مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
القائدُ.. أوَّلا
د. جابر قميحة | 17-02-2012 14:47

كان الإمام الشهيد حسن البنا خطيبًا مفوهًا، يشد إليه العقول والقلوب، فكان قديرًا على مراعاة مقتضى الأحوال، قديرًا على الاستشهاد بالآيات القرآنية والسنة الشريفة، فى بساطة وعفوية.

ومما يروى عنه أنه كان فى بداية الأربعينيات من القرن الماضى يخطب فى حشد حاشد بأحد أحياء القاهرة، وأثناء خطابه قاطعه واحد من الحضور وسأله: يا فضيلة المرشد، هل نبدأ الإصلاح من الحاكم أم من الشعب؟

فكان جوابه فى هيئة سؤال وجهه للسائل:

ــ أنت ساكن فين؟

ــ فى منزل فلان؟

ــ فى أى طابق؟

ــ فى الطابق الثالث.

ــ إذا أردتم أن تمسحوا سلم العمارة.. هل تبدأون المسح من أعلى إلى أسفل، أم من أسفل إلى أعلى؟

ــ طبعًا من أعلى إلى أسفل.

ــ إذا فعلتم العكس ماذا يحدث؟

ــ يحدث!!! طبعا ستكون العملية عملية توسيخ، لا عملية تنظيف.

ــ هنا تكون أنت أجبت بنفسك على نفسك... لابد من إصلاح القائد الأعلى حتى تنصلح أحوال الشعب.

*********

ومن هنا تأتى أهمية القائد والقيادة. وقد قال ’’جورج سباين’’ فى كتابه ’’تطور الفكر السياسى’’: ’’حتى تستطيع أن تعْرِف الأمة، حاول أن تعرف قائدها وملامحه السياسية والعقلية. وستجد عشرات من الأمم سقطت فى الحضيض بسبب حكامها، وبالعكس هناك من الأمم من حققت الانتصارات والنهضات والتقدم على أيدى قادتها البارعين’’.

وقريب من هذا ما كتبه العقاد فى عبقرية محمد: ’’... عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية ينبغى أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك، أو لأى أشكالها وأحجامها؛ لأننا إذا نظرنا إلى الظاهر فلا معنى إذن للمقارنة على الإطلاق، إذ من المقطوع به أن عشرة ملايين يجتمعون فى ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف، وأن حربًا تذاع بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفن والإشارة.. لكننا إذا نظرنا إلى فكرة القائد أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة فى القيادة لا نراها فى توجيه مليون.. بينهم الراجل والراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة.. وهذه الفكرة هى التى ترينا محمدا عليه السلام قائدًا حربيًا بين أهل زمانه بغير نظير فى رأيه وفى الإقناع بمشورة صحبه.. وهذه القدرة هى شهادة كبرى للرسول تأتى من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال.

فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة فاقتصر بها على الدفاع واكتفى منها بالضرورى الذى لا محيص عنه، فذلك هو الرسول الذى تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية، ولا يلجأ إلى هذه القيادة إلا حين توجبها رسالة الهداية.



ويهمنا فى هذا السياق أن نقف أمام محمد القائد فى غزوة بدر، لنرى الفروق الجوهرية بينه وبين شخصية قائد المعسكر الكافر (أبى جهل الحكم بن هشام). يقول المقريزى:’’وفى صباح الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان كانت غزوة بدر وهى الوقعة العظيمة التى فرق الله فيها بين الحق والباطل، وأعد الإسلام، ودمغ الكفر وأهله، وجمعت الآيات الكثيرة والبراهين الشهيرة بتحقيق الله ما وعدهم إحدى الطائفتين، ومجىء المطر عند الالتقاء، وكان للمسلمين نعمة وقوة، وعلى الكفار بلاء ونقمة، وإمداد الله المؤمنين بجند من السماء’’.

وعاش الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قلوب جنوده إذ سمعوه يدعو الله لهم ’’اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك. اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائِها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذى وعدتنى.. اللهم أحِنْـهم (أهلكهم) الغداة’’.

وكان متواضعًا، لا يفضل نفسه على المسلمين فى شىء. عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلى بن أبى طالب زميلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا: نحن نمشى عنك قال: ’’ما أنتما بأقوى منى وما أنا بأغنى عن الأجر منكما’’

ومضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستشير الناس، فكان مما قاله المقداد بن عمرو ’’يا رسول الله امض بأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون...’’.

وعن الأنصار قال سعد بن معاذ: ’’... إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق، فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبى الله لما أردت، فالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقى منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت...’’.

وأخذ النبى (صلى الله عليه وسلم) كذلك برأى الحباب بن المنذر الذى قال ’’انطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم... فبها قليب عذب الماء كثيره ثم نبنى عليه حوضًا فنقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونعوِّر (أى نكسو بالتراب) ما سواها من القلب، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): ’’يا حباب أشرت بالرأى’’ ونفذ ما أرى.

فنحن أمام قائد يأخذ نفسه بالعدل والشورى، ويُمَكن جنوده من إبداء ما يرون... إنها شورى حقيقية وليست شورى زائفة أو نظرية.

[email protected]
*المصريون
أضافة تعليق