بقلم: د . سلمان بن فهد العودة
سألني أحد الإخوة عن الدلائل الشرعية التي تؤكد أن على المكلف مراعاة العواقب، سواء كان فقيهاً أو حاكماً أو أباً أو أمير جماعة أو قائد فريق؟ فجمعتُ ما ظهر لي من أدلة الكتاب والسُّنة والقواعد الشرعية العامة، وهذه أهمها: 1- قصة يوسف عليه السلام وما فيها من الرؤيا التي تعززت بتعبير النبي يوسف عليه السلام لها، وما اقتضاه ذلك من الإجراء التقشفي الاقتصادي، والاستعداد لما يمكن أن يحدث من الجفاف والجدب. وهو أمر جاءت الشريعة الخاتمة برعايته واعتباره، وليس هذا من الغيب المطلق، بل هو غيب نسبيّ يعلمه بعض خلق الله تعالى بسبب ما، والممنوع ادّعاء علم الغيب، أما توقعه فهو جارٍ من الأنبياء وغيرهم. 2- في نصوص الكتاب الحكيم الإرشاد إلى السنن الربانية التي يمكن استنباطها والعمل وفقها كما في قوله: سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (الإسراء:77)، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا (فاطر:43)، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (الأحزاب:62)، والتوقُّع يبنى على قراءة السنن والنواميس وفقهها، وقراءة الواقع وأبعاده وتشابكاته. والنصوص ترشد إلى وجود سنن وقوانين إلهية تحكم الحراك البشري الاجتماعي مثلها مثل القوانين التي تحكم المادة، وإن كانت أقل ظهوراً منها وأصعب رصداً. وما نهوض الحضارات وانهيارها، وقيام الدول وسقوطها إلا وفق نواميس محكمة يمكن رصدها، ويمكن بمراعاتها تطويل أعمار الدول وبإهمالها سرعة زوالها وانهيارها كما أشار إلى طرق من ذلك الإمام ابن خلدون في «مقدمته». 3- قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»؛ مرشد إلى المقصود الربَّاني من التشريع واتصاله بمآل الأمر أو النهي وهو حصول التقوى، كما في تشريع الصيام، وكما في تشريع القصاص. 4- قوله تعالى: ( وّلا تّسٍبَوا الذين يّدًعٍونّ مٌن دٍونٌ الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)(الأنعام:108)، وذلك أن المشركين قالوا للرسول [: إذا لم تكفّ عن سبِّ آلهتنا فسوف نسب إلهك، فنزلت هذه الآية. وسبُّ الأوثان ليس في صلب التوحيد والرسالة، وإنما الذي في صلبها إبطال عبادتها ونفي نفعها أو ضرها، ووجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، ولكن ربما كان في سبِّها تخذيل وتوهين للشرك، وإذلال لأهله، ووُجد ما يدعو إلى ترك ذلك، لئلا يؤول إلى مفسدة أعظم من تلك المصلحة. ويشبه هذا الاستدلال في منزعه الحديث الصحيح الذي رواه (البخاري، ومسلم عن ابن عمرو): أن النبي [ قال: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»، ففسَّر ذلك بأن يسبَّ أبا رجل آخر فيقتص منه بسبِّ أبيه. 5- ومن السُّنَّة قصة ترك الكعبة على ما هي عليه، وعدم إعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ خشية أن تنكر قلوب قوم حديث عهدهم بجاهلية وشرك. وقد بوَّب البخاري على الحديث في كتاب العلم «باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ». والتعبير بـ«الاِخْتِيَار» يوحي بأن البخاري يستدل من الحديث على ترك بعض المسائل التي فيها خيار ومندوحة، وكأن القاعدة تعمل في حال دون حال. 6- ومنها ترك النبي [ قتل المنافقين لئلا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وفي ذلك مراعاة السياسة الشرعية في قطع دابر قالة السوء عن التطبيق الشرعي؛ علماً أن النبي [ أقام الحدود على بعض أصحابه، وقد يخشى أن يقول فيها الناس ما يخشى أن يقولوه في شأن قتل المنافقين، فيحتاج إلى تأمّل الفرق بين هذا وهذا. 7- قصة بول الأعرابي في المسجد، وفيها نهى النبي [ أصحابه عن زجره ومنعه؛ مراعاة للعواقب على الفاعل، وعلى المكان.. ثم علَّمه النبي [ بعدُ ما يتوجَّب عليه مراعاته بلطف. وفي هذا درس للدعاة والمربين والغيورين ألا يحملهم الأمر على تجاوز الحد أو التعنيف على المخطئ، أو الانفعال الذي يفضي إلى التنفير وانصراف القلوب! 8- أحاديث النهي عن التشديد في العبادة لما يؤول إليه من الملل والسآمة والانقطاع، كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ [: «يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتِ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ صَوْمُ الدَّهْرِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ». قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى»(أخرجه البخاري ومسلم). وفي حديث: «اكْلَفُوا من العمل ما تُطِيقُونَ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا وإن أحب العمل إلى الله أَدْوَمُهُ وإن قَلَّ»(أخرجه أبو داود (رقم 1368)، والنسائي (رقم 762) عن عائشة، والبخاري ومسلم مختصراً).
*المجتمع
سألني أحد الإخوة عن الدلائل الشرعية التي تؤكد أن على المكلف مراعاة العواقب، سواء كان فقيهاً أو حاكماً أو أباً أو أمير جماعة أو قائد فريق؟ فجمعتُ ما ظهر لي من أدلة الكتاب والسُّنة والقواعد الشرعية العامة، وهذه أهمها: 1- قصة يوسف عليه السلام وما فيها من الرؤيا التي تعززت بتعبير النبي يوسف عليه السلام لها، وما اقتضاه ذلك من الإجراء التقشفي الاقتصادي، والاستعداد لما يمكن أن يحدث من الجفاف والجدب. وهو أمر جاءت الشريعة الخاتمة برعايته واعتباره، وليس هذا من الغيب المطلق، بل هو غيب نسبيّ يعلمه بعض خلق الله تعالى بسبب ما، والممنوع ادّعاء علم الغيب، أما توقعه فهو جارٍ من الأنبياء وغيرهم. 2- في نصوص الكتاب الحكيم الإرشاد إلى السنن الربانية التي يمكن استنباطها والعمل وفقها كما في قوله: سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (الإسراء:77)، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا (فاطر:43)، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (الأحزاب:62)، والتوقُّع يبنى على قراءة السنن والنواميس وفقهها، وقراءة الواقع وأبعاده وتشابكاته. والنصوص ترشد إلى وجود سنن وقوانين إلهية تحكم الحراك البشري الاجتماعي مثلها مثل القوانين التي تحكم المادة، وإن كانت أقل ظهوراً منها وأصعب رصداً. وما نهوض الحضارات وانهيارها، وقيام الدول وسقوطها إلا وفق نواميس محكمة يمكن رصدها، ويمكن بمراعاتها تطويل أعمار الدول وبإهمالها سرعة زوالها وانهيارها كما أشار إلى طرق من ذلك الإمام ابن خلدون في «مقدمته». 3- قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»؛ مرشد إلى المقصود الربَّاني من التشريع واتصاله بمآل الأمر أو النهي وهو حصول التقوى، كما في تشريع الصيام، وكما في تشريع القصاص. 4- قوله تعالى: ( وّلا تّسٍبَوا الذين يّدًعٍونّ مٌن دٍونٌ الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)(الأنعام:108)، وذلك أن المشركين قالوا للرسول [: إذا لم تكفّ عن سبِّ آلهتنا فسوف نسب إلهك، فنزلت هذه الآية. وسبُّ الأوثان ليس في صلب التوحيد والرسالة، وإنما الذي في صلبها إبطال عبادتها ونفي نفعها أو ضرها، ووجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، ولكن ربما كان في سبِّها تخذيل وتوهين للشرك، وإذلال لأهله، ووُجد ما يدعو إلى ترك ذلك، لئلا يؤول إلى مفسدة أعظم من تلك المصلحة. ويشبه هذا الاستدلال في منزعه الحديث الصحيح الذي رواه (البخاري، ومسلم عن ابن عمرو): أن النبي [ قال: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»، ففسَّر ذلك بأن يسبَّ أبا رجل آخر فيقتص منه بسبِّ أبيه. 5- ومن السُّنَّة قصة ترك الكعبة على ما هي عليه، وعدم إعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ خشية أن تنكر قلوب قوم حديث عهدهم بجاهلية وشرك. وقد بوَّب البخاري على الحديث في كتاب العلم «باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ». والتعبير بـ«الاِخْتِيَار» يوحي بأن البخاري يستدل من الحديث على ترك بعض المسائل التي فيها خيار ومندوحة، وكأن القاعدة تعمل في حال دون حال. 6- ومنها ترك النبي [ قتل المنافقين لئلا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وفي ذلك مراعاة السياسة الشرعية في قطع دابر قالة السوء عن التطبيق الشرعي؛ علماً أن النبي [ أقام الحدود على بعض أصحابه، وقد يخشى أن يقول فيها الناس ما يخشى أن يقولوه في شأن قتل المنافقين، فيحتاج إلى تأمّل الفرق بين هذا وهذا. 7- قصة بول الأعرابي في المسجد، وفيها نهى النبي [ أصحابه عن زجره ومنعه؛ مراعاة للعواقب على الفاعل، وعلى المكان.. ثم علَّمه النبي [ بعدُ ما يتوجَّب عليه مراعاته بلطف. وفي هذا درس للدعاة والمربين والغيورين ألا يحملهم الأمر على تجاوز الحد أو التعنيف على المخطئ، أو الانفعال الذي يفضي إلى التنفير وانصراف القلوب! 8- أحاديث النهي عن التشديد في العبادة لما يؤول إليه من الملل والسآمة والانقطاع، كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ [: «يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتِ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ صَوْمُ الدَّهْرِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ». قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى»(أخرجه البخاري ومسلم). وفي حديث: «اكْلَفُوا من العمل ما تُطِيقُونَ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا وإن أحب العمل إلى الله أَدْوَمُهُ وإن قَلَّ»(أخرجه أبو داود (رقم 1368)، والنسائي (رقم 762) عن عائشة، والبخاري ومسلم مختصراً).
*المجتمع