مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أتباع الرسل
أتباع الرسل (خاص الوفاق)
بقلم: مها المحمدي
تستحكم السنن في حياة البشر حتى تصبح عادات لا يتخلى عنها حتى المتألمون منها ! والإسلام في بصيرته النافذة ونفاذه المتدفق إلى نفوس أتباعه يضع لهذه السنن إشارات ضوئية تُضئ المعتم منها وتجعله مبعث دواء وإن لم يقضي على الداء .
في الترغيب والترهيب لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ( لا قدست أمة لا يعطى الضعيف حقه غير متعتع ) صححه الألباني
وغير متعتع: أي من غير أن يُصيبه قلق أو أذىً أو ضرر .
رسم المعنى للضعفاء يقتضي أولاً أن نعرف أن الضعف صفة جِبلة في خلق الإنسان
{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }النساء28
ومع ضعفه في الصبر على شهواته وعلى أداء التكاليف إلا أنه إن صَلُب إيمانه كان كيد الشيطان له ضعيفاً !
{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }النساء76
بين وضوح المعنى وإغلاقه فإن المريض والفقير والطفل والمرأة وكبير السن
واليتيم والجاهل هم الضعفاء.
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة91
والرسل إنما يُبعثون إلى ضغفاء الناس وأقويائهم بل إن الأقوياء منهم غير أولي الهدى قد ينظرون لرسولهم رسماً على قاعدة الضعف والقوة .. ؟
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }هود91
والأسطر القادمة توضح نسق مفهوم الضعفاء في ضوء الحقيقة التي من أجلها دعا الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته الباذخة في رسم معاني الإنسانية ( اللهم أحيني مسكيناً وأمِتني مسكيناً، واحشرني مع المساكين ) صححه الألباني
يقرر صلى الله عليه وسلم رحلته في الدنيا منذ البدء وحتى المنتهى صحبة للمساكين ،هؤلاء الذين ما استنكف عليه الصلاة السلام أن يؤاكلهم ويجالسهم ويسير معهم في طريقهم وإلى حوائجهم ، وهم الذين لجئوا إلى طريقه الذي رفعهم إلى رتبة الصحبة الشريفة .
يقول هرقل عظيم الروم لأبي سفيان حين جاءته رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه فيها إلى الإسلام : أضعفاء الناس يتبعونه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم
فقال: أولئك أتباع الرسل!
اختاروه فراراً من بؤس الحقيقة المشهودة إلى جمال العدل والرحمة ومستقبل الخلود في الجنان، ومن غير الممكن تجاهل مقارنته صلى الله عليه وسلم :
(ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جوَّاظٍ مستكبر) أخرجه البخاري، ( جواظ ) بفتح الجيم وتشديد الواو وآخره معجمة الكثير اللحم المختال في مشيه حكاه الخطابي ، وقال ابن فارس : قيل هو الأكول ، وقيل الفاجر .
لقد شكلوا دعامة الدعوة الأولى في بنائه الصلب وإن كانت الدعوة لم تستغني لا في أولها ولا عندما استقر بها المقام في المدينة عن أقويائها الأخيار.
لقد قرر صلى الله عليه وسلم جملة الحقائق الإنسانية عاطفة وعملاً ، كلمة متخيلة وواقعاً له سلوكياته ، وما أروعه من قَسر لا يدع لأحلام المستكبرين مكان ويحبسهم في سرداب أحلامهم حين نقم المشركون من سادة مكة على الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ؛ لاختياره هؤلاء عليهم! فقد روى عبد الله بن مسعود قال: ’’ مَرَّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمّار وخبّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين.. فقالوا يا محمد، اطردهم، أَرَضيتَ هؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟! أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا ؟! فلعلك إن تطردهم أن نأتيك. قال: فنـزلت: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنعام 52 .
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28
أي دمع ذرفته أعينهم الواله بحب الله ورسوله حين سمعوا رد ربهم الرحيم ؟ !
أنا مع المنكسرة قلوبهم ! معية تهبط مع السحاب تجعل القلوب قناديل معلقة في جِناب الرحمن ليست خطوات ضباب وإنما معاشرة واقعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد قرر داعي الأخلاق بفعله جملة الصدارة : خير مايملكه الإنسان ما في نفسه لا ما في يده .

معيارية الخُلق أن تضع له طرقه ووسائله ومقاييسه فترسم له المثل الأعلى في فطرة إنسانية سليمة وواقع الخُلق وصفاً تقريرياً لفعل يُوقفنا على حقيقة المشهد صعوداً من الواقع وانكفاء عليه
وهذا ما يفعله الرسل بأتباعهم حين يعبرون بهم جانب التنظير إلى التطبيق.
{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ }هود29
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ }الشعراء114
’’ أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ’’ أخرجه أبو داوود والنسائي والترمذي
ارتماء الأفكار في عمق الألفاظ يحول مجرى السنن في اعتقاد البشر ؛ هنا ينقطع كل سبب للرزق والنصر ويوصل سبب الضعفاء ! فقه فَقهه الصحابة فقدموا أنس بن النضر في حصار ( تستر ) حين استعصى عليهم فتحه فأقسم على ربه أن ينصر المسلمين ويكون أول قتيل فأبره تعالى !وهو الذي نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملابسه الممزقة وقال مبتسماً : ’’ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ’’ أخرجه أبوداوود وابن ماجه وأحمد
أي منزلة وأي سريرة يَدلُ بها العبد على ربه فيقسم عليه ويبره الكبير المتعال ؟ !
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : مرّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده جالس: ’’ ما رأيت في هذا ’’؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع.
فسكت رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم مرّ رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’ما رأيك في هذا ’’؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) أخرجه البخاري
إنها مؤهلات إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
ولئن سلك الضعفاء أمثل الطرق ميسم الرسالة فأخرجهم من أضعف الضعف إلى أقوى القوة فإن بعضهم صعب عليه خلع عباءة الاتباع للأقوياء فداروا في فلكهم فأضافوا ذلة الآخرة إلى ذلة الدنيا تركة ثقيلة ألصقتهم بحضيض النار عياذاً بالله تعالى ؛ لا شعور من مكتسبات ماضية مستقرة تُرخي ستار لايواربه أصحابه وإنما يتدثرون به غطاءً سميكاً في سماكة الكُفر يرخي ظلاله السوداء فتعمى القلوب وتصم الآذان
{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }إبراهيم21
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ }غافر47
وجوه النقص والتمام تطرح المعاني تقلبها ظهراً لبطن وبطناً لظهر ، أُغلقت سلسلة الرسل بخاتمهم صلى الله عليه وسلم وبقي الضعفاء يتسلل الخُلق العظيم في إنصافهم لا من ثقب وإنما من واجهة السماء بامتداها في انبساط عظيم .
*
أضافة تعليق