مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عندما عرف المصريون أنهم مالكو مصر.
د.سعيد إسماعيل على | 28-04-2011 00:10

عبر حقب تاريخية طويلة، ومنذ عهد الفراعنة، وَقَر فى أذهان الجميع، حكاما ومحكومين، أن مصر مملوكة للحاكم وحده، وأن المحكومين، إن هم إلا عبيد إحسانه، فهى إقطاعية ضخمة، هو المتصرف الوحيد فيها، له أن يُقْطع منها ما يشاء، لمن يشاء، وقتما شاء، ويسحب ما أقطعه، وقتما شاء، وبأى كيفية شاء.

وجاءت فرصة تاريخية لمصر عندما ذهب مصرى قبطى إلى حيث يكون خليفة المسلمين عمر بن الخطاب يشكوه أن ابن حاكم مصر وفاتحها، عمرو بن العاص قد أهانه وضربه، فأصر الخليفة العظيم على أن يقتص للمواطن المصرى ’’ الغلبان ’’ ، من ’’ ابن الأكرمين ’’، وصاح بتلك الصيحة الرائعة التى أسست لحقوق الإنسان قبل أن يعرف أحد فى العالمين هذه الكلمة ’’ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا’’؟

فالأصل فى بدء نشأة المواطن، أنه يولد ’’ حرا ’’..تلك نقطة البداية فى الحياة المجتمعية، وبالإيمان، يتيقن ألا إله إلا الله، ومن ثم فلا سيد إلا هو، وبالتالى فليس الوطن ’’ إقطاعية ’’ ينفرد الحاكم بالتصرف فيها وبمن عليها. وزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التى تؤكد أن الله خلق الأرض وما عليها من أجل ’’ الناس’’ جميعا بغير تمييز، فقال على سبيل المثال، لا الحصر فى سورة إبراهيم (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)) .

فحتى ما نتنفسه من هواء، وما نستمتع به من شمس وقمر..كل ذلك، مسخر للإنسان..فأى روعة يمكن أن تصل إلى هذا؟ وأى عظمة يمكن أن ترقى إلى هذا المستوى من التكريم للإنسان، الذى لابد أن يعى أن ما يستتبع ذلك، هو أن يعمل بمقتضى عهد ’’ خلافة ’’ الإنسان للمالك الأصلى، وهو الله عز وجل.

ومع ذلك، فلم يصل مستوى الوعى إلى هذه الدرجة مع الأسف الشديد بفعل عوامل متعددة ليس هنا مكان لمجرد الإشارة إليها. وترتب على التفريط فى هذا المبدأ الإلهى العظيم أن تحول المواطنون فى مصر ، فى كثير من العهود إلى ’’ عبيد ’’.

وعلى الرغم من أن حاكما مثل محمد على، راح ينشر العلم فى أرجاء مصر، ويرسل البعثات العلمية إلى أوربا لأول مرة، ويأمر بترجمة الكتب العلمية إلى العربية، ويشيد المصانع، والمؤسسات الحديثة، لكنه صَدَر فى كل ذلك من منطق صاحب المِنّة والفضل، على عبيد إحسانه، فنجح فى بناء مؤسسات حديثة متقدمة، لكنه فشل فى بناء ’’ كرامة ’’ المصرى، وإحساسه بأنه هو صاحب الوطن، ومالك أرضه، ومن هنا، فعندما تكالبت عليه قوى الهيمنة الكبرى، سقط نظامه بسرعة، حيث لا يدافع عن كرامة الوطن إلا مواطنون يتحققون من أنهم ذوى كرامة. ولو كان قد سعى إلى بناء الإنسان فى مصرى باعتباره مالكا للوطن، لهرع الجميع يدافعون عن هذا الوطن، لكنهم تصوروا أن مصر إن هى إلا ’’ إبعادية الباشا’’، وهم عبيد إحسانه!!

ولاحت ومضة وعى دينى ووطنى أكثر من رائعة، عندما كرر ’’ أحمد عرابى’’ قولة عمر بن الخطاب، وأتبعها بقوله، أننا – كمصريين – لسنا عبيد إحسانهم – حكام مصر فى تلك الحقبة- ولن نورث بعد اليوم، لكن قوى البغى العالمية أفزعها هذه الروح، التى لو تأكدت وسرت فى أنحاء مصر، فسوف يتحول كل مصرى إلى قوة عظمى حقيقية تدفع بمصر إلى أعلى الآفاق وأرحبها، وأكثرها رقيا وتقدما، فحدث ما حدث من احتلال بريطانى.

وعندما قامت ثورة يوليو 1952، رحبنا بها جميعا، حيث أشعرتنا أن مصر يحكمها، لأول مرة، منذ قرون طويلة، حكام مصريون، وما من يوم كان يمر إلا ويحمل لنا خطوة رائعة نحو ’’ تحرير ’’ المصرى، فكان إلغاء للأقاب ( بك ، وباشا ) ومصادرة أملاك الباشوات وتوزيعها على الفلاحين، والوقوف موقف الندية من قوى البغى الخارجى، حتى أن صوت المطرب ’’ محمد قنديل ’’ ما زال يرن فى أذنى؛ وهو ينشد ’’ عا الدوار، عا لدوار..راديو بلدنا بيذيع أخبار ’’، ويضيف: ’’ الجرانين بترد الروح، وتداوى القلب المجروح ’’..

لكن الأحداث اتجهت منحى آخر..كان عبد الناصر وطنيا بامتياز، لكن وقر فى ذهنه أنه الوحيد الأدرى بمصلحة مصر، حتى لقد انتهى الأمر إلى ما يشبه ’’ تأميم العقول’’، فضلا عن زرع الخوف فى القلوب من النطق بما يخالف ويغاير ما يراه النظام الحاكم، فإذا كان قد أرجع الأرض للمصريين، لكنه لم يدعهم يمتلكون عقولهم، وماذا يكون الفرق بين الإنسان بغير شعور حقيقى بملكيته لتفكيره وعقله، وبين ’’ القطيع ’’، الذى قد نوفر له الغذاء والماء والمأوى والحماية، لكنه يظل ’’ مملوكا ’’، لا يقدر على أن يتصرف بما يشاء ؟!

أما ما حدث فى العقود القليلة الماضية، فلست بحاجة إلى التفصيل فيه، فقد انكشف الغطاء، وأصبحت الصحف وأجهزة الإعلام كلها تفيض علينا كل يوم وكل ساعة، بصور وآيات، تسير كلها فى اتجاه أن الحاكمين، ليتهم تصرفوا على اعتبار أن مصر ملكهم وحدهم، فيكونوا أمناء على ما يمتلكون، لكنهم حرصوا على تقطيعها إربا وتوزيع لحمها على الأذناب والأعوان، الذى انكشف لنا أنهم اسوأ أنواع البشر، وإلا فما هو أسوأ من أناس يأكلون لحم أمهم وأخواتهم؟!(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12))، سورة الحجرات.

ومن هنا يصبح أبرز ما حدث عند اندلاع ثورة يناير، أن أصبح المصريون، ولأول مرة، يشعرون بأنهم الملاك الحقيقيون لمصر..

ولو تأملنا جيدا فيما هو مفروض من تداعيات هذه الحقيقة، وسرنا على طريقها، فسوف تتحول مصر حقيقة، لا حلما، إلى قوة عظمى..

إن هناك أصواتا خشنة تروج لخرافة خطر التزايد السكانى، قياسا إلى الموارد الطبيعية الموجودة، غافلين عن أن الإنسان مورد لا مثيل له فى حد ذاته..مورد يفوق الأرض والنبات والحيوان والهواء والشمس، عندما نحسن تنشئته وتعليمه وتربيته...

إن أعظم ما حدث فى يناير هذا العام، هو تلك الخطوة غير المسبوقة، التى ترجمت ما قاله عمر بن الخطاب، وما صاح به أحمد عرابى، بحيث يعى المصرين أنهم الملاك الحقيقيون لمصر، وبالتالى فهم أصحاب القرار الحقيقيين، فيمن يرون أن يحكمهم، أيا كان مستوى الحكم والإدارة، وفيما يتصل بالتوجهات الأساسية لاقتصاد وطنهم، وكذلك فى رسم الإطار العام للسياسة الخارجية، والتوجهات الثقافية، وهكذا بالنسبة لكل مقومات الوطن والوطنية.

لقد خرج المارد من القمقم، وما هذه الصور الاحتجاجية التى نراها يوميا إلا ترجمة لهذا الذى نقول ’’ كانت فى جرّة، وخرجت لبره ’’ ، كما يقول المثل العامى فى مصر..لكن..

التحرر لا يمكن أن يعنى الإنطلاق بغير قواعد وضوابط، لا تُفرض علينا، حتى لا تتحول، كما حدث عشرات المرات، إلى قيود وأغلال، ولذلك لابد أن نتوافق على هذه القواعد والضوابط، قواعد وضوابط : تنظم وتُرَشِّد وتوجه، وتستخرج من الإنسان أغلى، وأعظم ما فيه..

لكننا، أحيانا ما نرى توجها نحو طريق غير صائب، يتحرك بالهوى والتفكير الجزئى، أكثر مما يتحرك بالعقل والمنطق..

وسوف أسوق مثالين: أولهما عام، وهو الاعتصامات الخاصة بالأجور. صحيح أن أحدا لا يستطيع أن يرضى بهذا المستوى المتدنى للأجور فى مصر، ولكن المشكلة فيما نحن فيه الآن، تتلخص فيما يلى...شهران توقف فيهما العمل والإنتاج فى مصر، وفى الوقت نفسه، لم يتوقف ثمانون مليون مواطن عن الاستهلاك، تغذية، وماء، وطاقة... وهكذا. لا يحتاج الإنسان إلى خبير اقتصادى لتأمل هذه الحقيقة البسيطة شكلا، المفزعة عملا وواقعا، حيث أصبحنا فى وضع اقتصادى ينذر بالخطر العظيم، فكيف يمكن لابن أن يطالب أبيه بزيادة المصروف الشخصى، وقد أُعْطى هذا الأب أجازة بدون أجر لما أصبح يزيد عن شهرين؟

المثال الثانى، هو ما يحدث داخل الجامعات المصرية. ولعل من يتابعنى فى كتاباتى، يجد – بغير مبالغة – أننى، ومنذ ما يزيد على ربع قرن، أكتب فاضحا ومنددا باستمرار بما كان من سطوة أمنية، وغياب للديمقراطية، وكيف أن القيادات الجامعية كانت دائما اختيارات أمن الدولة،ومن عناصر منافقة ومسطحة،وربما غير نظيفة، ومن ثم لابد منطقيا أن أقف فى صف ما يعلن من مطالب، لكن، مرة أخرى..نحن على أبواب امتحانات، وقد ضاع الكثير من وقت التعلم والتعليم، فهل هذا هو الوقت المناسب لخلع القيادات الجامعية وكلها؟ ..وهكذا تتجه المطالبات إلى الجميع؟ لماذا لا ننتظر حتى تنتهى الامتحانات، وأثناء ذلك نتوفر على القانون القائم ونغيره، ونُضَمِّنه كل ما نطمع فيه ونطمح إليه؟

حتى هذا الذى يحدث فى قنا، حيث لابد أن الحال سوف يتغير قبل أن يصل مقالى هذا إلى القارئ، لابد أن أتساءل بأسى : لماذا لابد أن يؤدى الاحتجاج إلى تعطيل العمل والإنتاج ؟ إن جنوب الوادى، أكثر من غيره ، يعتمد على حركة القطارات، فكيف يحرم مئات الألوف من الحركة نتيجة لهذا ؟ وهذه الحركة ترتبط بمصالح وأحوال وصحة وتعليم وعمل وغيره؟!

إن كثيرين، من مختلف أنحاء العالم يصفون ثورتنا بأنها من أعظم الثورات فى التاريخ، وأنها تُعَلِّم العالم أعظم الدروس. فلنكمل المسيرة وفق مقاييس العظمة والخلود التاريخى، حتى لا نفقد الثمن الغالى الذى دفعناه جميعا، إن بطريق مباشر- الشهداء – أو غير مباشر، فيما خسرته مصر طوال عهد القهر والاستبداد، خاصة وأن مصر لم يعد فى جسمها دماء أخرى تتحمل مزيدا من النزيف، وهى ، على العكس، تحتاج أن نبث فيها دماء جديدة، بصواب التفكير، ورشد العمل،وقبل هذا وذاك بعمق الإيمان الواعى الصحيح.
*المصريون
أضافة تعليق