د. جابر قميحة
فى المظاهرة العارمة التى قام بها الإخوان فى 28 فبراير سنة 1954 مناصرة لمحمد نجيب وبلغت المظاهرة 150 ألفًا من الإخوان يرفعون المصاحف، وفى شرفة قصر عابدين وقف عبد القادر عودة وكنت واحدًا ممن يقفون خلفه بعدة أمتار.
وخطب محمد نجيب، وكان بجانبه خالد محيى الدين -- أو شخص يشبهه.. بالحلة العسكرية (والكاب الأحمر).. قال نجيب ضمن ما قال «أما الذين أساءوا إلى فقد عفوت عنهم، وستتكون جمعية تأسيسية لوضع دستور، وإقرار نظام نيابى حر».
وبعد أن انتهى من خطبته حاول صرف المتظاهرين، فلم يستجب أحد.. فطلب من الأستاذ عودة أن يصعد إليه، فاستجاب، ووقف بجانبه على المنصة، وألقى كلمة قصيرة جاء فيها ’’إن الإخوان المسلمين يؤيدون محمد نجيب، ويقفون فى صف الحرية والديمقراطية وعودة الحكم للشعب’’.. وبعدها رفع الأستاذ عودة يده مشيرًا بها للجماهير الهادرة قائلاً: «والآن انصرفوا دون هتاف.. وبعد دقائق تعد على أصابع اليد الواحدة.. وكأن الأرض قد ابتلعت هذه الكتل البشرية.
وغادرتُ ساحة عابدين وأنا أكاد أطير من الفرح، والتقيت وأنا منصرف بالأخ ’’حسن عبد الغفور’’ الذى كان يسبقنا بعام أو عامين فى كلية دار العلوم.. وهو من أبناء ’’الدِّر’’ بأقصى جنوب مصر.. وهالنى أن أرى دموعًا فى عينيه..
ـ ما هذا يا أخ حسن.. إنه يوم الفرحة الكبرى... عاد محمد نجيب.. وأثبت الأستاذ عبد القادر أن دعوتنا: قيادة وجندية، فعلام تبكى إذن؟!!!
ـ أبكى على الأستاذ عبد القادر عودة... لقد حكم على نفسه بالإعدام.. من دقائق.
ـ يا رجل لا داعى للتشاؤم.. أنسيت هتافنا ’’الله معنا، عزت أواصرنا، طابت عناصرنا، الله ناصرنا، لا عبد يخزينا’’؟!
وصدق حدس الأخ الحبيب.. فدبرت مسرحية المنشية، ثم كانت المحاكمات الظالمة.. وأعدم الأستاذ عبد القادر وثلة من الإخوان، وتعرضت الجماعة لمحنة عاتية.
ولنعش مع عبد القادر عودة وإخوانه الشهداء: من المشنقة إلى الشهادة، ومن عالم الفناء إلى عالم الخلود:
وعبد القادر عودة هو القاضى والفقيه الدستورى (1324 هـ - 1374 هـ ، 1906-1954م).
التحق بوظائف النيابة، ثم القضاء، وكانت له مواقف غاية فى المثالية. فى عهد ’’عبد الهادى’’ قدِّمتْ إليه - وهو قاضٍ- أكثر من قضية من القضايا المترتبة على الأمر العسكرى بحل جماعة ’’الإخوان المسلمين’’، فكان يقضى فيها بالبراءة؛ استنادًا إلى أن أمر الحل غير شرعى.. فى عام 1951م استقال من منصبه الكبير فى القضاء، وانقطع للعمل فى الدعوة، مستعيضًا عن راتبه الحكومى بفتح مكتب للمحاماة، لكن لم يلبث أن بلغ أرفع مكانة بين أقرانه المحامين.. فى عهد اللواء محمد نجيب عُيّن عضوًا فى لجنة وضع الدستور المصرى، وكان له فيها مواقف لامعة فى الدفاع عن الحريات، ومحاولة إقامة الدستور على أسس واضحة من أصول الإسلام، وتعاليم القرآن. فى عام 1953م انتدبته الحكومة الليبية لوضع الدستور الليبى؛ ثقةً منها بما له من واسع المعرفة، وصدق الفهم لرسالة الإسلام.
تم أعدامه بعد اتهام جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتيال الرئيس المصرى جمال عبد الناصر فى حادثة المنشية عام 1954م، وبسببها تم إلقاء القبض على عدد كبير من الإخوان المسلمين، ومعارضى حكم جمال عبد الناصر ومحاكمتهم أمام محاكمة عسكرية استثنائية، بقيادة قائد الجناح المجنون جمال سالم، وعضوية أنور السادات وحسين الشافعى.. وأصدرت أحكامًا بإعدامه مع عدد آخر من قيادات الإخوان المسلمين وهم الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب المحامى وهنداوى دوير المحامى ومحمود عبد اللطيف.. وتم إعدامهم فى 7 ديسمبر 1954. هذا بخلاف من قتلوا جراء التعذيب خلال الفترة من 26 أكتوبر 1954 حتى عام 1965م. وتلا ذلك محاكمة عدد آخر من زعماء الإخوان المسلمين فى عام 1966م، وعلى رأسهم سيد قطب حيث قضت المحكمة العسكرية بقيادة الفريق الدجوى بإعدامه مع كل من يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل.
وفى يوم الخميس 9 ديسمبر عام 1954م كان موعد تنفيذ حكم الإعدام على عبد القادر عودة وخمسة من إخوانه.. وتقدم الشهيد ’’عودة’’ إلى منصة الإعدام وهو يقول: ’’ماذا يهمنى أين أموت؛ أكان ذلك على فراش، أو فى ساحة القتال.. أسيرًا، أو حرًّا.. إننى ذاهب إلى لقاء الله’’.. ثم توجه إلى الحاضرين وقال لهم: ’’أشكر الله الذى منحنى الشهادة.. إن دمى سيكون لعنةً على رجال الثورة’’.
[email protected]
*المصريون
فى المظاهرة العارمة التى قام بها الإخوان فى 28 فبراير سنة 1954 مناصرة لمحمد نجيب وبلغت المظاهرة 150 ألفًا من الإخوان يرفعون المصاحف، وفى شرفة قصر عابدين وقف عبد القادر عودة وكنت واحدًا ممن يقفون خلفه بعدة أمتار.
وخطب محمد نجيب، وكان بجانبه خالد محيى الدين -- أو شخص يشبهه.. بالحلة العسكرية (والكاب الأحمر).. قال نجيب ضمن ما قال «أما الذين أساءوا إلى فقد عفوت عنهم، وستتكون جمعية تأسيسية لوضع دستور، وإقرار نظام نيابى حر».
وبعد أن انتهى من خطبته حاول صرف المتظاهرين، فلم يستجب أحد.. فطلب من الأستاذ عودة أن يصعد إليه، فاستجاب، ووقف بجانبه على المنصة، وألقى كلمة قصيرة جاء فيها ’’إن الإخوان المسلمين يؤيدون محمد نجيب، ويقفون فى صف الحرية والديمقراطية وعودة الحكم للشعب’’.. وبعدها رفع الأستاذ عودة يده مشيرًا بها للجماهير الهادرة قائلاً: «والآن انصرفوا دون هتاف.. وبعد دقائق تعد على أصابع اليد الواحدة.. وكأن الأرض قد ابتلعت هذه الكتل البشرية.
وغادرتُ ساحة عابدين وأنا أكاد أطير من الفرح، والتقيت وأنا منصرف بالأخ ’’حسن عبد الغفور’’ الذى كان يسبقنا بعام أو عامين فى كلية دار العلوم.. وهو من أبناء ’’الدِّر’’ بأقصى جنوب مصر.. وهالنى أن أرى دموعًا فى عينيه..
ـ ما هذا يا أخ حسن.. إنه يوم الفرحة الكبرى... عاد محمد نجيب.. وأثبت الأستاذ عبد القادر أن دعوتنا: قيادة وجندية، فعلام تبكى إذن؟!!!
ـ أبكى على الأستاذ عبد القادر عودة... لقد حكم على نفسه بالإعدام.. من دقائق.
ـ يا رجل لا داعى للتشاؤم.. أنسيت هتافنا ’’الله معنا، عزت أواصرنا، طابت عناصرنا، الله ناصرنا، لا عبد يخزينا’’؟!
وصدق حدس الأخ الحبيب.. فدبرت مسرحية المنشية، ثم كانت المحاكمات الظالمة.. وأعدم الأستاذ عبد القادر وثلة من الإخوان، وتعرضت الجماعة لمحنة عاتية.
ولنعش مع عبد القادر عودة وإخوانه الشهداء: من المشنقة إلى الشهادة، ومن عالم الفناء إلى عالم الخلود:
وعبد القادر عودة هو القاضى والفقيه الدستورى (1324 هـ - 1374 هـ ، 1906-1954م).
التحق بوظائف النيابة، ثم القضاء، وكانت له مواقف غاية فى المثالية. فى عهد ’’عبد الهادى’’ قدِّمتْ إليه - وهو قاضٍ- أكثر من قضية من القضايا المترتبة على الأمر العسكرى بحل جماعة ’’الإخوان المسلمين’’، فكان يقضى فيها بالبراءة؛ استنادًا إلى أن أمر الحل غير شرعى.. فى عام 1951م استقال من منصبه الكبير فى القضاء، وانقطع للعمل فى الدعوة، مستعيضًا عن راتبه الحكومى بفتح مكتب للمحاماة، لكن لم يلبث أن بلغ أرفع مكانة بين أقرانه المحامين.. فى عهد اللواء محمد نجيب عُيّن عضوًا فى لجنة وضع الدستور المصرى، وكان له فيها مواقف لامعة فى الدفاع عن الحريات، ومحاولة إقامة الدستور على أسس واضحة من أصول الإسلام، وتعاليم القرآن. فى عام 1953م انتدبته الحكومة الليبية لوضع الدستور الليبى؛ ثقةً منها بما له من واسع المعرفة، وصدق الفهم لرسالة الإسلام.
تم أعدامه بعد اتهام جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتيال الرئيس المصرى جمال عبد الناصر فى حادثة المنشية عام 1954م، وبسببها تم إلقاء القبض على عدد كبير من الإخوان المسلمين، ومعارضى حكم جمال عبد الناصر ومحاكمتهم أمام محاكمة عسكرية استثنائية، بقيادة قائد الجناح المجنون جمال سالم، وعضوية أنور السادات وحسين الشافعى.. وأصدرت أحكامًا بإعدامه مع عدد آخر من قيادات الإخوان المسلمين وهم الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب المحامى وهنداوى دوير المحامى ومحمود عبد اللطيف.. وتم إعدامهم فى 7 ديسمبر 1954. هذا بخلاف من قتلوا جراء التعذيب خلال الفترة من 26 أكتوبر 1954 حتى عام 1965م. وتلا ذلك محاكمة عدد آخر من زعماء الإخوان المسلمين فى عام 1966م، وعلى رأسهم سيد قطب حيث قضت المحكمة العسكرية بقيادة الفريق الدجوى بإعدامه مع كل من يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل.
وفى يوم الخميس 9 ديسمبر عام 1954م كان موعد تنفيذ حكم الإعدام على عبد القادر عودة وخمسة من إخوانه.. وتقدم الشهيد ’’عودة’’ إلى منصة الإعدام وهو يقول: ’’ماذا يهمنى أين أموت؛ أكان ذلك على فراش، أو فى ساحة القتال.. أسيرًا، أو حرًّا.. إننى ذاهب إلى لقاء الله’’.. ثم توجه إلى الحاضرين وقال لهم: ’’أشكر الله الذى منحنى الشهادة.. إن دمى سيكون لعنةً على رجال الثورة’’.
[email protected]
*المصريون