أسماء زيادة
إن إعادة ترتيب قيم المنظومة الإسلامية ترتيباً قائماً على العودة الصافية إلى منابع مقاصد الشريعة الإسلامية، وغاياتها هو واجب الوقت، ولابد من جهد وجهاد جاد يبذل من أجل صياغة النظرية الإسلامية المعاصرة الواضحة المعالم، وبيانها بياناً قاطعاً شافياً نافياً للعذر لكل الناس بكل أطيافهم ومستوياتهم، وانتماءاتهم، وعلى طريق السعي إلى إيضاح هذه النظرية تأتي هذه الكلمات، ولنبدأ بقيمة «الحرية» ومكانها في هذه المنظومة. وحين نحاول تلمُّس حقيقة «الحرية» في المنظومة الإسلامية نجد أنفسنا أمام حقيقة واضحة تجعل الحرية في الإسلام قبل العقيدة؛ ذلك أن مقتضى التقرير الإلهي، الذى جاء إخباراً في معنى النهي، بأنه: «لا إكراه في الدين» مقتضى ذلك هو أن يكون الإنسان مالكاً للاختيار، ولا يملك الإنسان الاختيار إلا إذا كان حراً كامل الحرية، ثم ما قيمة أن يدخل المرء في الدين مكرهاً مقسوراً، ما قيمة هذا الإنسان في رصيد الدين وقوة الأمة؟ إن الإسلام في حقيقته لا يقبل أي مساس بـ«الحرية»؛ لأن أي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان، والإسلام يريد للإنسان أن يكون حراً كامل الحرية. تعبير عن الذات وتتأسس مبادئ الإسلام وتعاليمه على أن أي إضرار بالحرية يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، وأن إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بالتعبير عن فكره، والتطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين.. فلا يجوز تقييد الحرية، ناهيك عن إلغائها بحجة تصحيحها؛ فلقد روي عن ابن عباس أن الآية: «لا إكراه في الدين» نزلت في رجل من الأنصار.. كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي [: ألا أستكرههما.. فأنزل الله فيه ذلك(1)، وفي رواية أن الأنصاري قال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار، وأنا أنظر إليه؟ فنزلت فخلاهما(2). إن الإكراه على الخير، وإن كان محض الخير، أمر مرفوض ومستهجن في شريعة الإسلام.. «ولم يجر أمر الدين على الإجبار والقسر، وإنما على التمكين والاختيار(3)» هذا هو الجوهر الأصيل الذى جاءت به رسالة الإسلام.. إنه بكلمة واحدة: «الحرية». حرية ومسؤولية ونصوص القرآن الكريم تؤكد من جهة: سلطان الله المطلق، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما أراد، وأن مشيئته الأزلية نافذة، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. ومن جهة أخرى تؤكد النصوص الكريمة جانب الحرية والمسؤولية في الإنسان؛ فكل امرئ مسؤول أمام الله عز وجل عن أفكاره، وأحكامه، وأعماله، ولا تستقيم المسؤولية إلا مع حرية الاختيار، فلابد من رفض كل إجبار يفسد روح العبادة. آراء السلف وقد يقف الباحث المعاصر في إكبار أمام آراء واجتهادات السلف الصالح من العلماء الكبار بحق - من أمثال أبي حنيفة ] - في مسألة «الحرية»، وإدراكهم العميق لكونها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها؛ فمن غير الجائز عند أبي حنيفة - مثلاً - الحجر على السفيه(4)، فالحجر نوع من أنواع تقييد الحرية في التصرف. ويعلل أبو حنيفة ذلك بأن الحجر إهدار لآدمية هذا السفيه! ويقول: إن الحجر عليه «إلحاق له بالبهائم»، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذى يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه. إننا بحاجة حقيقية إلى معرفة الأسباب التي جعلت فقهاء الأمة وعلماءها لا يتنبهون إلى الحديث عن مقصد «الحرية» كأحد المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، بل كأحد أهم وأول مقاصد الشريعة الإسلامية، التي تسبق العقيدة نفسها، كما بينا. ولم يكد يفطن إليها إلا العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور أخيراً، وحاول تأصيل «الحرية» مقصداً عاماً من مقاصدها(5)، يقول الشيخ بعد أن استوفى الحديث عن مقصد المساواة: «لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإسلامية، لزم أن يتفرع عن ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة؛ وذلك هو المراد بـ«الحرية»(6)، وفي كتاب: «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام» ينبه الشيخ الطاهر ابن عاشور إلى المفهوم الواسع للحرية، ويذكر لها أنواعاً: «حرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية القول، وحرية الفعل». على أنني أعود، فأكرر أن مقصد الحرية يسبق الحديث عن مقصد المساواة، كيف لا وقد سبق العقيدة نفسها. وأغلب المفسرين قد ذهبوا إلى أن المقصود بـ«فك الرقبة» هو: «العتق» وإطلاق من يقع في أسر الرق والعبودية، والعتق عمل من الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة؛ فمن أعتق رقبة كانت له عتقاً من النار.. وهو من الأعمال المطلوبة على سبيل السرعة، وبلا روية، وهو مقتضى قول الله تعالى: {فّلا قًتّحّمّ پًعّقّبّةّ >11 الهوامش 1 - ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 273، الطبعة الأولى للمكتبة العصرية، بيروت، طبعة 1997م. 2 - البيضاوي: التفسير 1/557. 3 - الزمخشري: الكشاف 1/ 331. 4 - أصل السفه: الخفة، والسفيه هو الخفيف العقل، والسفيه الجاهل. 5 - الشيخ الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: 146. 6 - الشيخ الطاهر بن عاشور: مرجع سابق: 139.
*المجتمع
إن إعادة ترتيب قيم المنظومة الإسلامية ترتيباً قائماً على العودة الصافية إلى منابع مقاصد الشريعة الإسلامية، وغاياتها هو واجب الوقت، ولابد من جهد وجهاد جاد يبذل من أجل صياغة النظرية الإسلامية المعاصرة الواضحة المعالم، وبيانها بياناً قاطعاً شافياً نافياً للعذر لكل الناس بكل أطيافهم ومستوياتهم، وانتماءاتهم، وعلى طريق السعي إلى إيضاح هذه النظرية تأتي هذه الكلمات، ولنبدأ بقيمة «الحرية» ومكانها في هذه المنظومة. وحين نحاول تلمُّس حقيقة «الحرية» في المنظومة الإسلامية نجد أنفسنا أمام حقيقة واضحة تجعل الحرية في الإسلام قبل العقيدة؛ ذلك أن مقتضى التقرير الإلهي، الذى جاء إخباراً في معنى النهي، بأنه: «لا إكراه في الدين» مقتضى ذلك هو أن يكون الإنسان مالكاً للاختيار، ولا يملك الإنسان الاختيار إلا إذا كان حراً كامل الحرية، ثم ما قيمة أن يدخل المرء في الدين مكرهاً مقسوراً، ما قيمة هذا الإنسان في رصيد الدين وقوة الأمة؟ إن الإسلام في حقيقته لا يقبل أي مساس بـ«الحرية»؛ لأن أي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان، والإسلام يريد للإنسان أن يكون حراً كامل الحرية. تعبير عن الذات وتتأسس مبادئ الإسلام وتعاليمه على أن أي إضرار بالحرية يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، وأن إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بالتعبير عن فكره، والتطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين.. فلا يجوز تقييد الحرية، ناهيك عن إلغائها بحجة تصحيحها؛ فلقد روي عن ابن عباس أن الآية: «لا إكراه في الدين» نزلت في رجل من الأنصار.. كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي [: ألا أستكرههما.. فأنزل الله فيه ذلك(1)، وفي رواية أن الأنصاري قال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار، وأنا أنظر إليه؟ فنزلت فخلاهما(2). إن الإكراه على الخير، وإن كان محض الخير، أمر مرفوض ومستهجن في شريعة الإسلام.. «ولم يجر أمر الدين على الإجبار والقسر، وإنما على التمكين والاختيار(3)» هذا هو الجوهر الأصيل الذى جاءت به رسالة الإسلام.. إنه بكلمة واحدة: «الحرية». حرية ومسؤولية ونصوص القرآن الكريم تؤكد من جهة: سلطان الله المطلق، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما أراد، وأن مشيئته الأزلية نافذة، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. ومن جهة أخرى تؤكد النصوص الكريمة جانب الحرية والمسؤولية في الإنسان؛ فكل امرئ مسؤول أمام الله عز وجل عن أفكاره، وأحكامه، وأعماله، ولا تستقيم المسؤولية إلا مع حرية الاختيار، فلابد من رفض كل إجبار يفسد روح العبادة. آراء السلف وقد يقف الباحث المعاصر في إكبار أمام آراء واجتهادات السلف الصالح من العلماء الكبار بحق - من أمثال أبي حنيفة ] - في مسألة «الحرية»، وإدراكهم العميق لكونها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها؛ فمن غير الجائز عند أبي حنيفة - مثلاً - الحجر على السفيه(4)، فالحجر نوع من أنواع تقييد الحرية في التصرف. ويعلل أبو حنيفة ذلك بأن الحجر إهدار لآدمية هذا السفيه! ويقول: إن الحجر عليه «إلحاق له بالبهائم»، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذى يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه. إننا بحاجة حقيقية إلى معرفة الأسباب التي جعلت فقهاء الأمة وعلماءها لا يتنبهون إلى الحديث عن مقصد «الحرية» كأحد المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، بل كأحد أهم وأول مقاصد الشريعة الإسلامية، التي تسبق العقيدة نفسها، كما بينا. ولم يكد يفطن إليها إلا العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور أخيراً، وحاول تأصيل «الحرية» مقصداً عاماً من مقاصدها(5)، يقول الشيخ بعد أن استوفى الحديث عن مقصد المساواة: «لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإسلامية، لزم أن يتفرع عن ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة؛ وذلك هو المراد بـ«الحرية»(6)، وفي كتاب: «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام» ينبه الشيخ الطاهر ابن عاشور إلى المفهوم الواسع للحرية، ويذكر لها أنواعاً: «حرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية القول، وحرية الفعل». على أنني أعود، فأكرر أن مقصد الحرية يسبق الحديث عن مقصد المساواة، كيف لا وقد سبق العقيدة نفسها. وأغلب المفسرين قد ذهبوا إلى أن المقصود بـ«فك الرقبة» هو: «العتق» وإطلاق من يقع في أسر الرق والعبودية، والعتق عمل من الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة؛ فمن أعتق رقبة كانت له عتقاً من النار.. وهو من الأعمال المطلوبة على سبيل السرعة، وبلا روية، وهو مقتضى قول الله تعالى: {فّلا قًتّحّمّ پًعّقّبّةّ >11 الهوامش 1 - ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 273، الطبعة الأولى للمكتبة العصرية، بيروت، طبعة 1997م. 2 - البيضاوي: التفسير 1/557. 3 - الزمخشري: الكشاف 1/ 331. 4 - أصل السفه: الخفة، والسفيه هو الخفيف العقل، والسفيه الجاهل. 5 - الشيخ الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: 146. 6 - الشيخ الطاهر بن عاشور: مرجع سابق: 139.
*المجتمع