بقلم: ياسر الزعاترة
في اليمن كان المشهد أول أمس الجمعة المشهد مهيبا وغريبا في آن، ففي حين تجمع مئات الآلاف في إحدى ساحات صنعاء دفاعا عن ثورتهم، وتأكيدا لاستمرارها وصولا إلى تحقيق أهدافها، كان بضع عشرات من الآلاف يتجمعون في ساحة أخرى مطالبين بإسقاط الحكومة.وفي حين كان التجمع الأول هو ذاته الذي سبق أن التأم خلال شهور طويلة شهدت واحدة من أروع الثورات السلمية التي عرفها العالم؛ في بلد يعج بالسلاح، كان التجمع الثاني هو حصيلة تحالف بين الحوثيين المدعومين من إيران، وبين أنصار المخلوع علي عبدالله صالح، المدعوم (وهنا المفارقة) من قوىً عربية تشتبك مع إيران في جبهات أخرى، وتعلن أنها هي من يتصدى لمشروع التمدد الإيراني في المنطقة. وأضيف إليهم قلة من الناصريين والقوميين الذين يبدو أن عقدة الإسلاميين قد تفاقمت عندهم في كل مكان، بينما تجاهلوا شعارات الدول الرجعية التي كانوا يمارسون بحقها الهجاء.الأكثر إثارة في المشهد هو أن أنصار المخلوع الذين يطالبون بإسقاط الحكومة لم يتذكروا أبدا (عن قصد بطبيعة الحال)، أن الرئيس الحالي كان عضوا في حزبه، وأن نصف وزراء الحكومة هم من أنصاره أيضا، بينما لا تزال مواقع الدولة الهامة من محافظين وأمناء عامين وسفراء وسواها من مواقع الدولة العميقة بيد نفس الفئة التي تتمدد في شرايين الدولة كالسرطان على نحو ليس من السهل اقتلاعه.وفي حين قبل الثوار الحقيقيون بالتدرج في تحقيق مطالب الثورة، وقبلوا بالمبادرة الخليجية؛ لا يبدو أن الطرف الآخر يريد لها أن تتواصل خشية أن تأتي على مكتسباته، ولو في المدى المتوسط، وهو لذلك لا يسعى عمليا إلى إسقاط حكومة له اليد الطولى فيها، بقدر ما يسعى إلى إسقاط الثورة برمتها أو الانقلاب عليها وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء مدعوما من بعض قوى الجوار التي لم تغير أولويتها أبدا منذ اندلاع الربيع العربي، والتي تمثلت في مواجهة الثورات وفكرها، ومواجهة قوى الإسلام السياسي (السنّي تحديدا)، فيما تأتي مواجهة إيران كأولوية ثانية يمكن تأجيلها في بعض الأحيان، بل يمكن التحالف معها ضمنيا في أحيان أخرى، كما يحدث في سياق من الدعم غير المباشر للحوثيين الذين تقدموا عسكريا في حربهم مع القبائل، بخاصة “حاشد”، ويريدون أن يترجموا ذلك التقدم العسكري مكاسب سياسية على الأرض، وهو ما دفعهم إلى رفض مشروع الأقاليم الذي أقره مؤتمر الحوار.ثمة بُعد آخر يحضر في الحالة اليمنية، يتمثل في أن هناك قوىً لا تريد لهذا البلد أن يتماسك؛ لأن تماسكه يعني قوة كبيرة في الخليج يمكن أن يكون لها ثقلها في تحديد مساراته السياسية المستقبلية، وهو يملك من الإمكانات البشرية، وحتى المادية ما يتيح له ذلك إذا تخلص من الفساد والاستبداد، بدليل الاكتشافات الجديدة (بعضها قديم ولم يستخرج) من النفط والغاز التي ستحسِّن وضعه الاقتصادي، ولو بالتدريج.في الجانب الآخر، وفي الجنوب تحديدا ثمة مطالب انفصالية مفهومة، لكن أصحابها يتجاهلون أنها جاءت بسبب مظالم النظام المخلوع التي أصابت الجميع، فيما ينبغي أن يُعطى مسار الثورة الجديدة (الرئيس الجنوبي) فرصة لتصحيح الموقف، ومن ثم الإبقاء على مكسب الوحدة.ربما كان من الصعب إقناع البعض بهذا المطلب، إذ أن الحشد الغرائزي لا يقبل غير لغة الانفصال، لكن ذلك لا يبدو مشكلة بالنسبة لإيران التي تدعم تلك المطالب، وليست لديها مشكلة في أن يحمل الجنوبيون السلاح ضد الدولة، ولا يبدو أنه يمثل مشكلة أيضا بالنسبة للطرف العربي الآخر، حتى لو كان الانفصال سيعني موقعا جديدا لإيران على خريطة الوضع العربي يزيد في غطرستها ورفضها دفع مستحقات حسن الجوار، بدل هذا الصراع المذهبي الدامي في المنطقة، والذي لا يفيد أحدا غير الصهاينة.مشهد عبثي بامتياز، إذْ يتحالف الأضداد ضد دولة وشعب يبحث عن أفق جديد ومستقبل أفضل؛ بعيدا عن دولة الفساد والاستبداد، إلى جانب التبعية، والتي حكمته عقودا فأسقطته في الحضيض، وجعلت أبناء شعبه يبحثون عن مصادر الرزق في دول أخرى، بدل أن يسهموا في بناء بلدهم الذي يمكن بشيء من الجد والاجتهاد أن يخطو خطوات إلى الأمام، ويكون له مكانه تحت الشمس، ويوفر في ذات الوقت العيش الكريم لأبنائه.
موقع*الصحوة نت*
في اليمن كان المشهد أول أمس الجمعة المشهد مهيبا وغريبا في آن، ففي حين تجمع مئات الآلاف في إحدى ساحات صنعاء دفاعا عن ثورتهم، وتأكيدا لاستمرارها وصولا إلى تحقيق أهدافها، كان بضع عشرات من الآلاف يتجمعون في ساحة أخرى مطالبين بإسقاط الحكومة.وفي حين كان التجمع الأول هو ذاته الذي سبق أن التأم خلال شهور طويلة شهدت واحدة من أروع الثورات السلمية التي عرفها العالم؛ في بلد يعج بالسلاح، كان التجمع الثاني هو حصيلة تحالف بين الحوثيين المدعومين من إيران، وبين أنصار المخلوع علي عبدالله صالح، المدعوم (وهنا المفارقة) من قوىً عربية تشتبك مع إيران في جبهات أخرى، وتعلن أنها هي من يتصدى لمشروع التمدد الإيراني في المنطقة. وأضيف إليهم قلة من الناصريين والقوميين الذين يبدو أن عقدة الإسلاميين قد تفاقمت عندهم في كل مكان، بينما تجاهلوا شعارات الدول الرجعية التي كانوا يمارسون بحقها الهجاء.الأكثر إثارة في المشهد هو أن أنصار المخلوع الذين يطالبون بإسقاط الحكومة لم يتذكروا أبدا (عن قصد بطبيعة الحال)، أن الرئيس الحالي كان عضوا في حزبه، وأن نصف وزراء الحكومة هم من أنصاره أيضا، بينما لا تزال مواقع الدولة الهامة من محافظين وأمناء عامين وسفراء وسواها من مواقع الدولة العميقة بيد نفس الفئة التي تتمدد في شرايين الدولة كالسرطان على نحو ليس من السهل اقتلاعه.وفي حين قبل الثوار الحقيقيون بالتدرج في تحقيق مطالب الثورة، وقبلوا بالمبادرة الخليجية؛ لا يبدو أن الطرف الآخر يريد لها أن تتواصل خشية أن تأتي على مكتسباته، ولو في المدى المتوسط، وهو لذلك لا يسعى عمليا إلى إسقاط حكومة له اليد الطولى فيها، بقدر ما يسعى إلى إسقاط الثورة برمتها أو الانقلاب عليها وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء مدعوما من بعض قوى الجوار التي لم تغير أولويتها أبدا منذ اندلاع الربيع العربي، والتي تمثلت في مواجهة الثورات وفكرها، ومواجهة قوى الإسلام السياسي (السنّي تحديدا)، فيما تأتي مواجهة إيران كأولوية ثانية يمكن تأجيلها في بعض الأحيان، بل يمكن التحالف معها ضمنيا في أحيان أخرى، كما يحدث في سياق من الدعم غير المباشر للحوثيين الذين تقدموا عسكريا في حربهم مع القبائل، بخاصة “حاشد”، ويريدون أن يترجموا ذلك التقدم العسكري مكاسب سياسية على الأرض، وهو ما دفعهم إلى رفض مشروع الأقاليم الذي أقره مؤتمر الحوار.ثمة بُعد آخر يحضر في الحالة اليمنية، يتمثل في أن هناك قوىً لا تريد لهذا البلد أن يتماسك؛ لأن تماسكه يعني قوة كبيرة في الخليج يمكن أن يكون لها ثقلها في تحديد مساراته السياسية المستقبلية، وهو يملك من الإمكانات البشرية، وحتى المادية ما يتيح له ذلك إذا تخلص من الفساد والاستبداد، بدليل الاكتشافات الجديدة (بعضها قديم ولم يستخرج) من النفط والغاز التي ستحسِّن وضعه الاقتصادي، ولو بالتدريج.في الجانب الآخر، وفي الجنوب تحديدا ثمة مطالب انفصالية مفهومة، لكن أصحابها يتجاهلون أنها جاءت بسبب مظالم النظام المخلوع التي أصابت الجميع، فيما ينبغي أن يُعطى مسار الثورة الجديدة (الرئيس الجنوبي) فرصة لتصحيح الموقف، ومن ثم الإبقاء على مكسب الوحدة.ربما كان من الصعب إقناع البعض بهذا المطلب، إذ أن الحشد الغرائزي لا يقبل غير لغة الانفصال، لكن ذلك لا يبدو مشكلة بالنسبة لإيران التي تدعم تلك المطالب، وليست لديها مشكلة في أن يحمل الجنوبيون السلاح ضد الدولة، ولا يبدو أنه يمثل مشكلة أيضا بالنسبة للطرف العربي الآخر، حتى لو كان الانفصال سيعني موقعا جديدا لإيران على خريطة الوضع العربي يزيد في غطرستها ورفضها دفع مستحقات حسن الجوار، بدل هذا الصراع المذهبي الدامي في المنطقة، والذي لا يفيد أحدا غير الصهاينة.مشهد عبثي بامتياز، إذْ يتحالف الأضداد ضد دولة وشعب يبحث عن أفق جديد ومستقبل أفضل؛ بعيدا عن دولة الفساد والاستبداد، إلى جانب التبعية، والتي حكمته عقودا فأسقطته في الحضيض، وجعلت أبناء شعبه يبحثون عن مصادر الرزق في دول أخرى، بدل أن يسهموا في بناء بلدهم الذي يمكن بشيء من الجد والاجتهاد أن يخطو خطوات إلى الأمام، ويكون له مكانه تحت الشمس، ويوفر في ذات الوقت العيش الكريم لأبنائه.
موقع*الصحوة نت*