مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تأصيل للزمن الاسلامي
بيقين المؤمنين وإيمان الموقنين نجزم أنّنا على أبواب الزمن الاسلامي الذي طال انتظاره والتغنّي به منذ زمن بعيد، فالتحوّلات السياسية في البلاد العربية بدأت تثمر تحوّلات نفسية على جانب كبير من الأهمّية وتبشّر بانخراط قوي في عملية التغيير الشامل الذي تنشده الأمّة ، وكما كان للحركة الاسلامية وجود فاعل في محطّات التحوّل السلمي في عدد من الأقطار فلا بدّ أن تحتلّ المكانة المناسبة لحجمها في إعادة صياغة المشهد العام ، أي أن زمن تحويل الأفكار والمعاني القرآنية إلى برامج وآليات قد حلّ، ولا يسمح بأيّ تأخير أو تكاسل أو إضاعة للطاقات والأوقات في صغائر الأمور مهما كانت الذرائع والمسوّغات، بل المطلوب حشد جميع القوى المؤمنة حول مُحكمات الاسلام وقواعده وأصوله وكلّياته وقطعيّاته، وعدم الالتفات إلى المختلف فيه المستساغ شرعاً ، وهو أكثر ما يختلف حوله العاملون للإسلام، فواجب الوقت يقتضي التكتّل الواعي البصير لخدمة المشروع الاسلامي برسم قسَماته بدقّة ووضع خطط استراتيجية ومرحلية مستندة إلى الحقائق والأرقام والاحصائياتوفق بحوث متخصّصة يضعها أصحاب الخبرات الثقات المتضلّعون في مجالاتهم ويراقبها علماء الدين العاملون المشهود لهم بالقوّة والأمانة، لينطلق بعد ذلك – أي الآن – الدعاة في عمليّات الشرخ والتوعية والإجابة عن الأسئلة وردّ الشبهات ودحض الافتراءات، تمهيدا لوصول المشروع إلى ساحات الانتخابات والتشريع والتنفيذ، وهذه كلّها أعمال ضخمة يجب أن نحشد لها حتى الأنفاس فلا يضيع منها نفَسٌ ، فضلا عن الجهود والأوقات والأموال والمُهَج، لانّ الظرف – كما لا يخفى على عاقل- منعرج حاسم في حياة الدعوة والدعاة والأمّة، فإمّا نغتمه لخدمة أهدافنا الربانية أو نضيّع الفرصة فيتنقضّ عليها المتربّصون بالدين والبلاد فيعيدوها كرّة طويلة مؤلمة مرّة أخرى، وهم – في أكثر من بلد عربي منعتق من الاستبداد – يتوعّدون بذلك جهارًا ويحتشدون في مواكب سياسية وإعلامية وثقافية لا همّ لها سوى مواجهة المدّ الاسلامي الشعبي والرسمي مهماً كان معتدلاً وسلميًا ومحتكمًا إلى الآليّات الديمقراطية التي وضعوها هم ويُضفون عليها ألوانًا من القداسة والتبجيل، فما العمل؟هنا يبرز دور الدعاة، الذي يسبق العمل السياسي ويواكبه ويستمرّ معه ويتجاوزه إلى فضاءات القلب والعقل والضمير وفعل الخير، ولا مبرّر لدعاة الاسلام أن يفوّتوا فرصة الانفراج السياسي في البلاد العربية ليأخذوا الكتاب بقوّة ويدخلوا مختلف الأبواب يُعرّفون بدين الله تعالى عبر وسائل العصر وأدواته وخطابه، يناقشون القاصي والداني ويحبّبون الاسلام لغير المسلمين، فالبشرية عطشى – ومن ضمنها كثير من المسلمين أنفسهم – تنتظر المغيث، وأصحاب الشبهات في غبشهم يعمهون،يجب تبصيرهم بالحجّة والمنطق ، وأصحاب الشهوات وجدوا في زمن الرفاهيةمرتعا خصبا وظروفا ملائمة للاستغراق في الملذّات المحرّمة من غير أن يرتفع صوت قويّ بالنكير، فعلى الدعاة أن يسوق إليهم معاني التوبة والانابة والاستقامة ، فهذا أفضل وأجدى من ترك هؤلاء وأولئك فريسة للغواية ووقوداً للنار، ونحن نعلم أنّ أبواب الجنة لن تفتح لنا إلا إذا عملنا على إغلاق أبواب النار أمام الناس ، حبًّا لهم وشفقة عليهم، فنحن ندعو الناس لأننا نحبّهم، ولنأخذ مثالا بسيطا يفي بالغرض: كم من تارك للصلاة – وهو كبيرة الكبائر ورأس المنكر – بين أهلنا وجيراننا وزملائنا يحتاج إلى كلمة طيبة ولفتة إيمانية ومسحة حانية على قلبه فيهتدي؟ وخلف ذلك ثواب تتصاغر معه حُمُر النعَم وتهون الدنيا بما فيها.
هذا هو الفقه الذي ينبغي أن يُهرع إليه دعاة الاسلام وطلبة العلم الشرعي، لأنّه خدمة مباشرة للإسلام والمشروع الاسلامي، ولئن تعذّر أداء المهمّة بالانخراط في كتلة دعوية أو تنظيمية واحدة فلا أقلّ من أن يجمع العاملينَ الهدفُ السامي والوسائل الذكية ، وأخطر ما ننبّه عليه في هذا السياق - لأنّه الداهية الكبرى - هو التعصّب واستفراغ الجهد في المعارك المنتهية والمباحث التجريدية والمسائل الخلافية، بينما يُراد للأمة ان تسلك غير طريق الاسلام والحرية والعدل والشورى والحقوق، ويُكاد لها كيدا كُبّارًا في الخفاء والعلن، وقد تعلّم المسلمون الملتزمون أنّ التعصّب في فروع الفقه لا مستند له لأن المجال يَسَعُ الاختلاف، والخطاب الشرعي فيه القطعي والظني، والمحكم والمتشابه، والخطير والهيّن، ونحو ذلك من مسوّغات يُعذَر بها المختلفون، ولئن كانت النفرة الدعوية واجبة دائما فهي الآن أشدّ وجوبا لتوافر ظروف النجاح والاكتساح بفضل تمدّد ظلّ الحرية وتأكّد حاجة الناس إلى الحلّ الاسلامي على مستويات النفوس والمجتمعات، فمن أشدّ الغفلة ترك واجب الوقت رغم إلحاحه والاستمرار في إنفاذ الطاقات في أمور خلافية لا تقبل تصدّر المواقع الأمامية، فالاشتغال بها – الآن خاصّة – ليس انتصاراً للإسلام وإنما لحظوظ النفس، وليس خلفه مرضاةُ الله لأنّ هذه المرضاة تُبتغى في ساحات الدعوة إلى الاسلام ذاته لا إلى واحدة من مدارسه، وللعاقل أن يسأل: ما الأخطر؟ ترك الصلاة أم خلاف الفروع؟ حشد الجهود من أجل حرية المسلمين أم من أجل رأي فقهي قابل للاجتهادات؟ التمكين للمشروع الاسلامي أم لمسألة بقيت خلافية منذ القرن الأوّل ؟ إنّ التشدّد في الخلافيات التي وسعت المدارس الفقهية ولم يضق بها العلماء ذرعًا يؤدّي حتمًا إلى تضييع حقوق للأمّة والدين والعلم، وحياتُنا تطفح بهذه الحقوق المضيّعة ، فهناك قضية فلسطين ومشكلة الاستبداد والظلم السياسي والاجتماعي وتزوير الانتخابات وانتشار المحرّمات المتّفق عليها، فأين مكمن الغيرة على الدين؟وإنّنا نخشى – ونحن يظلّنا زمن التحوّل الجذري في حياة الأمّة – أن تسقط هيبة الفقهاء وطلبة العلم عن الناس إذا لطال الفصان بين هؤلاء وبين التحوّل الحاصل الذي يقتضي حضورهم في المقدمة ليوجّهوا ويبصّروا ويُعطوا القدوة الحسنة، وأخطر ما قد يصيب المسلمين في هذا المنعرج أن يلاحظوا أنّ الفرَق – وكلّها تنتسب لأهل السنة والجماعة – كأنّها أديان مختلفة تشبه ما أصبحت عليه النصرانية، كيف لا والأذن لا تخطيء سوء الأدب المتبادل وصولا إلى الاتهام بالضلال، وكلّ ما في الأمر مسألةٌ ما زال العلماء مختلفين حولها منذ قرون، والراجح أنها ستبقى كذلك إلى يوم القيامة.
إنّ الدعوة في أمسّ الحاجة إلى أخلاق العلم والعلماء وإلى التقوى وطهارة القلب وعفّة اللسان، ولا يساعد على الأخذ بحظّ وافر من ذلك سوى الانخراط الواعي في خدمة قضايا الاسلام والمسلمين بدل الاصرار على صغائر الأمور ، ولنا في الصحابة رضي الله عنوان أسوة رائعة، فقد روى الشيخان أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم انتدب مجموعة منهم لمهمّة في حيّ بني قريظة اليهودي وقال لهم ’’ لا يصلّينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ’’، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فواصل بعضهم السير امتثالا لظاهر الأمر النبوي، ونزل بعضهم فصلّوا عملا بروح الحديث النبوي الذي صرفوه إلى الحثّ على الجدّ في السير، وعندما عرضوا المسألة بعد ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم سكت، أي أقرّ اجتهاد الطرفين، متفهّمًا حرفية الفريق الأوّل وتأويل الفريق الثاني، لأنّ الجميع اتفقوا على الغاية المتوخّاة من الخروج وأنجزوها من غير ان يعرقلهم الخلاف الفقهي، ولو أنّهم أخذوا يتجادلون في المسألة أثناء طرحها وتعصّب كلّ فريق لرأيه لشغلهم الجدل عن بلوغ الهدف، قال الحافظ ابن حجرفي الفتح:’’ قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أنكلّ مختلفين فيالفروع من المجتهدين مصيب’’.
من جهة أخرى يجب الانتباه إلى أنّنا لا ندعو فقط إلى مغادرة ساحات القضايا الخلافية للاحتشاد في ميادين المواجهة الدعوية بل نلحّ على طرق أبواب فقه الحياة بقوّة والاشتغال بالتأصيل الشرعي للقضايا الدستورية والادارية والاقتصادية والدولية، ذلك أنّ مسائل التعبّد الفردي قد أُشبعَت بحثًا عبر القرون وامتلأت بها الأسفار بعكس مجالات سياسة الحكم والمال فضلا عن المستجدّات التي ليس لنا فيها تراث عن العلماء المتقدّمين، فيقتضي تنشيط الحياة العامّة انتاج ما يناسبها من فقه يجيب عن الأسئلة ويقدّم الحلول للساسة والخبراء وصنّاع القرار، وللدعاة قبل هؤلاء، حتى يواكبوا العصر ويتكلّموا بلسانه ويُوفّقوا إلى طرح البدائل للإشكالات التي ينتقدونها على العلمانية، وإذا كانت نصوص القرآن والسنة ثابتة مستقرّة لا تأثير للزمان والمكان عليها فإن الاستنباط منها هو الذي يحتاج إلى تجديد الأدوات والاحاطة بالواقع المتغيّر ، وذلك ما يعبّر عنه الأصوليون بالمناط تحقيقا وتنقيحا وتخريجا.
إنّ مسؤولية العلماء والمدارس الشرعية كبيرة جدا للانسجام مع مطالب الأمة ومتطلّبات الوقت والتفاعل مع المتغيّرات المسارعة، والبقاء في الهامش صنو المراوحة، بل التراجع في زمن يُلزم هؤلاء بالإقدام والتجاسر لبيان الطريق وتصحيح المسار والتوجيه نحو الأفضل، فإذا وقع تراخ عن أداء هذه المهمّة زالت الثقة وأوشك ان تؤول قيادة الأمة إلى غيرهم من أصحاب الفهم والجرأة .

عبد العزيز كحيل

المصدر: المركز العربي للدراسات والأبحاث
أضافة تعليق