إبراهيم البيومي
كثيراً ما يردد خليط من الذين يصنفون أنفسهم في خانة «الليبراليين»، أو «القوميين»، أو «اليساريين»، أو «العلمانيين» العرب عموماً: أن أخوف ما يخافونه على مستقبل بلادنا العربية هو أن تقع ضحية «الاستبداد باسم الدين» - ويقصدون الإسلام تحديداً - بعد أن ينجح «الربيع العربي» في تخليص شعوبنا من «الاستبداد السياسي» الذي مارسته أنظمة الحكم على مدى أكثر من نصف قرن. ويتمادون فيطلبون «ضمانات» من الإسلاميين بأن يكونوا حَسني السير والسلوك إذا ما حملتهم إرادة الجماهير لمقاعد السلطة!! أنصار التيار الإسلامي بجماعاته وتنظيماته المختلفة يجدون أنفسهم في مرمى هذا الاتهام، وسرعان ما يبدؤون من موقع «رد الفعل» في الدفاع عن أنفسهم، ونفي هذه «التهمة»، دون أن يدركوا أن الوضع الصحيح للمسألة هو «مقلوب» تلك التهمة على طول الخط، وهو: إن أخوف ما تخافه شعوبنا العربية هو أن تقع مرة أخرى ضحية الاستبداد باسم «الحداثة السياسية» على أيدي النخب العلمانية باختلاف توجهاتها الليبرالية واليسارية والقومية. ادعاء «العصرنة» المفارقة الكبرى التي يتجاهلها أغلب العلمانيين العرب هي أن «الاستبداد» الفعلي الذي مارسته أنظمة الحكم العربية، لم يتم إلا في حالات استثنائية باسم «الإسلام»، وإنما تم، ولا يزال يتم باسم «الحداثة السياسية»، وبادعاء «العصرنة»، وعلى أيدي «نخب» فكرية وحزبية وسياسية تنتمي في أغلبها - وليست كلها - إلى تلك التيارات ذات المرجعية التغريبية «العلمانية» عموماً، وليس العكس. هذه النخب وليس غيرها، هي التي قادت شعوبنا العربية الإسلامية باسم «الحداثة السياسية»، وتسببت في هزائمها، وتخلفها، وأوصلتها إلى الحضيض على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان. سلبية الشعوب تتجاهل النخب العلمانية أنها هي التي أسهمت بالنصيب الأكبر في إبعاد أغلبية الشعب عن المشاركة في المجال العام، وفي دفعها إلى «السلبية»؛ عندما شاركت الحكام المستبدين في تفريغ كل مؤسسات «التحديث السياسي» من مضمونها: فترزية القوانين والدساتير كانوا في أغلبيتهم «علمانيين» ومن خريجي المدارس الفرنسية والأمريكية والبريطانية، ولم يكونوا من الإسلاميين أو من خريجي الأزهر الشريف أو غيره من المعاهد الإسلامية.. ولم تتحول «الصحافة» إلى أداة لنشر الأكاذيب وتمجيد الحاكم إلا على أيدي مجموعات تنتمي لنفس التوجه العلماني صدقاً أو ادعاءً، وليس على يد علماء الإسلام أو مشايخ الأزهر، أو قادة الحركات والتنظيمات الإسلامية! والبرلمانات حيثما وجدت في بلادنا العربية؛ من ذا الذي حولها إلى «مجمع لقضاء المصالح وتحصيل المنافع الخاصة على حساب المنفعة العامة»، وجعلها مأوى للخارجين على القانون من تجار المخدرات، وسراق البنوك، والهاربين من أداء الخدمة العسكرية، والمرتكبين للفواحش ما ظهر منها وما بطن؟ هم من نفس تلك الفئة، ولم يكونوا من الإسلاميين يوماً، والشيء نفسه ينطبق على «الأحزاب»، و«مؤسسات» الخدمة العامة، كلها تحولت على أيدي نفس «النخب المتعلمنة» عن أداء وظائفها الأساسية في التحديث وقيادة المجتمع نحو التقدم وتحسين نوعية الحياة للسواد الأعظم من المواطنين. أغلبية صامتة ومن هنا بالضبط بدأ انفصال وابتعاد «السواد الأعظم»، أو ما يسمى «الأغلبية الصامتة» من شعوبنا العربية الإسلامية عن «المجال العام» وعن «السياسة؛ لأنها باتت مرتعاً للخداع، والكذب، والأنانية نتيجة فشل «النخب الحداثية» في قيادتها، وأضحت هذه المؤسسات في الوعي الجمعي مرادفاً لكل ما هو «شر»، و«غير أخلاقي». مَنْ المسؤول عن ظهور «الأغلبية الصامتة»، أو المنسحبة من المجال العام، في بلداننا العربية إلا تلك النخب العلمانية المستعلية دوماً على وعي وإرادة هذه الأغلبية، والراغبة طول الوقت في ممارسة «وصاية» كاذبة على «السواد الأعظم» من أبناء أمتنا بحجة أنهم الأفهم لشروط التحديث والأعرف بمسالك التقدم واللحاق بركب المدنية؟ من الذي ألجأ هذا «السواد الأعظم» للعيش في ظل سيناريو «سياسي حداثوي» ليسوا فاعلين فيه، وإنما فقط كمادة «استعمالية» للتجريب إلى حد العبث في بعض الأحيان؟ السواد الأعظم مفهوم «السواد الأعظم» له مكانة مركزية في «الثقافة السياسية» للاجتماع السياسي الإسلامي، فهم المقابل الموضوعي/التاريخي لما نسميه اليوم باسم «الطبقة الوسطى» التي تحمل العبء الأكبر من جهود التقدم والإصلاح، إلى جانب كونها خزان القيم والأخلاقيات والمعايير الكبرى التي يحتكم إليها المجتمع. هذا «السواد الأعظم» كان باستمرار في قلب «المجال العام» عبر عديد من التشكيلات والفاعليات الاجتماعية والتعليمية والسياسية التي كفلت درجة عالية من التوازن على قاعدة «المجال المشترك» بين «المجتمع السياسي» الضيق كنخبة للحكم، والمجتمع المدني/الأهلي الواسع. هذا «السواد الأعظم» ازدراه العلمانيون بمختلف فئاتهم على مدى أكثر من قرن من الزمان، ولا يزالون في ازدرائهم له إلى اليوم.. وقد جعلوه عنواناً على العجز عن الاستجابة لنداءات «التحديث والعصرنة»، واتهموه بنقص الأهلية، وعدم القدرة على الاختيار، والقابلية للاستهواء وبيع الضمير «بزجاجة زيت طعام» أو بحفنة من النقود!! في حين أن وقائع التحولات في الاجتماع السياسي منذ فجر النهضة الحديثة لبلادنا تشير إلى أن «السواد الأعظم» لم يخرج من المجال العام، أو «من السياسة» إلا في ظل «الدولة الحديثة» ومؤسساتها بعد أن أمسك بها «المتنوّرون» من العلمانيين ودعاة التغرب، وحرفوها عن وظائفها التحديثية وفشلوا في جعلها أداة تستوعب مختلف التكوينات الاجتماعية داخلها، وتعبر عن مصالحهم وتمكنهم من الحصول عليها وفق معايير العدالة والمساواة والكفاءة لا غير. دعوات معلّقة لم يفلح «مثقفو العلمانية» في تغذية «مؤسسات الحداثة السياسية» بمضمون إيجابي ونافع على أرض الواقع، مثلما لم يفلحوا في «بناء ثقافة» عامة جديدة يقبلها «السواد الأعظم»، ومن هنا ظلت كل دعواتهم التحديثية معلقة في الهواء، يتشدقون بها في جلساتهم الخاصة، ويتفاخر بها الحكام العتاة في ممارسة الاستبداد والظلم. من المهم لشباب «الربيع العربي» في مختلف ميادين التحرير والتغيير أن يراجعوا هذا السجل «التحديثي» ويدرسوه بعناية كي يستخرجوا منه الدروس والعبر، ويتعرفوا على مكامن الضعف الحقيقية والأسباب العميقة التي أوصلتنا إلى ما صرنا إليه، حتى لا يروح السواد الأعظم من أبناء أمتنا ضحية مرة أخرى لنفس التوجهات ولنفس الأخطاء. في رأيي أن ما جرى في بلادنا خلال القرن الماضي - وخاصة في دولة ما بعد الاستعمار التقليدي - وإلى اليوم هو عبارة عن «مسيرة تسلطية»، أدارها تحالف من الحكام المستبدين والنخب المتعلمنة التي أمسكت بناصية صنع القرار في مؤسسات التعليم والثقافة والبيروقراطية العامة، والجيش في بعض البلدان - مثل الجزائر، وتونس، وتركيا، والعراق، وسورية - كان «السواد الأعظم» من أبناء شعوبنا ضحية لهذا التحالف الاستبدادي الفاشل. تلك «المسيرة التسلطية» التي عانت منها مجتمعاتنا العربية تمخضت عن خمس «قوى سلطوية» ستظل عصية على الإصلاح وعقبة أمام أي تحولات يطمح إليها ثوار «الربيع العربي»، وهذه القوى الخمس هي: سلطوية الطغمة الحاكمة، وسلطوية النخب المثقفة المتغربة، وسلطوية البيروقراطية العسكرية، وسلطوية رأس المال الطفيلي، وسلطوية المدينة على الريف. وقبل أن ننتقل - في مقال آخر - لشرح آليات عمل كل واحدة من هذه السلطويات الخمس وعلاقتها ببعضها؛ فقط نؤكد أن حاصل تفاعلاتها ومصالحها المتداخلة قد تمثل حرمان المجتمع والدولة معاً من وجود «طبقة وسطى» قوية ومنفتحة، بحسب التعبيرات المعاصرة. أو لنقُل: إن التفاعلات والمصالح بين تلك القوى الخمس قد أفضت إلى «تهميش السواد الأعظم» من أبناء المجتمع، بحسب تعبيرات الاجتماع السياسي العربي الإسلامي القديم، ولعل المقارنة بين «الطبقة الوسطى» على خلفية نظريات الاجتماع السياسي الغربي، و«السواد الأعظم» على خلفية نظريات الاجتماع السياسي الإسلامي تغري بعض الباحثين كي يتعمقوا في دراسة آليات تكوين كل من المفهومين، والقيم الحاكمة لتجلياته في الواقع الاجتماعي، وخاصة أن تحركات قوى «الربيع العربي» بدءاً بتونس ومروراً بمصر وليبيا واليمن، وليس انتهاء بسورية والأردن، تبشر بالخروج من أسر مفهوم «المركز التسلطي» في كل شيء؛ في الاستبداد وحتى في دعاوى الديمقراطية والإصلاح؛ إلى بحبوحة النسق الاجتماعي الواسع وسواده الأعظم القادم من الفيافي والأرياف ومن أقصى كل مدينة يسعى من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
*المجتمع
كثيراً ما يردد خليط من الذين يصنفون أنفسهم في خانة «الليبراليين»، أو «القوميين»، أو «اليساريين»، أو «العلمانيين» العرب عموماً: أن أخوف ما يخافونه على مستقبل بلادنا العربية هو أن تقع ضحية «الاستبداد باسم الدين» - ويقصدون الإسلام تحديداً - بعد أن ينجح «الربيع العربي» في تخليص شعوبنا من «الاستبداد السياسي» الذي مارسته أنظمة الحكم على مدى أكثر من نصف قرن. ويتمادون فيطلبون «ضمانات» من الإسلاميين بأن يكونوا حَسني السير والسلوك إذا ما حملتهم إرادة الجماهير لمقاعد السلطة!! أنصار التيار الإسلامي بجماعاته وتنظيماته المختلفة يجدون أنفسهم في مرمى هذا الاتهام، وسرعان ما يبدؤون من موقع «رد الفعل» في الدفاع عن أنفسهم، ونفي هذه «التهمة»، دون أن يدركوا أن الوضع الصحيح للمسألة هو «مقلوب» تلك التهمة على طول الخط، وهو: إن أخوف ما تخافه شعوبنا العربية هو أن تقع مرة أخرى ضحية الاستبداد باسم «الحداثة السياسية» على أيدي النخب العلمانية باختلاف توجهاتها الليبرالية واليسارية والقومية. ادعاء «العصرنة» المفارقة الكبرى التي يتجاهلها أغلب العلمانيين العرب هي أن «الاستبداد» الفعلي الذي مارسته أنظمة الحكم العربية، لم يتم إلا في حالات استثنائية باسم «الإسلام»، وإنما تم، ولا يزال يتم باسم «الحداثة السياسية»، وبادعاء «العصرنة»، وعلى أيدي «نخب» فكرية وحزبية وسياسية تنتمي في أغلبها - وليست كلها - إلى تلك التيارات ذات المرجعية التغريبية «العلمانية» عموماً، وليس العكس. هذه النخب وليس غيرها، هي التي قادت شعوبنا العربية الإسلامية باسم «الحداثة السياسية»، وتسببت في هزائمها، وتخلفها، وأوصلتها إلى الحضيض على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان. سلبية الشعوب تتجاهل النخب العلمانية أنها هي التي أسهمت بالنصيب الأكبر في إبعاد أغلبية الشعب عن المشاركة في المجال العام، وفي دفعها إلى «السلبية»؛ عندما شاركت الحكام المستبدين في تفريغ كل مؤسسات «التحديث السياسي» من مضمونها: فترزية القوانين والدساتير كانوا في أغلبيتهم «علمانيين» ومن خريجي المدارس الفرنسية والأمريكية والبريطانية، ولم يكونوا من الإسلاميين أو من خريجي الأزهر الشريف أو غيره من المعاهد الإسلامية.. ولم تتحول «الصحافة» إلى أداة لنشر الأكاذيب وتمجيد الحاكم إلا على أيدي مجموعات تنتمي لنفس التوجه العلماني صدقاً أو ادعاءً، وليس على يد علماء الإسلام أو مشايخ الأزهر، أو قادة الحركات والتنظيمات الإسلامية! والبرلمانات حيثما وجدت في بلادنا العربية؛ من ذا الذي حولها إلى «مجمع لقضاء المصالح وتحصيل المنافع الخاصة على حساب المنفعة العامة»، وجعلها مأوى للخارجين على القانون من تجار المخدرات، وسراق البنوك، والهاربين من أداء الخدمة العسكرية، والمرتكبين للفواحش ما ظهر منها وما بطن؟ هم من نفس تلك الفئة، ولم يكونوا من الإسلاميين يوماً، والشيء نفسه ينطبق على «الأحزاب»، و«مؤسسات» الخدمة العامة، كلها تحولت على أيدي نفس «النخب المتعلمنة» عن أداء وظائفها الأساسية في التحديث وقيادة المجتمع نحو التقدم وتحسين نوعية الحياة للسواد الأعظم من المواطنين. أغلبية صامتة ومن هنا بالضبط بدأ انفصال وابتعاد «السواد الأعظم»، أو ما يسمى «الأغلبية الصامتة» من شعوبنا العربية الإسلامية عن «المجال العام» وعن «السياسة؛ لأنها باتت مرتعاً للخداع، والكذب، والأنانية نتيجة فشل «النخب الحداثية» في قيادتها، وأضحت هذه المؤسسات في الوعي الجمعي مرادفاً لكل ما هو «شر»، و«غير أخلاقي». مَنْ المسؤول عن ظهور «الأغلبية الصامتة»، أو المنسحبة من المجال العام، في بلداننا العربية إلا تلك النخب العلمانية المستعلية دوماً على وعي وإرادة هذه الأغلبية، والراغبة طول الوقت في ممارسة «وصاية» كاذبة على «السواد الأعظم» من أبناء أمتنا بحجة أنهم الأفهم لشروط التحديث والأعرف بمسالك التقدم واللحاق بركب المدنية؟ من الذي ألجأ هذا «السواد الأعظم» للعيش في ظل سيناريو «سياسي حداثوي» ليسوا فاعلين فيه، وإنما فقط كمادة «استعمالية» للتجريب إلى حد العبث في بعض الأحيان؟ السواد الأعظم مفهوم «السواد الأعظم» له مكانة مركزية في «الثقافة السياسية» للاجتماع السياسي الإسلامي، فهم المقابل الموضوعي/التاريخي لما نسميه اليوم باسم «الطبقة الوسطى» التي تحمل العبء الأكبر من جهود التقدم والإصلاح، إلى جانب كونها خزان القيم والأخلاقيات والمعايير الكبرى التي يحتكم إليها المجتمع. هذا «السواد الأعظم» كان باستمرار في قلب «المجال العام» عبر عديد من التشكيلات والفاعليات الاجتماعية والتعليمية والسياسية التي كفلت درجة عالية من التوازن على قاعدة «المجال المشترك» بين «المجتمع السياسي» الضيق كنخبة للحكم، والمجتمع المدني/الأهلي الواسع. هذا «السواد الأعظم» ازدراه العلمانيون بمختلف فئاتهم على مدى أكثر من قرن من الزمان، ولا يزالون في ازدرائهم له إلى اليوم.. وقد جعلوه عنواناً على العجز عن الاستجابة لنداءات «التحديث والعصرنة»، واتهموه بنقص الأهلية، وعدم القدرة على الاختيار، والقابلية للاستهواء وبيع الضمير «بزجاجة زيت طعام» أو بحفنة من النقود!! في حين أن وقائع التحولات في الاجتماع السياسي منذ فجر النهضة الحديثة لبلادنا تشير إلى أن «السواد الأعظم» لم يخرج من المجال العام، أو «من السياسة» إلا في ظل «الدولة الحديثة» ومؤسساتها بعد أن أمسك بها «المتنوّرون» من العلمانيين ودعاة التغرب، وحرفوها عن وظائفها التحديثية وفشلوا في جعلها أداة تستوعب مختلف التكوينات الاجتماعية داخلها، وتعبر عن مصالحهم وتمكنهم من الحصول عليها وفق معايير العدالة والمساواة والكفاءة لا غير. دعوات معلّقة لم يفلح «مثقفو العلمانية» في تغذية «مؤسسات الحداثة السياسية» بمضمون إيجابي ونافع على أرض الواقع، مثلما لم يفلحوا في «بناء ثقافة» عامة جديدة يقبلها «السواد الأعظم»، ومن هنا ظلت كل دعواتهم التحديثية معلقة في الهواء، يتشدقون بها في جلساتهم الخاصة، ويتفاخر بها الحكام العتاة في ممارسة الاستبداد والظلم. من المهم لشباب «الربيع العربي» في مختلف ميادين التحرير والتغيير أن يراجعوا هذا السجل «التحديثي» ويدرسوه بعناية كي يستخرجوا منه الدروس والعبر، ويتعرفوا على مكامن الضعف الحقيقية والأسباب العميقة التي أوصلتنا إلى ما صرنا إليه، حتى لا يروح السواد الأعظم من أبناء أمتنا ضحية مرة أخرى لنفس التوجهات ولنفس الأخطاء. في رأيي أن ما جرى في بلادنا خلال القرن الماضي - وخاصة في دولة ما بعد الاستعمار التقليدي - وإلى اليوم هو عبارة عن «مسيرة تسلطية»، أدارها تحالف من الحكام المستبدين والنخب المتعلمنة التي أمسكت بناصية صنع القرار في مؤسسات التعليم والثقافة والبيروقراطية العامة، والجيش في بعض البلدان - مثل الجزائر، وتونس، وتركيا، والعراق، وسورية - كان «السواد الأعظم» من أبناء شعوبنا ضحية لهذا التحالف الاستبدادي الفاشل. تلك «المسيرة التسلطية» التي عانت منها مجتمعاتنا العربية تمخضت عن خمس «قوى سلطوية» ستظل عصية على الإصلاح وعقبة أمام أي تحولات يطمح إليها ثوار «الربيع العربي»، وهذه القوى الخمس هي: سلطوية الطغمة الحاكمة، وسلطوية النخب المثقفة المتغربة، وسلطوية البيروقراطية العسكرية، وسلطوية رأس المال الطفيلي، وسلطوية المدينة على الريف. وقبل أن ننتقل - في مقال آخر - لشرح آليات عمل كل واحدة من هذه السلطويات الخمس وعلاقتها ببعضها؛ فقط نؤكد أن حاصل تفاعلاتها ومصالحها المتداخلة قد تمثل حرمان المجتمع والدولة معاً من وجود «طبقة وسطى» قوية ومنفتحة، بحسب التعبيرات المعاصرة. أو لنقُل: إن التفاعلات والمصالح بين تلك القوى الخمس قد أفضت إلى «تهميش السواد الأعظم» من أبناء المجتمع، بحسب تعبيرات الاجتماع السياسي العربي الإسلامي القديم، ولعل المقارنة بين «الطبقة الوسطى» على خلفية نظريات الاجتماع السياسي الغربي، و«السواد الأعظم» على خلفية نظريات الاجتماع السياسي الإسلامي تغري بعض الباحثين كي يتعمقوا في دراسة آليات تكوين كل من المفهومين، والقيم الحاكمة لتجلياته في الواقع الاجتماعي، وخاصة أن تحركات قوى «الربيع العربي» بدءاً بتونس ومروراً بمصر وليبيا واليمن، وليس انتهاء بسورية والأردن، تبشر بالخروج من أسر مفهوم «المركز التسلطي» في كل شيء؛ في الاستبداد وحتى في دعاوى الديمقراطية والإصلاح؛ إلى بحبوحة النسق الاجتماعي الواسع وسواده الأعظم القادم من الفيافي والأرياف ومن أقصى كل مدينة يسعى من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
*المجتمع