د. أحمد بن صالح الزهراني
توظيف الدّاعية للخصائص البشريّة والإنسانيّة والاجتماعيّة في مهمّته له أصل أصيل في السّنةّ، لا داعي للإطالة في بيان مشروعيّته؛ ففي الجهاد -على سبيل المثال- كان يجعل لكل قبيلة مهمّة، ويكلّفهم بها موظّفًا حميّة الشخص لقبيلته أن يلحقها منه مسبّة التقصير، ولهذا قال أنس بن النضر لسعد: ’’وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف’’.
وقال للشاب الذي استأذنه في الزنا: ’’أترضاه لأمّك’’ الحديث، مستثيرًا فيه حميّته وغيرته على نسائه.
وقال كذلك: ’’أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني’’. كلّ هذا مفهوم واضح.
لكنّي هنا أزعم أنّ الأمر بولغ فيه من قبل (جَهَلة) الدّعاة حتّى أصبحت هذه النَّعرات طاغية على الحكم الشرعي، أعني أنّها أصبحت دليلاً يُستدلّ به على تحريم أو تقييد ما أباحه الله، أو تشريع ما حرّمه الله وتسويغه أو الاعتذار له.
اسمحوا لي هنا أن أتناول جانبًا مهمًّا من هذا من خلال بعض القضايا الّتي تخصّ جانب المرأة، فأنا أعلم -كما تعلمون كذلك- أنّ المرأة أصبحت محلّ نقاش - بل معارك فكريّة - بين أهل الشّريعة وأعدائها، من حيث إنّ كلاً من الفريقين يدرك أنّ كسبها لصفّه هو انتصار لمشروعه برمّته.
لكني في نفس الوقت أرى أنّ بعض أنصار الشريعة الذين فيهم كثير من الجَهَلة والعامّة وبعضهم متصدّر للدعوة قد جعل مقياس المشروع والممنوع هو عكس ما يطالب به التغريبيّون بالمطلق، ولو كان ذلك في أصله حقًّا مشروعًا أو تحتمله طبيعة المسألة في الفقه الإسلامي.
إذ ما زلت أتعجّب أن تُجعل مسألة كشف وجه المرأة عنوانًا للشرعيّين، بحيث أصبح المأخذ الوحيد في منع بعض المطالب هو كونها –فقط- تؤدي إلى كشف وجه المرأة، وأنا لا أعتقد أنّ مسألة لا يكون من نتائجها سوى كشف المرأة وجهها مسألة محظورة، ولو كنت أرجّح وجوب ستره.
وأقول كذلك: إنّ بعض الدّعاة يسوّق لرأيه بوجوب ستر المرأة لوجهها بطريقة جاهليّة؛ إذ يربط المسألة عند الناس بالغيرة على المحارم والأعراض، حتّى إنّ بعض النّاس تصل به الوقاحة إلى القدح في غيرة أو حياء أو دين من يرى أو يسمح لنسائه بكشف وجوههنّ وفق بقية شروط الحجاب الواجب.
لأنه تلقى هذه المسألة بطريقة(أفا عليك واخزياه ويا للعار.. تخلي أختك أو زوجتك تكشف وجهها.. وين تودي وجهك من الرجال).. الخ.
ولهذا تجد من طبيعة بعض الدّعاة أنّه يحمّل المرأة وحدها مسؤوليّة عفاف المجتمع، حتّى يكاد يحرّم عليها الخروج من بيتها لأيّ غرض، مع أنّ العفاف مسؤوليّة مشتركة، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث المرأة الخثعميّة لما رأى الفضل بن عباس ينظر إليها – بغضّ النّظر عن كونها كانت كاشفة لوجهها أو ساترة له – فإنّه لم يأمر المرأة بشيء، وإنّما كان توجيهه للرجل حيث صرف وجه الفضل للشقّ الآخر.
فإذا استمرّ الدّعاة في تحميل المرأة مسؤوليّة عفاف المجتمع بالكامل، حتى أصبح البعض يعارض أيّ قرار وأي نظام فيه تخفيف من بعض القيود على تصرّفات النساء، مهما كان فيه مصلحة حاجيّة أو ضروريّة لبعض صاحبات الحاجات بحجّة أنّه سيكون ذريعة من بعضهنّ للفساد أو الاعتداء عليهن، أقول: فإنّ هذا يعني منتهى الحرج والعنت، وإلاّ فأين هي مسؤوليّة المجتمع بكل فئاته؟ لماذا تحمّل المرأة وحدها هذه المسؤوليّة!
خذ كذلك مسألة العِرض، فأصبحت المرأة وحدها تتحمّل مسألة عرض الأسرة أو القبيلة، ولهذا تتعرّض للقتل أو المبالغة في العقوبة إذا زلّت.
مع أنّه ليس في النصوص الشرعيّة ما يجعل زلّة المرأة بخلاف زلّة الرّجل.
وقد بحثت في نصوص السنة عن أيّ قصة أو واقعة في عهد النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- تدلّ على أنّ أسرة ما أو قبيلة تحمّلت مسؤوليّة خطأ امرأة تنتسب إليها، وقد زنت في عهد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- امرأتان منتسبتان إلى قبيلتين، ولم أجد أيّ إشارة إلى أيّة ردّة فعل من أسرتيهما أو قبيلتيهما أو أزواجهما ألبتة، على الرغم من أنّهما ثيّبتين وقد رُجمتا، ولم يتعرض لهما أحد بضرب فضلاً عن القتل، وإحداهنّ أُعطيت مهلة عامين تقريبًا حتّى وضعت طفلها وأرضعته وفطمته، تصوّر معي: امرأة مقرّة بالزنا تعيش عامين في مجتمع مسلم، ومع هذا لم أجد ما يشير إلى مضايقات أو نبْز أو أذى، بل كان تعامل المجتمع معها إيجابيًّا للغاية، حتى إنّها وجدت من يكفل طفلها مباشرة.
وهذا يعني أنّهما عاشتا في مجتمع يحترم المسؤوليّة القانونيّة إلى أبعد حد، فلا تزر وازرة وزر أخرى، كما أنّه في دولة القانون والشريعة هناك مصدر واحد للمحاكمة والعقوبة، ولا يجوز تمكين شخص آخر باستيفاء العقوبة تحت ذريعة الغيرة والشرف، ففي الصحيح عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ’’البينة أو حدّ في ظهرك’’. فقال: يارسول الله، إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ’’البينة وإلاّ فحدّ في ظهرك’’. وجاء في حديث أبي هريرة قول سعد بن عبادة: ’’قال سعد: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم’’، قال ابن حجر: ’’وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلاً، فتحقق الأمر فقتله هل يُقتل به؟ فمنع الجمهور الإقدام وقالوا: يقتص منه إلاّ أن يأتي ببيّنة الزنا أو على المقتول بالاعتراف أو يعترف به ورثته، فلا يقتل القاتل به، بشرط أن يكون المقتول محصنًا، وقيل بل يُقتل به؛ لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن الإمام’’. انتهى، فأين هذا ممّن يحسّن ما يفعله بعض النّاس من الإجرام بحق بناتهم أو أخواتهم إذا وقع منهنّ زلّة دون الزنا، أمّا الزنا والتهمة به فحدّث ولا حرج، وعندما يحدث هذا بعيدًا عن أهل الشريعة والدعوة فلا يعدو ذلك أن يكون من جهالات المجتمع أمّا حين يكون ناتجًا أو محسّنًا من قبل الدعاة ونحوهم فهذه جاهليّة أخرى.
ثم نأتي إلى داهية دهياء، وهي مسألة أبطلها الإسلام وجعلها النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- تحت قدمه، لكنّ بعض الشرعيّين جاء اليوم ليعيدها ويرفع من شأنها فقط؛ لأنّ أبواق العلمانيّة والليبراليّة وظّفتها للطعن في القضاء الشرعي، وهي مسألة تكافؤ النسب؛ فإنّ من العجب أن يحاول البعض تلمّس المشروعيّة لأحكام قضائيّة مبنيّة على مسألة تكافؤ النسب، خاصة إذا كان ذلك الحكم متدخلاً بين زوجين رضي كلّ منهما الآخر، فبدلاً من أن نقرّ بأنّ الإصرار على اعتبار تكافؤ النسب شرطًا لصحة عقد الزوجيّة ليس من الشّرع، ذهب البعض يفتّش عن أقوال فقهيّة يرفع بها من خسيسة هذا القول الجاهلي، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في وقائع متعدّدة بيّن بالقول والفعل أنّه شرط وضيع موضوع قتله الشّرع، فلا يجوز محاولة نفخ الروح فيه، قال تعالى: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال صلى الله عليه وسلّم: (لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى). قال ابن القيم رحمه الله: ’’فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه و سلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً فلا تزوّج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرًا وراء ذلك فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسبًا ولا صناعة ولا غنى ولا حرية، فجوّز للعبد القن نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفًا مسلمًا، وجوّز لغير القرشيّين نكاح القرشيّات، ولغير الهاشميّين نكاح الهاشميّات، وللفقراء نكاح الموسرات’’.
مسألة الغيرة على النساء وقع فيها مبالغات، وتمّ القبول بنعرات قبليّة جاهليّة ما دامت تسند بعض الأحكام الشرعيّة وهذا خطأ، وكمثال لهذا سمعنا من يطعن في شرف ودين من يجوّز قيادة السيارة بالنسبة للنساء، ودخول المرأة مجامع التجارة بائعة ومشترية، ودخولها محافل الرجال متحدّثة ومطالبة، ونحو ذلك، وهذا من صفاقة القائل، فإنّنا نناقش هذه المسألة من جهة المصالح والمفاسد المترتبة عليها، لكن لا علاقة لهذا بدين المرأة وذويها وشرفهم فضلاً عن المتكلم فيها من أهل العلم أو المثقفين.
وأصبحنا نسمع بعض الشباب المنفلت الذي لعله لا يصلي بل لعلّه من المتسكّعين في الأسواق والمحافل الساقطة يتوعّد ويرفع عقيرته بمنع المرأة التي هي أخته أو أمه من كذا وكذا لا دينًا، وإنّما فقط نعرة وحميّة جاهليّة.
وهذا النوع من الحميّة لا يقرّه الشّرع، ولا يجوز الاستعانة به في الدّعوة إلى الله وتعميق تمسّك النّاس بالحكم الشرعي؛ لأنّ له من اسمه نصيب، فهو جهل وتعصّب مقيت، والإسلام جاء بالعلم والنور والهداية والسماحة.
ومن عجيب تصرّفات بعض الأقوام ممن اختلطت فيهم مفاهيم الشرع والقبيلة أنّهم يتصرفون في مجتمعهم القبليّ أو الأسريّ بأمور ينكرون ما هو أخفّ منها في محاضراتهم، أو يمارسون ما هو من جنس ما ينكرونه، فقط لأنّ هذا مما تأباه النعرة وهذا مما تقبله، وبهذا أصبحت الجاهليّة مصدرًا للتشريع عند هؤلاء، يوجبون بمقتضاها، ويحرّمون بمقتضاها، وهذا ما أبطلته الشريعة، وجاء الإسلام ليهدمه، ويقيم بدلاً عنه دين السّماحة والعدل الذي عامل المرأة والرجل على قدم العدل والمساواة من حيث تحمّل المسؤوليّة عن أفعال الإنسان من خير وشرّ، والله أعلم وأحكم.
*الإسلام اليوم
توظيف الدّاعية للخصائص البشريّة والإنسانيّة والاجتماعيّة في مهمّته له أصل أصيل في السّنةّ، لا داعي للإطالة في بيان مشروعيّته؛ ففي الجهاد -على سبيل المثال- كان يجعل لكل قبيلة مهمّة، ويكلّفهم بها موظّفًا حميّة الشخص لقبيلته أن يلحقها منه مسبّة التقصير، ولهذا قال أنس بن النضر لسعد: ’’وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف’’.
وقال للشاب الذي استأذنه في الزنا: ’’أترضاه لأمّك’’ الحديث، مستثيرًا فيه حميّته وغيرته على نسائه.
وقال كذلك: ’’أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني’’. كلّ هذا مفهوم واضح.
لكنّي هنا أزعم أنّ الأمر بولغ فيه من قبل (جَهَلة) الدّعاة حتّى أصبحت هذه النَّعرات طاغية على الحكم الشرعي، أعني أنّها أصبحت دليلاً يُستدلّ به على تحريم أو تقييد ما أباحه الله، أو تشريع ما حرّمه الله وتسويغه أو الاعتذار له.
اسمحوا لي هنا أن أتناول جانبًا مهمًّا من هذا من خلال بعض القضايا الّتي تخصّ جانب المرأة، فأنا أعلم -كما تعلمون كذلك- أنّ المرأة أصبحت محلّ نقاش - بل معارك فكريّة - بين أهل الشّريعة وأعدائها، من حيث إنّ كلاً من الفريقين يدرك أنّ كسبها لصفّه هو انتصار لمشروعه برمّته.
لكني في نفس الوقت أرى أنّ بعض أنصار الشريعة الذين فيهم كثير من الجَهَلة والعامّة وبعضهم متصدّر للدعوة قد جعل مقياس المشروع والممنوع هو عكس ما يطالب به التغريبيّون بالمطلق، ولو كان ذلك في أصله حقًّا مشروعًا أو تحتمله طبيعة المسألة في الفقه الإسلامي.
إذ ما زلت أتعجّب أن تُجعل مسألة كشف وجه المرأة عنوانًا للشرعيّين، بحيث أصبح المأخذ الوحيد في منع بعض المطالب هو كونها –فقط- تؤدي إلى كشف وجه المرأة، وأنا لا أعتقد أنّ مسألة لا يكون من نتائجها سوى كشف المرأة وجهها مسألة محظورة، ولو كنت أرجّح وجوب ستره.
وأقول كذلك: إنّ بعض الدّعاة يسوّق لرأيه بوجوب ستر المرأة لوجهها بطريقة جاهليّة؛ إذ يربط المسألة عند الناس بالغيرة على المحارم والأعراض، حتّى إنّ بعض النّاس تصل به الوقاحة إلى القدح في غيرة أو حياء أو دين من يرى أو يسمح لنسائه بكشف وجوههنّ وفق بقية شروط الحجاب الواجب.
لأنه تلقى هذه المسألة بطريقة(أفا عليك واخزياه ويا للعار.. تخلي أختك أو زوجتك تكشف وجهها.. وين تودي وجهك من الرجال).. الخ.
ولهذا تجد من طبيعة بعض الدّعاة أنّه يحمّل المرأة وحدها مسؤوليّة عفاف المجتمع، حتّى يكاد يحرّم عليها الخروج من بيتها لأيّ غرض، مع أنّ العفاف مسؤوليّة مشتركة، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث المرأة الخثعميّة لما رأى الفضل بن عباس ينظر إليها – بغضّ النّظر عن كونها كانت كاشفة لوجهها أو ساترة له – فإنّه لم يأمر المرأة بشيء، وإنّما كان توجيهه للرجل حيث صرف وجه الفضل للشقّ الآخر.
فإذا استمرّ الدّعاة في تحميل المرأة مسؤوليّة عفاف المجتمع بالكامل، حتى أصبح البعض يعارض أيّ قرار وأي نظام فيه تخفيف من بعض القيود على تصرّفات النساء، مهما كان فيه مصلحة حاجيّة أو ضروريّة لبعض صاحبات الحاجات بحجّة أنّه سيكون ذريعة من بعضهنّ للفساد أو الاعتداء عليهن، أقول: فإنّ هذا يعني منتهى الحرج والعنت، وإلاّ فأين هي مسؤوليّة المجتمع بكل فئاته؟ لماذا تحمّل المرأة وحدها هذه المسؤوليّة!
خذ كذلك مسألة العِرض، فأصبحت المرأة وحدها تتحمّل مسألة عرض الأسرة أو القبيلة، ولهذا تتعرّض للقتل أو المبالغة في العقوبة إذا زلّت.
مع أنّه ليس في النصوص الشرعيّة ما يجعل زلّة المرأة بخلاف زلّة الرّجل.
وقد بحثت في نصوص السنة عن أيّ قصة أو واقعة في عهد النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- تدلّ على أنّ أسرة ما أو قبيلة تحمّلت مسؤوليّة خطأ امرأة تنتسب إليها، وقد زنت في عهد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- امرأتان منتسبتان إلى قبيلتين، ولم أجد أيّ إشارة إلى أيّة ردّة فعل من أسرتيهما أو قبيلتيهما أو أزواجهما ألبتة، على الرغم من أنّهما ثيّبتين وقد رُجمتا، ولم يتعرض لهما أحد بضرب فضلاً عن القتل، وإحداهنّ أُعطيت مهلة عامين تقريبًا حتّى وضعت طفلها وأرضعته وفطمته، تصوّر معي: امرأة مقرّة بالزنا تعيش عامين في مجتمع مسلم، ومع هذا لم أجد ما يشير إلى مضايقات أو نبْز أو أذى، بل كان تعامل المجتمع معها إيجابيًّا للغاية، حتى إنّها وجدت من يكفل طفلها مباشرة.
وهذا يعني أنّهما عاشتا في مجتمع يحترم المسؤوليّة القانونيّة إلى أبعد حد، فلا تزر وازرة وزر أخرى، كما أنّه في دولة القانون والشريعة هناك مصدر واحد للمحاكمة والعقوبة، ولا يجوز تمكين شخص آخر باستيفاء العقوبة تحت ذريعة الغيرة والشرف، ففي الصحيح عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ’’البينة أو حدّ في ظهرك’’. فقال: يارسول الله، إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ’’البينة وإلاّ فحدّ في ظهرك’’. وجاء في حديث أبي هريرة قول سعد بن عبادة: ’’قال سعد: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم’’، قال ابن حجر: ’’وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلاً، فتحقق الأمر فقتله هل يُقتل به؟ فمنع الجمهور الإقدام وقالوا: يقتص منه إلاّ أن يأتي ببيّنة الزنا أو على المقتول بالاعتراف أو يعترف به ورثته، فلا يقتل القاتل به، بشرط أن يكون المقتول محصنًا، وقيل بل يُقتل به؛ لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن الإمام’’. انتهى، فأين هذا ممّن يحسّن ما يفعله بعض النّاس من الإجرام بحق بناتهم أو أخواتهم إذا وقع منهنّ زلّة دون الزنا، أمّا الزنا والتهمة به فحدّث ولا حرج، وعندما يحدث هذا بعيدًا عن أهل الشريعة والدعوة فلا يعدو ذلك أن يكون من جهالات المجتمع أمّا حين يكون ناتجًا أو محسّنًا من قبل الدعاة ونحوهم فهذه جاهليّة أخرى.
ثم نأتي إلى داهية دهياء، وهي مسألة أبطلها الإسلام وجعلها النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- تحت قدمه، لكنّ بعض الشرعيّين جاء اليوم ليعيدها ويرفع من شأنها فقط؛ لأنّ أبواق العلمانيّة والليبراليّة وظّفتها للطعن في القضاء الشرعي، وهي مسألة تكافؤ النسب؛ فإنّ من العجب أن يحاول البعض تلمّس المشروعيّة لأحكام قضائيّة مبنيّة على مسألة تكافؤ النسب، خاصة إذا كان ذلك الحكم متدخلاً بين زوجين رضي كلّ منهما الآخر، فبدلاً من أن نقرّ بأنّ الإصرار على اعتبار تكافؤ النسب شرطًا لصحة عقد الزوجيّة ليس من الشّرع، ذهب البعض يفتّش عن أقوال فقهيّة يرفع بها من خسيسة هذا القول الجاهلي، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في وقائع متعدّدة بيّن بالقول والفعل أنّه شرط وضيع موضوع قتله الشّرع، فلا يجوز محاولة نفخ الروح فيه، قال تعالى: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال صلى الله عليه وسلّم: (لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى). قال ابن القيم رحمه الله: ’’فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه و سلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً فلا تزوّج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرًا وراء ذلك فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسبًا ولا صناعة ولا غنى ولا حرية، فجوّز للعبد القن نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفًا مسلمًا، وجوّز لغير القرشيّين نكاح القرشيّات، ولغير الهاشميّين نكاح الهاشميّات، وللفقراء نكاح الموسرات’’.
مسألة الغيرة على النساء وقع فيها مبالغات، وتمّ القبول بنعرات قبليّة جاهليّة ما دامت تسند بعض الأحكام الشرعيّة وهذا خطأ، وكمثال لهذا سمعنا من يطعن في شرف ودين من يجوّز قيادة السيارة بالنسبة للنساء، ودخول المرأة مجامع التجارة بائعة ومشترية، ودخولها محافل الرجال متحدّثة ومطالبة، ونحو ذلك، وهذا من صفاقة القائل، فإنّنا نناقش هذه المسألة من جهة المصالح والمفاسد المترتبة عليها، لكن لا علاقة لهذا بدين المرأة وذويها وشرفهم فضلاً عن المتكلم فيها من أهل العلم أو المثقفين.
وأصبحنا نسمع بعض الشباب المنفلت الذي لعله لا يصلي بل لعلّه من المتسكّعين في الأسواق والمحافل الساقطة يتوعّد ويرفع عقيرته بمنع المرأة التي هي أخته أو أمه من كذا وكذا لا دينًا، وإنّما فقط نعرة وحميّة جاهليّة.
وهذا النوع من الحميّة لا يقرّه الشّرع، ولا يجوز الاستعانة به في الدّعوة إلى الله وتعميق تمسّك النّاس بالحكم الشرعي؛ لأنّ له من اسمه نصيب، فهو جهل وتعصّب مقيت، والإسلام جاء بالعلم والنور والهداية والسماحة.
ومن عجيب تصرّفات بعض الأقوام ممن اختلطت فيهم مفاهيم الشرع والقبيلة أنّهم يتصرفون في مجتمعهم القبليّ أو الأسريّ بأمور ينكرون ما هو أخفّ منها في محاضراتهم، أو يمارسون ما هو من جنس ما ينكرونه، فقط لأنّ هذا مما تأباه النعرة وهذا مما تقبله، وبهذا أصبحت الجاهليّة مصدرًا للتشريع عند هؤلاء، يوجبون بمقتضاها، ويحرّمون بمقتضاها، وهذا ما أبطلته الشريعة، وجاء الإسلام ليهدمه، ويقيم بدلاً عنه دين السّماحة والعدل الذي عامل المرأة والرجل على قدم العدل والمساواة من حيث تحمّل المسؤوليّة عن أفعال الإنسان من خير وشرّ، والله أعلم وأحكم.
*الإسلام اليوم