بكل رموزه، الأمر الذي وفر للأمريكيين فرصة ستر عورة الاحتلال وسوءته بذريعة تكسير السراديب وفتح الزنازين وتحريرالشعب العراقي.
قديما أرسل أحد الولاة باليمن إلي خليفة المسلمين عمر بن العزيز يستأذنه في جباية بعض الأموال من المسلمين لتحصين مدينته وتعزيز أسوارها في مواجهة ما قد تتعرض له من تهديد، فرد عليه الخليفة برسالة من ثلاث كلمات قال فيها: حصن ديارك بالعدل.
ألا تستحق العبارة أن نكتبها علي لافتة كبيرة تمتد بطول العالم العربي وعرضه، وأن نحولها إلي نبراس للصمود، ونحن مقبلون علي ما سموه بمرحلة إعادة رسم الخرائط في المنطقة؟
(1)
لم يضيعوا وقتا، وصوبوا سهامهم نحو سوريا بأسرع مما توقعنا، نعم كنا نعلم أن سوريا وحزب الله في لبنان وإيران( البعض أضاف ليبيا) احتلوا صدارة المطلوبين بعد إسقاط النظام العراقي( هناك آخرون مطلوبون ولكن دورهم يأتي في ترتيب لاحق). لكني كنت أحد الذين تصوروا أنهم سيلجأون إلي استدعاء تلك الملفات تباعا بعد ان تستقر الأوضاع للأمريكيين في العراق ولو بصورة نسبية. بوجه أخص بعد تشكيل حكومة انتقالية في بغداد ـ لكن يبدو أن ذلك الظن كان متفائلا بأكثر مما ينبغي، وان نشوة النصر الظاهر، جعلت واشنطن تبدأ في ملاحقة سوريا بمختلف الادعاءات والاتهامات.
ولست أشك في أن إسرائيل وراء استعجال الملاحقة، لسبب جوهري هو أن الحرب علي العراق تداخلت فيها المصالح الأمريكية النفطية مع الحسابات الإسرائيلية الاستراتيجية، خصوصا مخاوفها من تنامي القدرة العسكرية العراقية،( لاتنس ان اسرائيل دمرت المفاعل النووي العراقي في عام1981) ـ لكن الأمر مختلف في الحالة السورية، لإن الإغراء النفطي غير وارد، ومن ثم فالمصلحة الأمريكية المباشرة لا وجود لها في حقيقة الأمر، والمصلحة المرجوة اسرائيلية خالصة.
ومن يتابع الصحافة الإسرائيلية خلال الأسبوعين الأخيرين، يلحظ فيها بوضوح ذلك الاستعجال لقطف ثمار الحرب، التي أريد لإسرائيل من البداية أن تقف خلالها في الظل، وان تمارس دورها الكبير فيها من وراء ستار من باب الاحتياط، لتهدئة غضب الشارع العربي، وشارون نفسه هو القائل لصحيفة يديعوت أحرونوت انه خلال الحرب، ساد مستوي في التنسيق بين إسرائيل والولايات المتحدة لم يسبق له مثيل في تاريخ البلدين، منذ أقيمت إسرائيل.
اذا كان الدفع علي ذلك المستوي، فقد نفهم تعجل إسرائيل في القبض، الذي لاتمانع تل أبيب في أن يكون علي أقساط، شريطة ان تكون سوريا هي القسط الأول، ذلك أن بعد إسقاط النظام العراقي، واخضاعه لقيادة جديدة موالية لإسرائيل، وفي ظل وجود اتفاق سلام بين عمان وتل أبيب، فان الجهة الشرقية التي ظلت تهدد إسرائيل لم تعد موجودة من الناحية العملية، والجملة الأخيرة اقتبستها من تحليل كتبه اريك باخر في صحيفة( معاريف)( عدد4/15) وفيه ذكر انه لم يبق في الجبهة الشمالية غير سوريا، التي اذا لم تعتدل فأمامها الكثير من الكدر في السنوات القادمة، وفي رأيه انه اذا ما واجهت سوريا موقفا أمريكيا حازما، فان ذلك سيكون له صداه في لبنان، الذي سوف يوقف نشاط حزب الله عند حد لايسمح له بفرض اجندته إزاء إسرائيل.
هكذا ففي تصورهم ان التخلص من الصداع الذي تسببه سوريا لإسرائيل، سوف يكمل حلقات تأمين الجبهات المحيطة بها، الأمر الذي يطمئنها من ناحية، ويمكنها من الاستفراد بالملف الفلسطيني من ناحية ثانية.
(2)
حين فتح الملف اذيعت حيثيات الادعاء ضد سوريا، التي سمعناها من قبل موجهة ضد العراق، وقد ضمت القائمة المعروفة امتلاك أسلحة دمار شامل وصواريخ بعيدة المدي، ودعم الإرهاب،( المقاومة الفلسطينية وحزب الله) وإيواء ارهابيين( عناصر وأركان النظام البعثي العراقي)وأضيفت إلي القائمة مسألة العلاقة مع إيران، المعادية لإسرائيل التي تدعم بدورها حزب الله، هذه الاتهامات ترددت في واشنطن علي ألسنة الرئيس بوش ووزيري الخارجية والدفاع في حكومته، كما رددها بشكل مواز في إسرائيل رئيس الوزراء ارييل شارون ووزير الدفاع شاؤول موفاز.
ليس عندي تعليق علي مثل هذه الاكتشافات التي برزت فجأة بعد احتلال العراق، فملابساتها ومقاصدها مفهومة، لكنني سأكتفي بثلاث ملاحظات في الموضوع تساعدنا علي تصور أبعاده، منقولة عن المصادر الأمريكية والإسرائيلية.
* الملاحظة الأولي أوردتها صحيفة واشنطن بوست ونقلتها عنها صحيفة الشرق الأوسط( عدد4/19) وخلاصتها أن سوريا بدأت منذ30 سنة في الحصول علي الأسلحة الكيماوية وصواريخ سكود طبقا لمعلومات المسئولين في الاستخبارات الأمريكية( تذكروا الحكاية الآن!) وحسب أحد المسئولين في الاستخبارات فان الرئيس السابق حافظ الأسد لجأ إلي ذلك لمواجهة تطوير إسرائيل للأسلحة النووية، وقد اضطر إلي ذلك حين أدرك ان الاسلحة الروسية التي يعتمد عليها لايمكن ان تتكافأ مع ماطورته إسرائيل في مجال السلاح النووي، وماتتسلمه من أسلحة من الولايات المتحدة. أضاف تقرير واشنطن بوست أن ثمة إجماعا بين الخبراء المعنيين في واشنطن علي أن كل بلدان الشرق الأوسط تواصل تطوير برامج أسلحة الدمار الشامل، وهي تقوم بذلك بسبب ماتمتلكه إسرائيل من أسلحة، وهو ماصرح به جوزيف كرينسيون رئيس برنامج منع انتشار الأسلحة، في مركز كارينجي لتحقيق السلام العالمي.
* الملاحظة الثانية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال في حوار أجرته معه صحيفة يديعوت أحرونوت في4/16، أن لدي سوريا ترسانة ضخمة جدا من السلاح الكيماوي، ومحاولات لامتلاك قدرة صاروخية( انظروا: من يتكلم؟) غير أن إسرائيل( التي سلطت أبواقها لتملأ الدنيا ضجيجا بسبب ذلك) ليست في دائرة الخطر، ولاتتوقع هجوما سوريا عليها، وذلك يعود إلي تدهور وضع الجيش السوري،ولأنهم يقدرون ان اسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها.( لم يسأله محاوره ناحوم برنياع، اذا كان الأمر كذلك، فمم الخوف ولماذا الضجيج إذن!)
* الملاحظة الثالثة وردت في تعليق آخر نشرته الصحيفة في اليوم ذاته، وفي مستهله قال صاحب التعليق يرون لتدن مانصه:اثنان علي الأقل يبتسمان لسماع اتهامات جورج بوش بحق سوريا( الخاصة بامتلاكها للسلاح غير التقليدي) هما: موردخاي فعنونو وماركوس كلينبرج، فكلاهما يعرف جيدا طبيعة السلاح الموجود في الجعبة الإسرائيلية، فحسب منشورات أجنبية فان ذلك السلاح يفوق بقوته الفتاكة سبعة أضعاف ماهو موجود لدي كل العرب. الأمر الذي يثير تساؤلا حول مايسمح للبعض وما يخطر علي البعض الآخر، ومايباح للقوي العظمي حيازته، ومايحرم علي الآخرين،وفي اجابته قال إن المهم ليس نوع السلاح، وإنما هوية حائزيه، فالدول المهيمنة قررت أن أسلحة الدمار الشامل التي تحوزها ترمي إلي الردع وحسب، بينما أن أسلحة الدمار التي توجد في أيدي الآخرين من شأنه أن يمتشق ويستخدم لأهداف عدوانية.
(3)
التسخين مستمر في واشنطن، وفي أعقاب التنديدات والتهديدات التي صدرت عن الإدارة الأمريكية، ترددت الأصداء في الكونجرس، فبدأ بعض الأعضاء يتحدثون عن مشروع قانون محاسبة سوريا الذي قدم في العام الماضي، وذهب آخرون إلي اعلان حملة تحرير سوريا، علي غرار حملة تحرير العراق وثار لغط آخر عن توقيع عقوبات اقتصادية من قبيل تجميد الأصول والإيداعات السورية بالخارج، ومنع الصادرات، وتقييد حركة الدبلوماسيين السوريين، بل تحدث البعض عن ضرورة تحميل دمشق مسئولية أي هجمات لحزب الله اللبناني، موجهة إلي الأهداف الإسرائيلية( نيويورك تايمز ـ4/18).
ورغم أن المشهد بدا وكأنه تسابق في استباحة سوريا والنيل منها، إلا أنني ازعم أن الأمر لن يصل إلي درجة القيام بعمل عسكري أمريكي ضدها لأسباب عدة، ليس بينها بطبيعة الحال احترام سيادة البلد او احترام الامة العربية، أول تلك الاسباب ان الولايات المتحدة لاتحتاج إلي عمل عسكري ضد سوريا لكي تحقق ماتريد، فإسرائيل يمكن ان تقوم بالعمل العسكري اذا كان ضروريا، وهناك العديد من الذرائع التي يمكن أن تتعلل بها في ذلك، ثم ان الولايات المتحدة ليست لها تطلعات خاصة في سوريا، كما سبقت الإشارة، ناهيك عن أنها تدرك جيدا انه ليست لها مشكلة مع دمشق، وان المشاكل هي بين دمشق وتل أبيب، الأمر الذي يجعلها تحجم عن العمل العسكري، خصوصا ان ذلك العمل يتعذر تبريره امام الناخب الأمريكي، فضلا عن هذا وذاك فان هناك ثقة في البيت الأبيض بأن الولايات المتحدة تستطيع أن تبلغ مرادها عن طريق الابتزاز والضغوط السياسية والاقتصادية،خصوصا أن سوريا أبدت تعاونا ملحوظا رحبت به واشنطن بعد11 سبتمبر، فيما سمي بمكافحة الإرهاب.
ليس ذلك رأيي وحدي، فقد وقعت في الشرق الأوسط( عدد4/18) علي تقرير منقول عن صحيفة لوس أنجلوس تايمز عبر عن نفس الموقف، إذ ذكر كاتبه رونالد بروانستاين ان الذين كانوا اكثر الناس حماسا للحرب ضد العراق، اصبحوا يتبنون الآن الدعوة إلي السلام، أو علي الأقل التوقف المؤقت عن العمل العسكري، وحتي في الوقت الذي يصدر فيه الرئيس جورج بوش ومعاونوه تصريحات شديدة حول سوريا، فان منظري السياسة الخارجية من المحافظين الجدد الذين وضعوا الأسس الفكرية للحرب ضد العراق، يقللون حاليا من احتمالات شن أعمال عسكرية جديدة في منطقة الشرق الأوسط علي الأقل في المدي القريب.
نقل الكاتب عن ارن فريدبيرج، استاذ الشئون الدولية بجامعة برنستون، وهو من المحافظين الجدد قوله:لا اعتقد ان هناك شهية مفتوحة لدي غالبية الناس للعمليات العسكرية التي لاتنتهي، ولايشعر بهذه الرغبة حتي أولئك الذين يعتقدون أن الحرب ضد العراق سارت بصورة جيدة.
أضاف أن تلك النغمة الهادئة أدهشت البعض لان كل مفكري التيار المحافظ الجديد، تقريبا ظلوا يصورون حرب العراق كفصل واحد فقط من صراع أوسع ضد مايسمونه التطرف الأصولي، ولكن مجموعة من المقالات والتصريحات الصادرة عن هؤلاء المفكرين أنفسهم منذ سقوط بغداد، دعت إلي أن تعتمد الخطوات اللاحقة علي الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية وليس علي القوة العسكرية.
(4)
في مواجهة ما أطلق عليه البعض وصف الدبلوماسية الأمريكية الخشنة إزاء سوريا، هناك مدرستان، أولاهما الأشهر والأعلي صوتا هذه الأيام ـ في الساحة العربية كلها للأسف ـ وأسميها مدرسة التثبيط، وهي التي تنطلق من ان الولايات المتحدة قوة ينبغي ألا ترد لها كلمة أو رغبة، وهي لم تعد تحتمل الحلول الوسط منذ أحداث11 سبتمبر( حين أعلنت علي الجميع اما أن تكونوا معنا أو ضدنا). وباسم القراءة الرشيدة للسلوك الأمريكي المستجد، يدعون إلي ضرورة التحلي بالواقعية ومن ثم التجاوب مع الرغبات الأمريكية، التي وصفها بعضهم بأنها زعيمة العالم الحر والتجاوب المطلوب له معني واحد يتمثل في الانصياع، وهذا الانصياع له صورة واحدة هي الانبطاح بمعني. أن يكون الانصياع دائما ومطقا، بحيث لايقبل الامتثال في أمر والتحفظ في أمر آخر، ان شئت فقل انه من قبيل الامتثال الصوفي، الذي تكون فيه علاقة المريد بشيخه كالميت بين يدي من يكفنه، فضلا عن أن من اعترض انطرد!
وهذا الذي أقوله ليس فيه أية مبالغة، لأنني شاهد علي حالتين نموذجيتين في هذا الصدد، في عالمنا العربي والإسلامي بطبيعة الحال، حدث ذلك بعد11 سبتمبر، والبلدان اللذان اعنيهما هما إيران وقطر عربي آخر، وقد تعاونا شأنهما في ذلك شأن بقية دول المنطقة مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب،ولكن إيران بحكم ثقلها وطبيعتها كان بمقدورها أن تتحفظ علي بعض الطلبات فعوملت بصد وغضب من جانب واشنطن، ورد مرشد الثورة علي رسالتها بالمثل.
أما البلد العربي فانه لم يستطع ان يرد بكلمة، فأغرق بالطلبات التي تجاوز بعضها كل حدود، حتي بدا أن ضريبة الانبطاح لاسقف لها.
ادري ان سوريا محصنة بصورة نسبية ضد الانبطاح المطلوب، ولو كانت بغير تلك الحصانة لانصاعت وامتثلت ـ وقبضت ان كان هناك قبض ـ منذ أمد بعيد، لكن هناك من يحاول ان يسترضي الولايات المتحدة من خلال وسائل ورسائل عدة، ترد وتفند الشبهات التي تثيرها واشنطن وأبواقها ضد دمشق قدر المستطاع.
المدرسة الثانية ترفض الانصياع والانبطاح وتدعو إلي الصمود، وكنا في السابق نضيف التصدي والتحدي، لكننا أصبحنا نبتلع مثل هذه المفردات للأسباب التي يعرفها الجميع، بحيث لم يعد طموحنا يتجاوز حدود الثبات والتصدي، والذي نفهمه والدرس الذي تعلمناه من التجربة العراقية أن للتصدي مقومات وشروطا، أولها واهمها قوة الجبهة الداخلية وتلاحم السلطة مع المجتمع، ولانعرف حتي الآن صيغة نجحت في احداث ذلك التلاحم،ومن ثم توفير القوة المنشودة للجبهة الداخلية، أجدي وأكثر فعالية من ارساء أسس الديمقراطية، التي بها يتحول الناس من رعايا تابعين إلي شركاء ومواطنين.
لقد كانت أمام النظام العراقي فرص لاحصر لها لإرساء الديمقراطية وتحقيق المصالحة الوطنية لكنه أهدرها جميعا، وآثر ان يبقي علي المجتمع محبوسا في السراديب والزنازين، حتي كانت النهاية المهينة للنظام بكل رموزه، الأمر الذي وفر للأمريكيين فرصة ستر عورة الاحتلال وسوءته بذريعة تكسير السراديب وفتح الزنازين وتحريرالشعب العراقي.
قديما أرسل أحد الولاة باليمن إلي خليفة المسلمين عمر بن العزيز يستأذنه في جباية بعض الأموال من المسلمين لتحصين مدينته وتعزيز أسوارها في مواجهة ما قد تتعرض له من تهديد، فرد عليه الخليفة برسالة من ثلاث كلمات قال فيها: حصن ديارك بالعدل.
ألا تستحق العبارة أن نكتبها علي لافتة كبيرة تمتد بطول العالم العربي وعرضه، وأن نحولها إلي نبراس للصمود، ونحن مقبلون علي ما سموه بمرحلة إعادة رسم الخرائط في المنطقة؟