مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
دعوة لبحث مستقبل الأموال العربية في أميركا
فهمي هويدي

ليس معلوما الآن مصير دعوى التعويضات عن هجمات 11 سبتمبر (ايلول)، التي رفعها بعض المحامين الاميركيين باسم 400 من أسر الضحايا، ويقال ان الرقم بصدد الوصول الى ألف أسرة، ولكن القدر المتيقن ان ثمة عريضة دعوى من 258 صفحة قدمت بالفعل الى محكمة في إحدى ضواحي واشنطن، تضمنت 15 اتهاما، وفي العريضة اسماء 80 شخصا ومؤسسة وشركة صرافة اسلامية، في المملكة العربية السعودية، اضافة الى حكومة السودان، والتهمة التي وجهت الى الجميع هي دعم حكومة طالبان والمنظمات الإرهابية التي فرخت المجموعة التي قامت بالهجوم على الأهداف الاميركية، مما أدى الى قتل أكثر من ألفي شخص، والمبلغ المطلوب لتعويض أسر الضحايا يتجاوز تريليون دولار (أكرر أكثر من ألف مليار دولار).
في التقارير التي تحدثت عن «القضية» ان المحامي الرئيسي للدعوى القضائية، اسمه رون موتلي، تحمس للمسألة، مستفيدا من تجربة ضحايا «لوكيربي»، الذين يفاوض ممثلوهم الحكومة الليبية الآن حول مبلغ التعويض الذي ستدفعه، والحديث فيه حول ملايين الدولارات، رغم انه لا مجال للقياس هنا، لان قضية لوكيربي فصل فيها القضاء بالفعل وأدان أحد المتهمين الليبيين، الأمر الذي حمل الحكومة الليبية المسؤولية عن الحادث، من الناحية القانونية على الأقل، خصوصا ان المتهم الذي أدين يعمل ضابطا في الاستخبارات الليبية، أما في الهجوم على مركز التجارة العالمي، فلم تعرض القضية على القضاء، فضلا عن ان الفاعلين أنفسهم لايزالون حتى الآن «متهمين»، ولم تتم ادانتهم من الناحية القانونية، كما انه ليس هناك حتى الآن دليل قاطع يحدد الجهات التي قدمت إليهم الدعم ومولتهم، إنما الأمر كله لايتجاوز حدود «الشبهات» التي لم تتأكد بعد.
وليس من شك في ان لجوء الحكومة الاميركية الى مصادرة أموال عدة مئات من الأشخاص والمؤسسات بزعم الاشتباه في تمويل الإرهاب كان عنصرا مشجعا على رفع الدعوى إذ ان تلك الشبهات التي أثارتها الجهات الحكومية الاميركية، اعتبرت قرائن على اتهام الأشخاص والجهات العربية والاسلامية، ومن ثم كانت سبيلا الى تحديد الجهات والأشخاص الذين تبرعوا لجمعيات اغاثية من تلك التي اقحمت ضمن قوائم المصادر الاميركية على اساس الاشتباه، هؤلاء وردت اسماؤهم ضمن المطالبين بالتعويضات، اضافة الى مديري تلك الجهات وأعضاء مجالس ادارتها، كما ان مؤسسات مالية ومصرفية وشركات صرافة وجهت إليها ذات المطالبة لمجرد انها «اسلامية»، وفي ظل اللوثة الاميركية اعتبرت بالضرورة على صلة بالإرهاب.. وهكذا.
أي دارس للقانون، بل أي طالب في السنة الأولى بكلية الحقوق في أي بلد، لا يستطيع ان يأخذ هذا الكلام على محمل الجد، حيث لا وجه لاقامة أي دعوى جنائية على أساس من الشبهات لان ذلك ينتهك مبدأ معروفا هو «شخصية المسؤولية الجنائية»، من ثم فمن الناحية القانونية البحتة لا مجال للحكم بالتعويض في القضية.
لكن الموقف لا يبعث على الاطمئنان تماما، لان المحكمة وان لم تستطع ان تحكم بالتعاون إلا انها قد تحكم بالادانة، استنادا الى ان تلك الجهات قدمت مساعدات للمجاهدين الأفغان، وهو ما كان مفتوحا على مصارعه للجميع، أو لجمعيات خيرية أو اغاثية عملت في افغانستان، وفي هذه الحالة تصبح تهمة «تمويل الإرهاب» معلقة على رقاب الجميع، وما لم تستأنف تلك الجهة أو اولئك الأشخاص الحكم، لكي يثبتوا ان مساعداتهم لم تكن تمويلا للإرهاب، فإن الادانة في التهمة ستظل معلقة على رقاب الجميع، تلاحقهم حيثما ذهبوا، واحسب ان هذا الجهد ذاته مطلوب من الجهات التي صادرت الادارة الاميركية أموالها بناء على شبهات أو قرائن، وهو أمر يحتاج الى وقت قد يطول، لان الولايات المتحدة بتلك المصادرات التي تمت وضعت يديها على مئات الملايين من الدولارات.
ان إحدى مشكلات الادارة الاميركية الحالية، التي يديرها نفر من المحافظين المتطرفين، انها تعتبر نفسها فوق القانون، ومن ثم فهي ليست بالضرورة مقيدة بأحكامه، وهذا ليس كلاما من عندي، رغم انني اؤيده، لكنه كلام قاله كاتب اميركي مرموق هو وليم فاف، في مقال بصحيفة «لوس انجليس تايمز» نشرته له «الشرق الأوسط» في 8/15 الحالي، إذ تحدث عن «هواة السياسة» في البيت الابيض «الذين يأخذون حق الولايات المتحدة في ان تقوم بأي شيء تريده كشيء مسلم به ومبرر، حيث تصر الحكومة بشكل مستمر على اعفائها من الالتزام بالقانون الدولي، وما زالت ترفض القيود التي تؤمنها الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات الاميركية السابقة، كما انها تطالب اليوم بأن تعفى من بعض القيود الدستورية أيضا».
أيا كان الأمر فالقدر المتيقن ان الولايات المتحدة بالسياسات التي تتبعها الادارة الحالية على الأقل، وبالاجراءات السائدة فيها، لم تعد مكانا آمنا للاستثمارات العربية بوجه عام، ورغم الاستنكار الذي قوبل به تقرير مؤسسة «راند كوربوريشن» الذي دعا الى تجميد الودائع السعودية في الولايات المتحدة، بزعم انها دولة معادية، ورغم ان الفكرة استبعدها كثيرون من المسؤولين ورجال الأعمال، إلا ان خطورة هذه الدعوة انها كشفت عن ان أحدا يفكر بهذه الطريقة في الولايات المتحدة، واذا كنا في زمن صار اللامعقول معقولا، فمن حق أصحاب الأموال العرب ـ ومن الطبيعي أيضا ـ ان يفكروا في ذلك الاحتمال البعيد، وان يتجنبوا أي ضرر من المغامرة فيما يتعلق باستثماراتهم.
فضلا عما سبق فاحسب ان التطورات الاقتصادية الأخيرة في الولايات المتحدة، التي أدت الى انهيارات في البنوك من جراء اشهار افلاس بعض الشركات العملاقة، هذه التطورات احدثت حالة من الركود، وأضافت عنصرا جديدا الى عناصر السلب في المشهد الاميركي، الأمر الذي يشجع كثيرا من المستثمرين على الاعراض عن منطقة الدولار، والتحول الى «اليورو» الاوروبي.
لقد ذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» في الاسبوع الماضي ان مستثمرين سعوديين سحبوا ما بين مائة ومائتي مليار دولار من الأموال المودعة في الولايات المتحدة، معتبرين ان حكومة الرئيس جورج بوش تقوم بتشويه سمعتهم، وتخلق أجواء غير مشجعة وغير مرحبة بالمال العربي بوجه عام، ورغم ان هناك من اعتبر الرقم مبالغا فيه، إلا ان أحدا لم يعرف ان ظاهرة السحب قائمة بالفعل، وانها تصاعدت خلال الأشهر الأخيرة، والى جانب أصحاب الودائع فقد توافرت الأنباء عن انسحاب العديد من المستثمرين الصغار من أسواق الأسهم الاميركية، بعد اشهار افلاس بعض الشركات العملاقة، وفي المقدمة منها شركة «انرون».
في التقرير الذي نشرته «الشرق الأوسط» في 8/23 ذكرت انه في ظل التطورات الدراماتيكية التي تشهدها أسواق المال الاميركية، فان إحدى كبريات المؤسسات الاستثمارية أشارت الى ان ذلك اثر على مستقبل نحو أربعة تريليونات دولار من الأموال الأجنبية المستثمرة في «وول ستريت»، مبينة اعتقادها ان تورط الولايات المتحدة في أزمة جيوبوليتيكية طويلة الأمد، قد يدفع باعداد متزايدة من المستثمرين الدوليين الى منطقة «اليورو».
أيا كان الأمر فمختلف الشواهد تدل على ان هناك سحبا أيا كانت درجته للأموال العربية من السوق والبنوك الاميركية، كما ان تدفق الاستثمارات العربية الجديدة على الولايات المتحدة قد تأثر بدرجة أكبر.
وفي رأي المحللين الاقتصاديين ان المستثمرين الدوليين يتخوفون على أموالهم عادة بعد الأزمات الشهيرة، وأشاروا في هذا الصدد الى ان المستثمرين الأجانب تخلصوا مما قيمته 6.4 مليار دولار من السندات والأسهم خلال الشهرين التاليين للغزو العراقي للكويت، لكن التدفقات الأجنبية عادت الى مستوياتها قبل الأزمة في غضون شهرين من بدء المعارك، غير ان المحللين لاحظوا في المقابل ان الصدمات الماضية (أزمة أسعار النفط وحرب الخليج والأزمة النقدية الآسيوية وتداعياتها على امتداد الأسواق الناشئة) كانت في غالبيتها قصيرة المدى، واحتفظ المستثمرون الدوليون خلالها بشهية نشطة لتملك الأسهم والسندات الاميركية، غير ان الأمر اختلف هذه المرة، لان تحول الصدمة الراهنة الناجمة عن الهجمات الإرهابية الى أزمة طويلة الأجل من شأنه ان يقود الى فترة طويلة من التدفقات الاستثمارية الضعيفة على الولايات المتحدة.
أهم ما في المشهد ان عنصر المخاطرة لم يعد ممكنا تجاهله في أفق السوق الاميركية، وان الاشارات التي تدل على ان الأموال المودعة هناك هي الآفة في الوقت ذاته، وانه يمكن العبث بها في أي وقت، هذه الاشارات لا يمكن اغفالها على محدوديتها في الوقت الراهن، خصوصا اذا وضعنا في الاعتبار اننا بصدد أزمة ممتدة لأجل لا يعلمه إلا الله، ليس ذلك فحسب وإنما نحن أيضا بصدد ادارة اميركية يهيمن عليها المحافظون المتطرفون الذين تراودهم أحلام الامبراطورية الاميركية المهيمنة على مقدرات العالم، التي يدفعها غرور القوة الى اخضاع الجميع بالقوة، بل ولديهم شهية مفتوحة لانتهاك القانون واعتبار الولايات المتحدة فوق أي مساءلة أو حساب، وما تمارسه في الساحة الدولية الآن فضلا عما تمارسه بشأن الحقوق المدنية في داخل الولايات المتحدة ذاتها، خير دليل على صحة ذلك التخوف.
لست خبيرا في الاقتصاد، لكنني أرى في الأفق أسبابا قوية للقلق، وأجد انه من المهم للغاية والضروري ان يطرح موضوع مستقبل الأموال العربية في الولايات المتحدة للمناقشة في لقاء مغلق لرجال الأعمال المعنيين بالأمر، مرة أخرى لان كل ما لم يكن معقولا أو ممكنا في السابق، اصبح الآن معقولا وممكنا، بحجة اننا بعد 11 سبتمبر أصبحنا في عالم جديد، لا يحكمه العقلاء بالضرورة.
أضافة تعليق