مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
مـــــأزق إيـــــران ‏[2]‏
حين اكتسح المحافظون انتخابات بلدية طهران‏،‏ وفازوا بـ‏14‏ من‏15‏ مقعدا لمجلسها‏،‏ فإن هذه كانت أول هزيمة ثقيلة للإصلاحيين منذ انتصارهم المثير في انتخابات الرئاسة قبل ست سنوات‏،‏ لكن الرئيس محمد خاتمي رأي فيما جري ما هو أبعد من هزيمة فريقه‏،‏ وقال في تصريح صحفي‏:‏ إن النتيجة بمثابة جرس إنذار‏(‏ زنج خطر‏)‏ للطبقة السياسية الإيرانية كلها‏،‏ وكان تشخصيه دقيقا‏،‏ لأن الذي حدث كان تعبيرا عن الأزمة التي يعيشها المجتمع الإيراني أكثر منه تعبيرا عن أزمة الإصلاحيين‏.‏

‏(1)‏
الانتخابات التي جرت في الثاني من شهر مارس الحالي كانت لها نتائج مماثلة في عدد من المدن الإيرانية الكبري‏،‏ مثل مشهد وأصفهان وشيراز وقم‏،‏ ولم يكن فوز المحافظين هو المفاجأة الوحيدة‏،‏ وإنما المفاجأة الثانية‏،‏ والأهم أن نسبة الذين قاطعوا الانتخابات وامتنعوا عن الإدلاء بأصواتهم كانت عالية بشكل لافت للنظر‏.‏ ففي طهران مثلا‏،‏ التي يسكنها نحو‏12‏ مليون شخص‏،‏ خمسة ملايين منهم لهم حق التصويت‏،‏ لم يتجاوز عدد الذين أدلوا بأصواتهم‏565‏ ألف شخص‏،‏ والتقدير المتواتر أن نسبة المشاركة في الانتخابات كانت في حدود‏10%‏ فقط‏،‏ في حين أن تلك النسبة كانت تتجاوز‏70%‏ في المرات السابقة‏.‏ إن شئت الدقة فقل إن جمهور المحافظين الأكثر انضباطا هو الذي صوت في الانتخابات‏،‏ في حين تقاعس جمهور الإصلاحيين أو غاب‏،‏ الأمر الذي ضيع علي مرشحيهم فرصة الفوز‏.‏ صحيح أن المجلس البلدي السابق في العاصمة لم يكن ناجحا في مهمته‏،‏ وأن أعضاءه وكلهم من الإصلاحيين شغلوا بالصراع وتبادل الاتهامات فيما بينهم‏،‏ بأكثر مما شغلوا بخدمة الذين انتخبوهم‏،‏ وكان طبيعيا أن يعبر الناس عن استيائهم وقرفهم من أدائهم‏.‏ وصحيح أيضا أن حماس الناس للانتخابات البلدية هو في العادة أقل منه في الانتخابات النيابية والرئاسية لأسباب مفهومة‏،‏ صحيح كذلك أن المحافظين كانت لهم قائمة واحدة احتشد من حولها أنصارهم‏،‏ في حين أن الإصلاحيين كانت لهم ثلاث أو أربع قوائم‏،‏ توزعت عليها الأصوات‏،‏ فلم يفز أي منها‏،‏ ويبدو أن جبهة المشاركة التي تضم أنصار الرئيس خاتمي‏،‏ ويقودها شقيقه السيد علي رضا كانت متوهمة أنها سوف تكتسح الآخرين‏،‏ فرفضت عرضا لتوحيد القوائم قدمه فصيل إصلاحي آخر معروف باسم كوادر البناء‏،‏ وكان الذي نقل العرض إلي السيد رضا خاتمي هو حسين كرباستشي رئيس بلدية طهران الأسبق‏،‏ حتي جاءت الرياح بما لا يشتهي هؤلاء أو هؤلاء‏.‏
لاشك أن هذه العوامل كلها أسهمت بدرجة أو أخري في إحجام الناس عن التصويت‏،‏ ومن ثم إلحاق الهزيمة المهينة بالإصلاحيين في جولة الانتخابات البلدية‏.‏ وعلي الرغم من أننا ينبغي أن نتعامل بقدر من الحذر مع النتائج التي أعلنت‏،‏ بحيث لا نجعل منها معيارا نهائيا للفشل أو النجاح‏،‏ وهي المؤشرات التي يمكن أن تكون أوضح وأكثر حسما حين تجري الانتخابات النيابية في العام المقبل‏(‏ الرئاسية في العام الذي يليه‏)‏ أقول إنه علي الرغم من ذلك فثمة حقيقة لم يعد بوسع أحد أن يتجاهلها في طهران‏،‏ وهي أن قطاعات عريضة من الإيرانيين تستشعر إحباطا أقعدها عن الخروج للتصويت‏،‏ بعدما أدركوا أن الكثير من الأحلام التي تعلقوا بها بعد انتخاب الرئيس خاتمي في عام‏1997،‏ إما تبخرت أو أجهضت‏.‏

‏(2)‏
كنت قد وصلت إلي طهران في اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات البلدية‏،‏ والكل لا يزال يتحدث عن المفاجأة وتفسيراتها‏،‏ وفي الطريق للقاء بعض المثقفين الإيرانيين سألت سائق سيارة الأجرة‏،‏ بعدما اتصل بيننا الحديث وعرقت أن اسمه قاسم‏،‏ عما إذا كان قد شارك في التصويت أم لا‏،‏ فوجدته قد مط شفتيه وقال بإنجليزية مكسرة‏:‏ لا فائدة‏،‏ وفهمت أنه تخرج في كلية الاقتصاد في العام نفسه الذي انتخب فيه السيد خاتمي‏(97)،‏ وكان وقتذاك من أشد المتحمسين له‏،‏ كما أن تفاؤله بالمستقبل كان كبيرا‏،‏ لكنه بعدما ظل‏14‏ شهرا عاطلا‏،‏ وفقد الأمل في العثور علي عمل يناسبه‏،‏ فإنه لم يجد مفرا من العمل كسائق‏،‏ وحين حل موعد التصويت في انتخابات البلدية هذه المرة‏،‏ كان قد فقد حماسه‏،‏ علي الرغم من أنه لا يزال من مؤيدي السيد خاتمي‏،‏ وهو مقتنع بأنه يريد أن يحقق الكثير لكنه غير قادر علي أن يفعل شيئا‏،‏ ثم تمتم قائلا وقد ارتسمت علي وجهه إمارات الأسف‏:‏ إنه حقا سيد مظلوم‏!(‏ كانت العبارة الأخيرة قد استخدمت في حملة الدعاية الانتخابية للسيد خاتمي‏،‏ في إشارة إلي أنه من السادة الذين هم من سلالة النبي‏،‏ لكنه لم يسلم من الظلم سيرا علي درب الإمام الحسين‏).‏
لأول وهلة خطر لي أن يكون تململ قاسم راجعا إلي أنه جامعي نال حظا طيبا من التعليم‏،‏ ولم يعثر علي الوظيفة التي تمناها فسخط علي الأوضاع التي دفعته إلي العمل سائق سيارة أجرة‏،‏ لكني حين جلست إلي مجموعة المثقفين الإيرانيين وجدت أنهم يقفون في ذات المربع المحبط والساخط‏،‏ وبعضهم أعرفه منذ عشرين عاما‏،‏ حين كانوا من أشد أنصار الثورة وخط الإمام وولاية الفقيه‏،‏ وإذا جاز لي أن أصور الموقف الذي عبروا عنه فإنني ألخصه في النقاط التالية‏:‏
‏*‏ إن فوز الإصلاحيين في عام‏97‏ بنسبة‏75%‏ كان مفاجأة أذهلت معسكر المحافظين‏،‏ الذين لم يخطر علي بالهم أن يخسروا أيا من مواقعهم في السلطة‏،‏ لذلك قرروا منذ اللحظة الأولي أن يحاصروا الإصلاحيين‏،‏ مستخدمين في ذلك مصادر القوة التي يملكونها‏،‏ وهي تكمن بالدرجة الأولي في كل المجالس التي تشكل بالتعيين وليس بالانتخاب‏(‏ مجلس تشخيص المصلحة ـ مجلس صيانة الدستور ـ السلطة القضائية‏)،‏ بالإضافة إلي هيمنتهم علي مؤسسات القطاع العام الاقتصادية هائلة النفوذ‏(‏ مؤسسة المستضعفين مثلا‏)‏ والبازار‏،‏ ثم حرس الثورة‏(‏ الباسيج‏)،‏ وما أدراك ما هو‏،‏ وعلي حد تعبير أحد أولئك المثقفين فإن الإصلاحيين ظلوا يخاطبون أحلام المجتمع وأشواقه‏،‏ بينما بقي المحافظون يتحكمون في مصالح الناس ومصائرهم وحياتهم اليومية‏.‏

‏*‏ نجح المحافظون في أن يكسبوا إلي صفهم مرشد الثورة السيد علي خامنئي‏،‏ الذي استخدم صلاحيات الولي الفقيه الاستثنائية في إحكام حصار الإصلاحيين وإجهاض محاولات تقدمهم‏،‏ فهو الذي طلب في رسالة بعث بها إلي مجلس الشوري مثلا وقف مناقشة قانون الصحافة‏،‏ وأمر بإنشاء محكمة خاصة لرجال الدين‏،‏ وانتقد الحريات الصحفية‏،‏ ووصف الصحف المعارضة بأنها قاعدة للعدو‏،‏ وسكت علي ملاحقة القضاء لأعضاء مجلس الشوري علي الرغم من تمتعهم بالحصانة من الناحية القانونية‏،‏ وقبل بتحول حرس الثورة إلي دولة أخري داخل الدولة‏،‏ تناطح الحكومة الشرعية وتتحداها‏..‏ إلخ‏.‏ وسواء أراد ذلك فعلا أم أن ظروفه الصحية لا تمكنه من متابعة كل شيء ففعلها المحيطون به باسمه‏،‏ فإن هذه الخطوات والمواقف نسبت إليه في نهاية المطاف‏.‏

‏*‏ كانت النتيجة أن تحولت السلطة القضائية إلي جهاز لقمع المثقفين وملاحقة المنابر التي تمارس حريتها في التعبير وانتقاد الأوضاع القائمة‏،‏ حتي أمرت المحاكم خلال السنوات الثلاث الأخيرة بإغلاق‏90‏ صحيفة‏،‏ وحكمت بالسجن علي أعداد كبيرة من المثقفين والصحفيين‏،‏ مما أدي إلي إسكات الأصوات المعارضة وإلي إفشال طموحات التنمية السياسية التي دعا إليها الرئيس خاتمي واعتبرها ركيزة مشروعه وبرنامجه‏.‏

‏(3)‏
ثمة معلومات متواترة عن أن قرارا اتخذ باستبعاد الإصلاحيين من الترشيح في الانتخابات البرلمانية المقبلة‏،‏ التي تصفي أسماء المرشحين لها من خلال مجلس صيانة الدستور‏(‏ المرشحون للبلديات لا يمرون بعملية التصفية‏)،‏ الأمر الذي أشاع حالة من التشاؤم في الأوساط الإصلاحية‏.‏ ويبدو أن هذا الشعور تسلل إلي الرئيس محمد خاتمي نفسه‏،‏ الذي كان قد تقدم إلي مجلس الشوري قبل عدة أشهر بمشروع قانون لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية‏،‏ أملا في أن تمكنه تلك الصلاحيات التي ينشدها من أن يتجاوز العقبات التي عوقت محاولته تنفيذ وعوده للجماهير التي انتخبته‏،‏ وكان السيد خاتمي قد اعتبر هذا المشروع السهم الأخير الذي يطلقه لإنقاذ برنامجه‏،‏ وكما علمت فإنه قال لخاصته‏:‏ إنه إذا مر أمام مجلس الشوري‏،‏ واعترض عليه بعد ذلك مجلس تشخيص المصلحة الذي يهيمن عليه المحافظون‏،‏ فإنه سوف يقدم استقالته ويلزم بيته وهو مستريح الضمير‏،‏ غير أنه بعد أن أعد المشروع وأصبح جاهزا للعرض‏،‏ طلب السيد خاتمي من مؤيديه في المجلس تأجيل مناقشته‏،‏ ويقول المحيطون به إنه أصبح أكثر ميلا لعدم خوض معركة الصلاحيات‏،‏ وقد فسر بعضهم ذلك بحرصه علي ألا يدخل في صدام مع الجناح الذي يسانده المرشد‏،‏ باعتبار أن ذلك ليس من مصلحة النظام أو الاستقرار في البلد‏،‏ والبعض الآخر رأي أنه آثر تأجيل مناقشة الموضوع بسبب ظروف الحرب المخيمة علي المنطقة‏،‏ وهو لا يريد أن يثير معركة في الداخل بينما البلد تهدده مخاطر من الخارج‏.‏

المأزق الذي يعانيه السيد خاتمي لم يعد أمره خافيا علي أحد‏،‏ وإنما أخباره منتشرة في المجالس والمنتديات المختلفة‏،‏ وقد لوحظ أنه لم يحضر هذا العام ـ علي غير عادته ـ الذكري السنوية ليوم الطالب الذي تحتفل به جميع الجامعات الإيرانية‏،‏ وقيل في تفسير ذلك إن الرئيس الإيراني يشعر بأنه ليس لديه ما يقوله للشباب‏،‏ الذين وقفوا إلي جواره وصوتوا له وتحملوا عبء الدعوة إلي تأييده وإثارة الحماس لمشروعه الإصلاحي‏،‏ وهو يدرك جيدا أنه لم يتمكن من تلبية طموحاتهم‏،‏ وقال في مقابلة صحفية‏:‏ إن عدم حضوري هذا العام لم يكن بسبب انتقادات الطلبة واحتجاجاتهم ضدي‏،‏ وأنا أدرك جيدا أنهم مستاؤون مني لأن مطالبهم لم تتحقق‏،‏ ولست ألومهم في ذلك‏،‏ لكني أتمني أن يدركوا الظروف السائدة حاليا‏.‏
لقد تحدثت صحيفة فاينانشيال تايمز اللندنية عن مأزق السيد خاتمي في تقرير نشرته خلال شهر ديسمبر الماضي‏،‏ ذكرت فيه أن المحافظين يستعدون لإقصائه عن السلطة‏،‏ بعد أن دأبوا منذ انتخابه في عام‏97‏ علي تضييق الخناق عليه‏،‏ عن طريق الاعتقالات والمحاكمات والضغوط القوية التي تمارسها المؤسسات التابعة لمرشد الثورة‏،‏ وحين سألت من أعرف عن فكرة الإقصاء‏،‏ قيل لي إنها واردة باستمرار في محيط المحافظين‏،‏ الذين تأهبوا أكثر من مرة لإعلان الطوارئ وعسكرة النظام‏،‏ باسم مواجهة المخاطر التي تهدد مسيرة الثورة‏،‏ ولكن الحسابات الإيرانية المعقدة حالت دون إعطاء إشارة تنفيذ الفكرة‏،‏ ومن ثم فإن تضييق الخناق حاصل بقوة‏،‏ لكن لا يبدو في الأفق الآن أن العسكرة واردة‏.‏

‏(4)‏
في جامعة كيرمان دعي الكاتب الإيراني محمود شمس الواعظين الذي ذاع صيته مع بزوغ نجم الإصلاحيين‏،‏ للقاء الطلاب ومناقشة الأوضاع الراهنة في البلاد‏،‏ وحين جاء دور الأسئلة‏،‏ وقفت إحدي الطالبات قائلة‏:‏ أنا ضد فكرة ولاية الفقيه‏،‏ فماذا أفعل؟
فوجئ شمس بالسؤال‏،‏ فرد بهدوء قائلا‏:‏ إن الذي يسأل أسئلة ذكية فإنه عادة ما يعرف كيف يجيب عليها‏،‏ ثم سكت‏!‏

كان محمود شمس رئيسا لتحرير أكثر من صحيفة‏(‏ جامعة وطوس ونشاط‏)،‏ أغلقت كلها بأمر القضاء‏،‏ وبسبب كتاباته أودع السجن‏،‏ بتهمة بث الدعايات ضد النظام الإسلامي‏،‏ ونشر الأكاذيب بهدف إثارة الرأي العام‏،‏ وبعد أن قضي سنة ونصف سنة في السجن أطلق سراحه‏،‏ فقرر أن يلزم بيته ويوقف نشاطه الصحفي مؤقتا‏،‏ وحين يسأل الآن عن مشروعاته فإنه يجيب وهو يضحك قائلا‏:‏ إنه ممثل الإمام في البيت‏!(‏ في إيران يعين ممثل للإمام أو الولي الفقيه في كل دائرة أو مرفق‏،‏ وهو اختار أن يبرر اعتصامه بالصمت في البيت بتلك المداعبة‏).‏
سؤال الطالبة وإجابة زميلنا محمود شمس بمثابة تجسيد لصورة الواقع الإيراني اليوم‏،‏ ذلك أن الأقلام الإصلاحية التي فتحت جميع الملفات للمناقشة‏،‏ بما فيها تلك التي أحيطت بقداسة وكان مسكوتا عنها‏،‏ مثل صلاحيات الولي الفقيه واختصاصاته وهل هو خاضع للقانون أم فوقه‏،‏ هؤلاء استثمروا أجواء الانفتاح التي دعا إليها السيد خاتمي‏،‏ فرفعوا سقف الحوار ووسعوا دائرته‏،‏ ثم دفعوا ثمن مواقفهم‏،‏ من خلال المصادرة والملاحقة القضائية والسجن‏،‏ وبعدما سددوا الفاتورة أصبحوا أكثر حذرا واعتصموا بالصمت تجنبا لمزيد من المتاعب‏،‏ لكنهم سكتوا بعدما كانت الشرارة قد أطلقت بالفعل‏،‏ الأمر الذي كان من نتيجته أن وقفت الطالبة أمام الملأ في الجامعة‏،‏ معلنة رفضها لولاية الفقيه‏،‏ وذلك ليس مشهدا استثنائيا‏،‏ وإنما هو ظاهرة عامة‏،‏ من ثم فلابد أن يحسب للسيد خاتمي أنه منذ تولي رئاسة الجمهورية‏،‏ وهو يعمل علي توسيع دائرة الحوار في المجتمع ورفع سقفه بالنسبة لمختلف القضايا العامة‏،‏ وإذا كانت خطوات الإصلاح قد تعثرت في هذا الاتجاه أو ذاك‏،‏ إلا أن القدر المتيقن أنه نجح في تحفيز الشباب ورفع صوت المجتمع خلال السنوات الست التي قضاها في منصبه‏.‏

‏(5)‏
خلال متابعتي لمسيرة الثورة الإسلامية في إيران طيلة السنوات الأربع والعشرين الأخيرة‏،‏ لم أستشعر قلقا علي التجربة إلا هذه المرة‏،‏ أقلقني أن العلماء الذين ثاروا دفاعا عن الدين والوطن في عام‏79،‏ حين طال بهم الأمد في مواقعهم واستطابوا احتكار السلطة ووجاهاتها‏،‏ فإنهم ازدادوا تشبثا بها‏،‏ وأصبحوا يتصرفون كما لو كانوا هم الدين وهم الوطن‏،‏ من ثم فقد اعتبروا معارضتهم أو المساس بهم‏،‏ وكأنه مساس بالملة أو عمالة للخارج‏،‏ الأمر الذي سوغ لهم قمع معارضيهم بمختلف السبل‏.‏
أقلقني شيوع الضجر والتململ بين الناس الذين تغيروا وتطورت أفكارهم وأشواقهم بمضي الزمن‏،‏ بينما القابضون علي السلطة لم يتغير فيهم شيء‏،‏ ورفضوا أن يتعاملوا مع المجتمع بصورته المستجدة‏،‏ حتي بدا وكأن الرأس من جنس بينما الجسم من جنس آخر‏،‏ وحين يحدث ذلك فإن الناس يصبحون بين خيارين‏،‏ أما الانكفاء أو الانفجار‏،‏ وقد تبدت إرهاصات الانكفاء في الانتخابات البلدية الأخيرة بصورة لا تخطئها عين‏.‏

أقلقني أيضا أن هناك من تصور أن أجواء التململ تلك يمكن أن تصبح فرصة مواتية لإعادة الملكية إلي إيران مرة أخري‏،‏ ومن الواضح أن آمال أنصار الملكية المقيمين في الخارج قد انتعشت في الأجواء الراهنة‏،‏ خصوصا في ظل الاحتمالات القوية لتغيير النظام في العراق والأحاديث الأمريكية عن إحداث تغييرات في المنطقة‏،‏ فعمد هؤلاء إلي زيادة محطات البث الفضائي التليفزيوني والإذاعي الموجه إلي إيران من الولايات المتحدة‏،‏ حيث وصل عدد محطات البث التليفزيوني إلي سبع‏،‏ ومن أوروبا حيث أقيمت في العاصمة التشيكية براج محطة إذاعة فارسية موجهة‏،‏ وفي ظن هؤلاء وهؤلاء أن فرصة العودة إلي طهران مرة أخري لم تعد بعيدة‏.‏
المثقفون الإيرانيون الذين لقيتهم لا يستبعدون أن تكون حملة إسقاط النظام العراقي عنصرا ضاغطا علي جهات القرار في إيران لكي تلجأ إلي إحداث نوع من الانفراج السياسي الذي يمتص استياء الناس وضجرهم‏،‏ وقد سمعت تعليقا لأحدهم علي مبادرة وزير الخارجية الإيرانية كمال خرازي‏،‏ التي دعا فيها إلي حل الأزمة العراقية عن طريق تحقيق الوفاق الوطني مع المعارضة‏،‏ وإجراء انتخابات حرة في البلاد لاختيار من يحكمها‏،‏ وفيه تساءل‏:‏ هل تكون تلك إشارة إلي احتمال تطبيق تلك المبادرة في إيران أيضا؟

حين ألقي السؤال فإنني لم أستطع أن أتبين بالضبط ما إذا كان صاحبنا يتكهن أو يتمني‏،‏ لكنه في الحالتين ظل تعبيرا عن أزمة الداخل الإيراني‏.‏
أضافة تعليق