ياسر الزعاترة
لا شيء يثبت سخف التحليلات والمواقف مثل إحالة الأحداث الكبرى إلى عوامل بسيطة من قبيل اعتبار هزيمة دولة كبرى نتاج خيانة ضابط أو مسؤول، أو النظر إلى ثورة شعبية بوصفها مؤامرة دبرت بليل بين مجموعة من الثوار وبين جهة ما وفرت لهم مصدر الدعم والتمويل.
لا أحد ينكر وجود المؤامرات في التاريخ الإنساني، لكن نجاح تلك المؤامرات يتطلب شروطا داخلية وخارجية مواتية
في التاريخ البشري، بخاصة العربي والإسلامي الكثير من هذه المقاربات القاصرة، ولنا في قصة عبد الله بن سبأ مثال، ذلك الذي اعتبره البعض سببا للفتنة التي نشبت بين المسلمين عشية الخلاف بين الإمام علي وبين معاوية بن أبي سفيان بعد وفاة الخليفة الثالث عثمان.
لا أحد ينكر وجود المؤامرات في التاريخ الإنساني، لكن نجاح تلك المؤامرات يتطلب شروطا داخلية وخارجية مواتية، بل إن شهية التآمر لا تنفتح إلا في ظل إحساس المتآمر بضعف العدو، ومن ثم إمكانية التسلل بين صفوفه.
منذ اندلاع الربيع العربي قبل ما يقرب من عام ونصف، بل قبل ذلك بسنوات طويلة، لم تتعرض دولة عربية للهجاء كما تعرضت دولة قطر، تلك الدولة الصغيرة في الخليج العربي.
وما يثير شهية المراقب لمزيد من العمق في تحليل الموقف هو أن الهجوم على تلك الدولة (قطر) لم يكن حكرا على نظام بعينه، بل شمل معظم الأنظمة (إن لم يكن جميعها دون استثناء)، حتى لو أخذنا الألفية الجديدة وحدها معيارا للحكم.
ففي السنوات التي سبقت الربيع العربي كان الهجوم شديدا عليها من قبل دول ما يعرف بمحور الاعتدال، باستثناء المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة فقط (قبلها كان الهجوم قائما أيضا)، وكانت مصر في صدارة المهاجمين، بينما كانت الدول الأقل أهمية في ذلك المحور، وبعض الدول الأخرى المتحفظة على سياسة التخندق أو العازفة عنها، تراوح بين الهجوم والتحفظ بحسب التطورات كما هو حال الجزائر التي رفضت على الدوام فتح مكتب لمحطة الجزيرة.
كيف تكون قطر هي حبيبة المقاومة والممانعة، ثم تنقلب بين عشية وضحاها لتصبح عدوة ذلك المحور العتيد الذي تتآمر عليه لحساب تل أبيب وواشنطن ودول الغرب؟!
’’ في المقابل كان محور المقاومة والممانعة (أنظمة وحركات) هو الأكثر إشادة بالدور القطري، ولم يمدح الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله زعيما عربيا (دعك من مديحه التقليدي للقادة الإيرانيين لأنهم خارج السياق العربي)، لم يمدح بعد بشار الأسد (وربما حافظ الأسد قبله) كما مدح أمير دولة قطر، قبل أن ينقلب الموقف بعد الثورة السورية ليصبح الرجل هو عنوان المؤامرة على نظام المقاومة والممانعة، وليقول فيه إعلام النظام وإعلام الحزب ما لم يقله مالك في الخمر، في وقت لا تزال فيه المشاريع التي نفذتها قطر لحساب الحزب في لبنان شاهدة على التاريخ غير البعيد، أعني ما بعد حرب تموز 2006. ولا ننسى هنا علاقة القذافي بالأمير، تلك التي كانت أكثر من متميزة، وكان عنوان التحالف في بعض المراحل هو الاتفاق على مناكفة السعودية، ثم انقلب الموقف بعد انتفاضة الشعب الليبي ووقوف قطر إلى جانبه، لتصبح الأخيرة هي عدوة القذافي الأولى بعد سنوات طويلة من الحب والوئام.
كيف يتفق والحالة هذه أن تكون قطر هي حبيبة المقاومة والممانعة وأحد الركائز المهمة في محورها العتيد في مواجهة محور الاعتدال، وهي ذاتها التي تستخدم ’’جزيرتها’’ في تلك المواجهة، مع دعم دائم لكل أشكال المعارضة، ثم تنقلب بين عشية وضحاها لتصبح عدوة ذلك المحور العتيد الذي تتآمر عليه لحساب تل أبيب وواشنطن ودول الغرب؟!
بوسع من يرددون معزوفات الهجاء ووصلات ’’الردح’’ والشتائم أن يقدموا دلائل كثيرة على عمق علاقات قطر مع الولايات المتحدة ودول الغرب وحتى الكيان الصهيوني، وقد نتفهم من كانوا يفعلون ذلك طوال الوقت، بصرف النظر عن صحة بعض أدلتهم أو تهافتها من الناحية المنطقية، لكن أحدا من أولئك لن يتمكن من تقديم دليل واحد جديد لم يكن متوفرا في السابق أيام كان أميرها هو الحبيب القريب الذي شيَّد لنفسه قصرا في ضواحي دمشق وكانت له علاقاته العائلية الدافئة مع زعيم المقاومة والممانعة (بشار الأسد)، وأيام كان ذات الأمير يتلقى عبارات المديح والإطراء من زعيم حزب الله وصولا إلى وصفه بأمير المقاومة!!
القصة كلها تتلخص بكل بساطة في الربيع العربي الذي لم يكن مؤامرة طبخت في واشنطن وتل أبيب، لا في محطته التونسية ولا المصرية ولا الليبية ولا اليمنية، اللهم إلا إذا كان بوسع الشتامين إياهم أن يقنعونا بأن الأربعة إياهم (بن علي، حسني مبارك، معمر القذافي، علي عبد الله صالح) كانوا يشكلون خطرا كبيرا على المصالح الأميركية الصهيونية في المنطقة.
وهو، أي الربيع العربي، لم يكن مؤامرة في محطته السورية أيضا، إذ لم يخرج الناس إلى الشوارع ويقدموا جحافل الشهداء من أجل الأموال القطرية، ولا من أجل الحصول على لقطات تصور شهداءهم ومعذبيهم على شاشتها الواسعة الانتشار (الجزيرة).
هذه السطور في جوهرها دفاع عن الشعب السوري البطل أكثر من كونها دفاعا عن موقف قطر التي تملك القدرة على الدفاع عن نفسها بما تملك من وسائل قوية التأثير
من يهينون الشعب السوري بهذه الطريقة الفجة، بل الحقيرة بتعبير أدق، إنما يهينون أنفسهم قبل أن يستخفوا بعقول الناس، والنتيجة أن قراءة المواقف القطرية بهذه الطريقة هي السخف بعينه، بصرف النظر عن مستوى الاتفاق أو الاختلاف معها.
لم يسبق لنا أن دافعنا عن نظام عربي قط طوال أكثر من ربع قرن من الكتابة وما يقرب من تسعة آلاف مقال، بما في ذلك الأنظمة المحسوبة على الإسلاميين (موقفنا من عبث النظام السوداني شاهد على ذلك)، وهذه السطور في جوهرها دفاع عن الشعب السوري البطل أكثر من كونها دفاعا عن موقف قطر التي تملك القدرة على الدفاع عن نفسها بما تملك من وسائل قوية التأثير، مع أنها قليلا ما تفعل ذلك، ربما لأن مواقف الشتامين لا تبدو في حاجة إلى من يكشف تناقضاتها المفضوحة على رؤوس الأشهاد، وربما لأن سياستها الخارجية تقوم على هذه المعادلة التي تراوح في بناء العلاقات والتحالفات على نحو يخدم رؤيتها ومصالحها واقتناعات حكامها في الآن نفسه.
المصدر:الجزيرة
لا شيء يثبت سخف التحليلات والمواقف مثل إحالة الأحداث الكبرى إلى عوامل بسيطة من قبيل اعتبار هزيمة دولة كبرى نتاج خيانة ضابط أو مسؤول، أو النظر إلى ثورة شعبية بوصفها مؤامرة دبرت بليل بين مجموعة من الثوار وبين جهة ما وفرت لهم مصدر الدعم والتمويل.
لا أحد ينكر وجود المؤامرات في التاريخ الإنساني، لكن نجاح تلك المؤامرات يتطلب شروطا داخلية وخارجية مواتية
في التاريخ البشري، بخاصة العربي والإسلامي الكثير من هذه المقاربات القاصرة، ولنا في قصة عبد الله بن سبأ مثال، ذلك الذي اعتبره البعض سببا للفتنة التي نشبت بين المسلمين عشية الخلاف بين الإمام علي وبين معاوية بن أبي سفيان بعد وفاة الخليفة الثالث عثمان.
لا أحد ينكر وجود المؤامرات في التاريخ الإنساني، لكن نجاح تلك المؤامرات يتطلب شروطا داخلية وخارجية مواتية، بل إن شهية التآمر لا تنفتح إلا في ظل إحساس المتآمر بضعف العدو، ومن ثم إمكانية التسلل بين صفوفه.
منذ اندلاع الربيع العربي قبل ما يقرب من عام ونصف، بل قبل ذلك بسنوات طويلة، لم تتعرض دولة عربية للهجاء كما تعرضت دولة قطر، تلك الدولة الصغيرة في الخليج العربي.
وما يثير شهية المراقب لمزيد من العمق في تحليل الموقف هو أن الهجوم على تلك الدولة (قطر) لم يكن حكرا على نظام بعينه، بل شمل معظم الأنظمة (إن لم يكن جميعها دون استثناء)، حتى لو أخذنا الألفية الجديدة وحدها معيارا للحكم.
ففي السنوات التي سبقت الربيع العربي كان الهجوم شديدا عليها من قبل دول ما يعرف بمحور الاعتدال، باستثناء المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة فقط (قبلها كان الهجوم قائما أيضا)، وكانت مصر في صدارة المهاجمين، بينما كانت الدول الأقل أهمية في ذلك المحور، وبعض الدول الأخرى المتحفظة على سياسة التخندق أو العازفة عنها، تراوح بين الهجوم والتحفظ بحسب التطورات كما هو حال الجزائر التي رفضت على الدوام فتح مكتب لمحطة الجزيرة.
كيف تكون قطر هي حبيبة المقاومة والممانعة، ثم تنقلب بين عشية وضحاها لتصبح عدوة ذلك المحور العتيد الذي تتآمر عليه لحساب تل أبيب وواشنطن ودول الغرب؟!
’’ في المقابل كان محور المقاومة والممانعة (أنظمة وحركات) هو الأكثر إشادة بالدور القطري، ولم يمدح الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله زعيما عربيا (دعك من مديحه التقليدي للقادة الإيرانيين لأنهم خارج السياق العربي)، لم يمدح بعد بشار الأسد (وربما حافظ الأسد قبله) كما مدح أمير دولة قطر، قبل أن ينقلب الموقف بعد الثورة السورية ليصبح الرجل هو عنوان المؤامرة على نظام المقاومة والممانعة، وليقول فيه إعلام النظام وإعلام الحزب ما لم يقله مالك في الخمر، في وقت لا تزال فيه المشاريع التي نفذتها قطر لحساب الحزب في لبنان شاهدة على التاريخ غير البعيد، أعني ما بعد حرب تموز 2006. ولا ننسى هنا علاقة القذافي بالأمير، تلك التي كانت أكثر من متميزة، وكان عنوان التحالف في بعض المراحل هو الاتفاق على مناكفة السعودية، ثم انقلب الموقف بعد انتفاضة الشعب الليبي ووقوف قطر إلى جانبه، لتصبح الأخيرة هي عدوة القذافي الأولى بعد سنوات طويلة من الحب والوئام.
كيف يتفق والحالة هذه أن تكون قطر هي حبيبة المقاومة والممانعة وأحد الركائز المهمة في محورها العتيد في مواجهة محور الاعتدال، وهي ذاتها التي تستخدم ’’جزيرتها’’ في تلك المواجهة، مع دعم دائم لكل أشكال المعارضة، ثم تنقلب بين عشية وضحاها لتصبح عدوة ذلك المحور العتيد الذي تتآمر عليه لحساب تل أبيب وواشنطن ودول الغرب؟!
بوسع من يرددون معزوفات الهجاء ووصلات ’’الردح’’ والشتائم أن يقدموا دلائل كثيرة على عمق علاقات قطر مع الولايات المتحدة ودول الغرب وحتى الكيان الصهيوني، وقد نتفهم من كانوا يفعلون ذلك طوال الوقت، بصرف النظر عن صحة بعض أدلتهم أو تهافتها من الناحية المنطقية، لكن أحدا من أولئك لن يتمكن من تقديم دليل واحد جديد لم يكن متوفرا في السابق أيام كان أميرها هو الحبيب القريب الذي شيَّد لنفسه قصرا في ضواحي دمشق وكانت له علاقاته العائلية الدافئة مع زعيم المقاومة والممانعة (بشار الأسد)، وأيام كان ذات الأمير يتلقى عبارات المديح والإطراء من زعيم حزب الله وصولا إلى وصفه بأمير المقاومة!!
القصة كلها تتلخص بكل بساطة في الربيع العربي الذي لم يكن مؤامرة طبخت في واشنطن وتل أبيب، لا في محطته التونسية ولا المصرية ولا الليبية ولا اليمنية، اللهم إلا إذا كان بوسع الشتامين إياهم أن يقنعونا بأن الأربعة إياهم (بن علي، حسني مبارك، معمر القذافي، علي عبد الله صالح) كانوا يشكلون خطرا كبيرا على المصالح الأميركية الصهيونية في المنطقة.
وهو، أي الربيع العربي، لم يكن مؤامرة في محطته السورية أيضا، إذ لم يخرج الناس إلى الشوارع ويقدموا جحافل الشهداء من أجل الأموال القطرية، ولا من أجل الحصول على لقطات تصور شهداءهم ومعذبيهم على شاشتها الواسعة الانتشار (الجزيرة).
هذه السطور في جوهرها دفاع عن الشعب السوري البطل أكثر من كونها دفاعا عن موقف قطر التي تملك القدرة على الدفاع عن نفسها بما تملك من وسائل قوية التأثير
من يهينون الشعب السوري بهذه الطريقة الفجة، بل الحقيرة بتعبير أدق، إنما يهينون أنفسهم قبل أن يستخفوا بعقول الناس، والنتيجة أن قراءة المواقف القطرية بهذه الطريقة هي السخف بعينه، بصرف النظر عن مستوى الاتفاق أو الاختلاف معها.
لم يسبق لنا أن دافعنا عن نظام عربي قط طوال أكثر من ربع قرن من الكتابة وما يقرب من تسعة آلاف مقال، بما في ذلك الأنظمة المحسوبة على الإسلاميين (موقفنا من عبث النظام السوداني شاهد على ذلك)، وهذه السطور في جوهرها دفاع عن الشعب السوري البطل أكثر من كونها دفاعا عن موقف قطر التي تملك القدرة على الدفاع عن نفسها بما تملك من وسائل قوية التأثير، مع أنها قليلا ما تفعل ذلك، ربما لأن مواقف الشتامين لا تبدو في حاجة إلى من يكشف تناقضاتها المفضوحة على رؤوس الأشهاد، وربما لأن سياستها الخارجية تقوم على هذه المعادلة التي تراوح في بناء العلاقات والتحالفات على نحو يخدم رؤيتها ومصالحها واقتناعات حكامها في الآن نفسه.
المصدر:الجزيرة