ثورة اليمن: من يحسم الموقف؟
04-4-2011
*المركز العربي للأبحاث
لم يقدّمْ ائتلاف شباب الثّورة رؤية واضحة لما يفترض أن تكون عليه الأمور إلى جانب مطلبهم الأساس، وهو رحيل صالح، كذلك فإنّ تعدّد الولاءات والانتماءات والقوى، في بلد يفتقر إلى التنظيم هو أمر يرشّح لأن يكون التّغيير المرتقب محفوفاً بالمخاطر. لكن البُشرى تكمن في ردّ فعل الشّباب الثوري الواعي والمدني تجاه الاستفزازات، ولدى الجيش القدرة، حتى بعد انقسامه، على أداء دور واعٍ في التّعامل مع قضايا مركّبة ومتنوّعة في البلد..
انطلقت الانتفاضة الشعبية اليمنية في شكل تجمّعات شبابية سلمية بزخم قوي مع مطلع شهر فبراير، أيّ حين كان نموذجها المفضّل، وهو الثورة المصرية، حيّاً ينبض في اعتصامات دائمة في ميدان التحرير تتحوّل إلى تظاهرات مليونيّة.
وبدأ الرّئيس علي صالح بتقديم التّنازلات على الفور. فقد أعلن في الثاني من فبراير عدم التّمديد لحكمه الحالي، وعدم الترشّح مرّةً أخرى، بالإضافة إلى عدم توريث الحكم لابنه، وإقالة محافظين، وتقديم مبادرة حول استفتاء على دستور جديد، قبل نهاية السّنة. لكن هذه التّنازلات لم تخفّف الضّغط المتنامي الذي يطالب بإسقاط النّظام.
أخذ تصاعد الاحتجاجات الشّعبية في اليمن يستقطب أعداداً واسعة من المناهضين لنظام صالح على امتداد اليمن، يوماً بعد يوم. وحدثت الدّفعة الأكبر من الانضمام للثّورة ومطالبها، بعد المجزرة التي ارتُكبت ضدّ المحتجّين في ساحة «التّغيير»، يوم الجمعة الثامن عشر من مارس وسقط ضحيّتها ما يزيد على خمسين قتيلاً. وكان الرّجل الأوّل في الجيش اليمني، علي محسن الأحمر، وقائد الفرقة الأولى والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية، أبرز من أعلنوا وقوفهم مع الثّورة في العشرين من مارس.
كذلك صدرت التّصريحات بغرض حماية المحتجّين من اعتداء النظام عليهم. وانضمّ إلى الثورة أيضاً، كلّ من قائد المنطقة العسكريّة الشّرقية اللواء محمد علي محسن «ابن عمّ الرّئيس»، والعميد حميد القشيبي قائد اللواء 310 في محافظة عمران، وقائد المنطقة العسكرية المركزية اللواء سيف البقري، مع عدد واسع من ضبّاط آخرين. وانشقّ قائد القاعدة الجويّة في اللواء 67 بمحافظة الحديدة، العميد الركن أحمد السنحاني، وهو أوّل انشقاق في القوّات الجويّة اليمنية، بالإضافة إلى اللواءيْن 61 و62 التابعيْن للحرس الجمهوري في مديرية أرحب، التّابعة لمحافظة صنعاء.
واستمرّ الضّغط الشّعبي على صالح الذي بدا أنّه يخسر عناصر قوّته بالتدريج، (استقالات من الحزب والحكومة والبرلمان والبعثات الدبلوماسية... وتخلّي عشائر حليفة عنه، وإعلانها الولاء للثورة في زيارات متتالية لميدان التغيير) ما جعله في موقف دفاعي، إلى درجة تردّد أنباء واسعة داخل اليمن وخارجه، في الثالث والعشرين من آذار/ مارس، أنّه اتُّفق على مرحلة انتقالية بنقل الصّلاحيات إلى نائب رئيس ومنه إلى مجلس رئاسي، وأنّ صالح سيسلّم السّلطة خلال ساعات.
وأعلنت المعارضة اليمنيّة يوم الأحد السّابع والعشرين من مارس أنّ المفاوضات بشأن نقل السلطة قد توقّفت. كذلك أعلن صالح، في اليوم التالي، أنّه صامد في وجه الاحتجاجات، وأنّ غالبية الشّعب تؤيّده. وقد ترافق مع ذلك طلب حزب المؤتمر الشعبي الحاكم أن يظلّ صالح رئيساً حتى نهاية ولايته في 2013. وعادت المواقف للتّصلّب والوقوف أمام عمليّة التّحوّل السياسي السّلمي، ما أثار مخاوف من سيناريو آخر، هو الصِّدام والانقسام في البلد.
وليست عوامل الصّدام والانقسام التي يمكن ملاحظتها في الحالة اليمنيّة بعيدة عن الجيش والقوّات المسلّحة نفسها، التي يُعدّ الرّئيس صالح قائدها الأعلى. فلم يهدأْ الوضع السّياسي في اليمن منذ توحيد البلاد في مطلع التّسعينات، إذ شهدت البلاد حرباً أهليّة بين الشّمال والجنوب في أواسط التّسعينيات، ومواجهات عسكرية مع قوى سلفيّة جهادية، أضف إلى ذلك حروب صعدة.
وهذه كلّها، كان لها انعكاسات على المشهد السياسي في البلاد، إذ تولّدت صراعات، كان من أبرزها الخلاف المتنامي بين الرّجل الأقوى في الجيش علي محسن الأحمر والرئيس علي صالح. فرغم أنّ محسن كان داعماً رئيسياً لصالح، طوال الفترات السابقة، أصبحت ملامح القطيعة والصّراع واضحة بينهما خلال العقد الأخير. فقد ظهرت، منذ سنوات، مخطّطات توريث الحكم لأحمد، ابن الرئيس، واستفراد صالح وأبنائه بمفاصل السّلطة، الأمر الذي جعل علي محسن يقف ضدّه، لذا عمل صالح وابنه أحمد على كسر شوكة الفرقة المدرّعة الأولى، عبر إنهاكها في حروب «غير ملزمة» في صعدة.
بالإضافة إلى أنّه حين أيّد عددٌ كبير من ضبّاط الجيش ثورة الشباب، وساندوا مطالبهم أمام السلطة، وأعلنوا حمايتهم للمحتجّين، في العشرين من مارس؛ أتى ردّ فعل مباشر من النظام، عبر خطاب وزير الدّفاع محمد ناصر علي في 21 مارس، الذي أعلن أنّ الجيش سيساند الرّئيس صالح ضدّ «أيّ انقلاب على الدّيموقراطية». لكنْ، هناك شكوكٌ في مدى تأثير هذا البيان من وزير الدفاع في خيارات الجيش، على أساس أنّ الشّخصيات النّافذة والقويّة في الجيش هي التي أعلنت انضمامها إلى الثّوّار.
والجيش اليمني ثاني أكبر قوّة عسكرية في الجزيرة العربية بعد السّعودية، ويبلغ عدد المنتسبين المحترفين في الجيش نحو 89500 ألف جندي وضابط، يتوزّعون على النحو الآتي: سلاح البرّ 66000، البحرية7000، والقوّات الجويّة 5000، الحرس الجمهوري والقوّات الخاصّة 11500 جندي. وفي سبتمبر 2007، أعلنت الحكومة إعادة الخدمة العسكريّة الإلزامية. وتمثّل ميزانية الجيش في اليمن نحو 40 في المئة من الميزانية الحكومية العامّة، وهي نسبة كبيرة جداً على المستوى العالمي. وفي اليمن قوّات شبه عسكريّة يبلغ عددها نحو 71000 جندي، منهم 50 ألف جندي في الأمن المركزي.
وتبرز في حالة اليمن ظاهرة تعيين قيادات عسكرية وأمنيّة على أساس عائلي، لضمان الولاء الشّخصي للرّئيس. وأبرز هذه القيادات أحمد علي عبد الله صالح، «ابن الرئيس»، وهو قائد الحرس الجمهوري والقوّات الخاصّة، وخالد علي عبد الله صالح، «الابن الآخر للرئيس»، وقائد القوّات الجبلية المدرّعة، ويحيى محمد عبد الله صالح «ابن أخي الرّئيس» رئيس أركان الأمن المركزي، وطارق محمد عبد الله صالح «ابن أخي الرئيس» وقائد الحرس الخاصّ، وعمار محمد عبد الله صالح الأحمر، «ابن أخ الرّئيس» ومسؤول جهاز الأمن القومي، ومحمد صالح عبد الله الأحمر «أخ غير شقيق للرّئيس»، وقائد القوّات الجوّية.
لقد جرت محاولة فريدة في اليمن لضمان ولاء الجيش عبر العصبيّة العائليّة مباشرة. ومن خلال الخريطة السّياسية التي ارتسمت في الجيش، بعد انضمام قيادات بارزة فيه إلى الثّورة، يبدو أنّ هذه العصبيات لم تضمن إلّا ولاء الموالين للنظام أصلاً.
ويتبين اليوم أنّ اعتماد صالح على الأقارب في الجيش والأجهزة الأمنيّة لم يكن بالضّرورة عامل ثبات واستقرار له. فأخطرُ تهديد له يأتيه اليوم من اللواء علي محسن الأحمر، الذي وصفته وثيقة دبلوماسية أميركية في 2005 سرّبها موقع «ويكيليكس»، بأنّه الرّجل الأقوى في البلاد بعد صالح(1)، وكان سبب ذلك الصّراع الرّئيس هو التّوريث، كما ذكرنا.
يجري التمهيد لخطّة التّوريث منذ ما يقارب العشر سنوات. وفي سبيل ذلك، كانت تقوية الحرس الجمهوري الذي يرأسه أحمد، فقد تخصّصت هذه القوّة في مكافحة الإرهاب في اليمن، واستأثرت بغالبيّة المساعدات المالية الأميركية، التي نمت من 5 ملايين دولار في 2006 إلى 155 مليون دولار في 2010.
فيما اقترحت وزارة الدفاع الأميركية في 2010 تقديم دعم بـ1.2 مليار دولار، تنفق على مدى خمس سنوات، لدعم جهود ما يسمّى مكافحة الإرهاب، وجرى العمل على تقديم تدريبات أميركية لها، في كنف السرّية، نتيجة السّخط الذي أثاره النّشاط الأميركي العسكري في المنطقة، مثل الهجمات الأميركية الجوية التي ضربت مناطق داخل اليمن في ديسمبر 2009. كذلك تتبنى قبائل وقيادات عسكرية موقفاً سلبياً من قوّة وحدات الحرس الجمهوري، لأنّها استُخدمتْ لصالح نفوذ ابن الرئيس، وأضعفت نفوذهم.
ورغم التدريبات الأميركية ومستوى الإنفاق المرتفع، أخذت بوادر ضعف الجيش اليمني تتبدّى. ويتّضح ذلك في حروب صعدة التي أنهكت الجيش (والتي اتُّهم ابن الرئيس أحمد بأنّه السبب في إطالتها بغرض إضعاف الجيش)، وعدم القدرة على حلّ النزاعات في مناطق اضطراب قبليّة، بالإضافة إلى تنامي وجود تنظيم القاعدة في اليمن، في السنوات الأخيرة. إذ وصل الأمر إلى ظهور علني لهذا التنظيم، في بعض المحافل في اليمن. وقد استخدمت هذه الصّراعات لضمان الدعم الأميركي لعلي عبد الله صالح، خوفاً من البديل، وهو سلفي جهادي في بعض المناطق، كما بدا للعيان في حينه.
وكانت معسكرات قد استسلمت بكاملها، في حروب صعدة، في مران ورازح وحرف سفيان، وسلمت كلّ ما فيها من أسلحة وعتاد لجماعة الحوثي، وسبب ذلك، كما يقول مئات من الجنود الأسرى لدى الجماعة، هو انقطاع المؤن عنهم، أسابيعَ، دون مبرّر. كذلك اتهم جنود آخرون سلاح الطّيران الذي يقوده الأخ غير الشّقيق للرّئيس اليمني، بقصفهم أحياناً أو عدم فكّ الحصار عنهم، في أكثر من مناسبة، في حرب صعدة الأخيرة.
بالإضافة إلى ذلك، كان صالح قد تدخّل في هيكليّة الجيش في السّنوات الأخيرة. فبعدما عيّن ابنه أحمد في قيادة الحرس الجمهوري بعد إزاحة أخيه غير الشّقيق علي صالح الأحمر، أجرى صالح «غربلة» في قيادات الجيش، تمهيداً لتوريث ابنه، فأبعد قيادات من المقرّبين من علي محسن الأحمر، وعيّن آخرين مقرّبين من ابنه أحمد. وأنشأ صالح فرقة المشاة الجبلية المدرّعة لتنافس الفرقة المدرعة الأولى التي يقودها علي محسن الأحمر.
ويبدو أنّ الخلاف بين الرّئيس صالح وعلي محسن كان قد وصل إلى درجة بالغة الخطورة، فقد كشفت وثائق «ويكيليكس» أنّ السّلطات اليمنية في حرب صعدة السّادسة، قدّمت معلومات مضلّلة لسلاح الجوّ السعودي، كاد على إثرها أن يقصف مقراً يوجد فيه اللواء علي محسن الأحمر، وهو ما أكّد أنّ صنعاء ترغب في التخلّص منه.
أبرزت الثورة حالة الشّقاق في الجيش المتمثّلة في مناوشات في حضرموت، حصلت أخيراً بين قطاع من الجيش موال لعلي بن محسن وقطاع من الحرس الجمهوري الموالي للرّئيس. وينذر تصلّب الرئيس والطبقة السياسيّة المحيطة، وتكتّل المعارضة في المقابل، بصدامات وانقسامات تحدث على مستوى واسع في البلد، إذا لم يستنتج الرّئيس ضرورة الاستقالة أمام التحرّك الشّعبي السّلمي. إنّ الرئيس هو الذي يقرّر النّقل السّلمي للسّلطة أو قيادة البلد إلى مغامرة عنيفة قبْل الرّحيل.
يمكن أن نضيف إلى ذلك خطر القبائل المسلّحة، فالوضع الملتهب أخيراً في اليمن شجّعها على التدخّل، كما حدث في 23 آذار/ مارس، حين طردت قبائل محافظة الجوف قوّات من الحرس الجمهوري في المحافظة، بعد معركة قصيرة بين الطّرفين. وكان ذلك رداً من القبائل على مشاهد القتل المروّعة التي تعرّض لها المعتصمون. كذلك حصل أخيراً تصعيدٌ خطير، يتمثّل في سيطرة مسلّحين على مدينة جعار ومناطقَ أخرى في محافظة أبين جنوب البلاد. ولا يزال الثوّار وطابع ثورتهم عوامل التهدئة الرّئيسة في البلد.
يتخوّف بعض شباب الثورة من أنّ انحياز علي محسن لها سوف يمسّ بمدنيّتها، ويؤدّي إلى اختطافها من العسكريّين. وذلك، عدا كون محسن أحد رموز المرحلة السّابقة. لكن حالة اليمن التي لا يطرح فيها الشّباب نظاماً ليحلّ محلّ نظام بقوّة الثّورة، كما في روسيا البلشفية أو الثورة الإيرانية، ويصعب توقّع انحياز الجيش بكامله لهم بسبب العصبيّات العائليّة التي تربط بعض قياداته بالرّئيس، فإنّ الحلّ الوحيد لحماية الثّورة من عنف الجيش والأجهزة الموالية هو انضمام جزء من الجيش إليها. ومن انضمّ وأعلن ولاءه للثورة هو فعلاً جزءٌ كبير من الجيش. والمطلوب هو تغلغل قيم الثّورة الدّيموقراطية في صفوفه، والتّفاهم مع قيادته على قواعد التّعاون.
وهنالك مخاوف أخرى بالنسبة إلى طبيعة تحرك الجيش، بعد انقسامه تجاه التحدّيات الماثلة في السّاحة اليمنية، وهي خطر الانفصال في الجنوب، وتنظيم القاعدة المسلّح، والتمرّد في صعدة. ولا تزال المعارك بين الجيش والحوثيّين، تتجدّد، حتى اللّحظة، بالإضافة إلى المناوشات بين القطاعات المسلّحة التي تتّخذ وضعاً كمونياً الآن، إلى الاحتجاجات القبلية المسلّحة. ويبدو لنا، أنّ هذه الصّراعات مؤجّلة إلى ما بعد رحيل علي صالح، إلّا إذا افتعل نظامه بعضها.
أمّا بعد الرّحيل، فإنّ هذه الصّراعات سترتبط بالتفاهمات التي سيُتّفق عليها في المرحلة الانتقاليّة. ولا نبالغ في القول إنّ حلّها سوف يمثّل أوّل التحدّيات وأهمّها أمام النّظام الجديد، لأنّ التفاهم بشأنها هو شرط الاستقرار الذي سيساعد على التحوّل.
لم يقدّمْ ائتلاف شباب الثّورة رؤية واضحة لما يفترض أن تكون عليه الأمور إلى جانب مطلبهم الأساس، وهو رحيل صالح، كذلك فإنّ تعدّد الولاءات والانتماءات والقوى، في بلد يفتقر إلى التنظيم هو أمر يرشّح لأن يكون التّغيير المرتقب محفوفاً بالمخاطر. لكن البُشرى تكمن في ردّ فعل الشّباب الثوري الواعي والمدني تجاه الاستفزازات، وهم في بلد يملك شعبه الذي يعدّ 24 مليون نسمة، 60 مليون قطعة سلاح.
ولدى الجيش القدرة، حتى بعد انقسامه، على أداء دور واعٍ في التّعامل مع قضايا مركّبة ومتنوّعة في البلد. ولذا من الضّروري تنسيق خطوات كلّ من الشّباب والجيش حتى تتألف القوّةُ والنّهج، القادران على نقل الثّورة اليمنيّة إلى برّ الأمان.
هامش:
(1) http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast
2011/03/110327_yemen_saleh_interview.sht
*معهد الدوحة) / يديره الدكتور عزمي بشارة
04-4-2011
*المركز العربي للأبحاث
لم يقدّمْ ائتلاف شباب الثّورة رؤية واضحة لما يفترض أن تكون عليه الأمور إلى جانب مطلبهم الأساس، وهو رحيل صالح، كذلك فإنّ تعدّد الولاءات والانتماءات والقوى، في بلد يفتقر إلى التنظيم هو أمر يرشّح لأن يكون التّغيير المرتقب محفوفاً بالمخاطر. لكن البُشرى تكمن في ردّ فعل الشّباب الثوري الواعي والمدني تجاه الاستفزازات، ولدى الجيش القدرة، حتى بعد انقسامه، على أداء دور واعٍ في التّعامل مع قضايا مركّبة ومتنوّعة في البلد..
انطلقت الانتفاضة الشعبية اليمنية في شكل تجمّعات شبابية سلمية بزخم قوي مع مطلع شهر فبراير، أيّ حين كان نموذجها المفضّل، وهو الثورة المصرية، حيّاً ينبض في اعتصامات دائمة في ميدان التحرير تتحوّل إلى تظاهرات مليونيّة.
وبدأ الرّئيس علي صالح بتقديم التّنازلات على الفور. فقد أعلن في الثاني من فبراير عدم التّمديد لحكمه الحالي، وعدم الترشّح مرّةً أخرى، بالإضافة إلى عدم توريث الحكم لابنه، وإقالة محافظين، وتقديم مبادرة حول استفتاء على دستور جديد، قبل نهاية السّنة. لكن هذه التّنازلات لم تخفّف الضّغط المتنامي الذي يطالب بإسقاط النّظام.
أخذ تصاعد الاحتجاجات الشّعبية في اليمن يستقطب أعداداً واسعة من المناهضين لنظام صالح على امتداد اليمن، يوماً بعد يوم. وحدثت الدّفعة الأكبر من الانضمام للثّورة ومطالبها، بعد المجزرة التي ارتُكبت ضدّ المحتجّين في ساحة «التّغيير»، يوم الجمعة الثامن عشر من مارس وسقط ضحيّتها ما يزيد على خمسين قتيلاً. وكان الرّجل الأوّل في الجيش اليمني، علي محسن الأحمر، وقائد الفرقة الأولى والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية، أبرز من أعلنوا وقوفهم مع الثّورة في العشرين من مارس.
كذلك صدرت التّصريحات بغرض حماية المحتجّين من اعتداء النظام عليهم. وانضمّ إلى الثورة أيضاً، كلّ من قائد المنطقة العسكريّة الشّرقية اللواء محمد علي محسن «ابن عمّ الرّئيس»، والعميد حميد القشيبي قائد اللواء 310 في محافظة عمران، وقائد المنطقة العسكرية المركزية اللواء سيف البقري، مع عدد واسع من ضبّاط آخرين. وانشقّ قائد القاعدة الجويّة في اللواء 67 بمحافظة الحديدة، العميد الركن أحمد السنحاني، وهو أوّل انشقاق في القوّات الجويّة اليمنية، بالإضافة إلى اللواءيْن 61 و62 التابعيْن للحرس الجمهوري في مديرية أرحب، التّابعة لمحافظة صنعاء.
واستمرّ الضّغط الشّعبي على صالح الذي بدا أنّه يخسر عناصر قوّته بالتدريج، (استقالات من الحزب والحكومة والبرلمان والبعثات الدبلوماسية... وتخلّي عشائر حليفة عنه، وإعلانها الولاء للثورة في زيارات متتالية لميدان التغيير) ما جعله في موقف دفاعي، إلى درجة تردّد أنباء واسعة داخل اليمن وخارجه، في الثالث والعشرين من آذار/ مارس، أنّه اتُّفق على مرحلة انتقالية بنقل الصّلاحيات إلى نائب رئيس ومنه إلى مجلس رئاسي، وأنّ صالح سيسلّم السّلطة خلال ساعات.
وأعلنت المعارضة اليمنيّة يوم الأحد السّابع والعشرين من مارس أنّ المفاوضات بشأن نقل السلطة قد توقّفت. كذلك أعلن صالح، في اليوم التالي، أنّه صامد في وجه الاحتجاجات، وأنّ غالبية الشّعب تؤيّده. وقد ترافق مع ذلك طلب حزب المؤتمر الشعبي الحاكم أن يظلّ صالح رئيساً حتى نهاية ولايته في 2013. وعادت المواقف للتّصلّب والوقوف أمام عمليّة التّحوّل السياسي السّلمي، ما أثار مخاوف من سيناريو آخر، هو الصِّدام والانقسام في البلد.
وليست عوامل الصّدام والانقسام التي يمكن ملاحظتها في الحالة اليمنيّة بعيدة عن الجيش والقوّات المسلّحة نفسها، التي يُعدّ الرّئيس صالح قائدها الأعلى. فلم يهدأْ الوضع السّياسي في اليمن منذ توحيد البلاد في مطلع التّسعينات، إذ شهدت البلاد حرباً أهليّة بين الشّمال والجنوب في أواسط التّسعينيات، ومواجهات عسكرية مع قوى سلفيّة جهادية، أضف إلى ذلك حروب صعدة.
وهذه كلّها، كان لها انعكاسات على المشهد السياسي في البلاد، إذ تولّدت صراعات، كان من أبرزها الخلاف المتنامي بين الرّجل الأقوى في الجيش علي محسن الأحمر والرئيس علي صالح. فرغم أنّ محسن كان داعماً رئيسياً لصالح، طوال الفترات السابقة، أصبحت ملامح القطيعة والصّراع واضحة بينهما خلال العقد الأخير. فقد ظهرت، منذ سنوات، مخطّطات توريث الحكم لأحمد، ابن الرئيس، واستفراد صالح وأبنائه بمفاصل السّلطة، الأمر الذي جعل علي محسن يقف ضدّه، لذا عمل صالح وابنه أحمد على كسر شوكة الفرقة المدرّعة الأولى، عبر إنهاكها في حروب «غير ملزمة» في صعدة.
بالإضافة إلى أنّه حين أيّد عددٌ كبير من ضبّاط الجيش ثورة الشباب، وساندوا مطالبهم أمام السلطة، وأعلنوا حمايتهم للمحتجّين، في العشرين من مارس؛ أتى ردّ فعل مباشر من النظام، عبر خطاب وزير الدّفاع محمد ناصر علي في 21 مارس، الذي أعلن أنّ الجيش سيساند الرّئيس صالح ضدّ «أيّ انقلاب على الدّيموقراطية». لكنْ، هناك شكوكٌ في مدى تأثير هذا البيان من وزير الدفاع في خيارات الجيش، على أساس أنّ الشّخصيات النّافذة والقويّة في الجيش هي التي أعلنت انضمامها إلى الثّوّار.
والجيش اليمني ثاني أكبر قوّة عسكرية في الجزيرة العربية بعد السّعودية، ويبلغ عدد المنتسبين المحترفين في الجيش نحو 89500 ألف جندي وضابط، يتوزّعون على النحو الآتي: سلاح البرّ 66000، البحرية7000، والقوّات الجويّة 5000، الحرس الجمهوري والقوّات الخاصّة 11500 جندي. وفي سبتمبر 2007، أعلنت الحكومة إعادة الخدمة العسكريّة الإلزامية. وتمثّل ميزانية الجيش في اليمن نحو 40 في المئة من الميزانية الحكومية العامّة، وهي نسبة كبيرة جداً على المستوى العالمي. وفي اليمن قوّات شبه عسكريّة يبلغ عددها نحو 71000 جندي، منهم 50 ألف جندي في الأمن المركزي.
وتبرز في حالة اليمن ظاهرة تعيين قيادات عسكرية وأمنيّة على أساس عائلي، لضمان الولاء الشّخصي للرّئيس. وأبرز هذه القيادات أحمد علي عبد الله صالح، «ابن الرئيس»، وهو قائد الحرس الجمهوري والقوّات الخاصّة، وخالد علي عبد الله صالح، «الابن الآخر للرئيس»، وقائد القوّات الجبلية المدرّعة، ويحيى محمد عبد الله صالح «ابن أخي الرّئيس» رئيس أركان الأمن المركزي، وطارق محمد عبد الله صالح «ابن أخي الرئيس» وقائد الحرس الخاصّ، وعمار محمد عبد الله صالح الأحمر، «ابن أخ الرّئيس» ومسؤول جهاز الأمن القومي، ومحمد صالح عبد الله الأحمر «أخ غير شقيق للرّئيس»، وقائد القوّات الجوّية.
لقد جرت محاولة فريدة في اليمن لضمان ولاء الجيش عبر العصبيّة العائليّة مباشرة. ومن خلال الخريطة السّياسية التي ارتسمت في الجيش، بعد انضمام قيادات بارزة فيه إلى الثّورة، يبدو أنّ هذه العصبيات لم تضمن إلّا ولاء الموالين للنظام أصلاً.
ويتبين اليوم أنّ اعتماد صالح على الأقارب في الجيش والأجهزة الأمنيّة لم يكن بالضّرورة عامل ثبات واستقرار له. فأخطرُ تهديد له يأتيه اليوم من اللواء علي محسن الأحمر، الذي وصفته وثيقة دبلوماسية أميركية في 2005 سرّبها موقع «ويكيليكس»، بأنّه الرّجل الأقوى في البلاد بعد صالح(1)، وكان سبب ذلك الصّراع الرّئيس هو التّوريث، كما ذكرنا.
يجري التمهيد لخطّة التّوريث منذ ما يقارب العشر سنوات. وفي سبيل ذلك، كانت تقوية الحرس الجمهوري الذي يرأسه أحمد، فقد تخصّصت هذه القوّة في مكافحة الإرهاب في اليمن، واستأثرت بغالبيّة المساعدات المالية الأميركية، التي نمت من 5 ملايين دولار في 2006 إلى 155 مليون دولار في 2010.
فيما اقترحت وزارة الدفاع الأميركية في 2010 تقديم دعم بـ1.2 مليار دولار، تنفق على مدى خمس سنوات، لدعم جهود ما يسمّى مكافحة الإرهاب، وجرى العمل على تقديم تدريبات أميركية لها، في كنف السرّية، نتيجة السّخط الذي أثاره النّشاط الأميركي العسكري في المنطقة، مثل الهجمات الأميركية الجوية التي ضربت مناطق داخل اليمن في ديسمبر 2009. كذلك تتبنى قبائل وقيادات عسكرية موقفاً سلبياً من قوّة وحدات الحرس الجمهوري، لأنّها استُخدمتْ لصالح نفوذ ابن الرئيس، وأضعفت نفوذهم.
ورغم التدريبات الأميركية ومستوى الإنفاق المرتفع، أخذت بوادر ضعف الجيش اليمني تتبدّى. ويتّضح ذلك في حروب صعدة التي أنهكت الجيش (والتي اتُّهم ابن الرئيس أحمد بأنّه السبب في إطالتها بغرض إضعاف الجيش)، وعدم القدرة على حلّ النزاعات في مناطق اضطراب قبليّة، بالإضافة إلى تنامي وجود تنظيم القاعدة في اليمن، في السنوات الأخيرة. إذ وصل الأمر إلى ظهور علني لهذا التنظيم، في بعض المحافل في اليمن. وقد استخدمت هذه الصّراعات لضمان الدعم الأميركي لعلي عبد الله صالح، خوفاً من البديل، وهو سلفي جهادي في بعض المناطق، كما بدا للعيان في حينه.
وكانت معسكرات قد استسلمت بكاملها، في حروب صعدة، في مران ورازح وحرف سفيان، وسلمت كلّ ما فيها من أسلحة وعتاد لجماعة الحوثي، وسبب ذلك، كما يقول مئات من الجنود الأسرى لدى الجماعة، هو انقطاع المؤن عنهم، أسابيعَ، دون مبرّر. كذلك اتهم جنود آخرون سلاح الطّيران الذي يقوده الأخ غير الشّقيق للرّئيس اليمني، بقصفهم أحياناً أو عدم فكّ الحصار عنهم، في أكثر من مناسبة، في حرب صعدة الأخيرة.
بالإضافة إلى ذلك، كان صالح قد تدخّل في هيكليّة الجيش في السّنوات الأخيرة. فبعدما عيّن ابنه أحمد في قيادة الحرس الجمهوري بعد إزاحة أخيه غير الشّقيق علي صالح الأحمر، أجرى صالح «غربلة» في قيادات الجيش، تمهيداً لتوريث ابنه، فأبعد قيادات من المقرّبين من علي محسن الأحمر، وعيّن آخرين مقرّبين من ابنه أحمد. وأنشأ صالح فرقة المشاة الجبلية المدرّعة لتنافس الفرقة المدرعة الأولى التي يقودها علي محسن الأحمر.
ويبدو أنّ الخلاف بين الرّئيس صالح وعلي محسن كان قد وصل إلى درجة بالغة الخطورة، فقد كشفت وثائق «ويكيليكس» أنّ السّلطات اليمنية في حرب صعدة السّادسة، قدّمت معلومات مضلّلة لسلاح الجوّ السعودي، كاد على إثرها أن يقصف مقراً يوجد فيه اللواء علي محسن الأحمر، وهو ما أكّد أنّ صنعاء ترغب في التخلّص منه.
أبرزت الثورة حالة الشّقاق في الجيش المتمثّلة في مناوشات في حضرموت، حصلت أخيراً بين قطاع من الجيش موال لعلي بن محسن وقطاع من الحرس الجمهوري الموالي للرّئيس. وينذر تصلّب الرئيس والطبقة السياسيّة المحيطة، وتكتّل المعارضة في المقابل، بصدامات وانقسامات تحدث على مستوى واسع في البلد، إذا لم يستنتج الرّئيس ضرورة الاستقالة أمام التحرّك الشّعبي السّلمي. إنّ الرئيس هو الذي يقرّر النّقل السّلمي للسّلطة أو قيادة البلد إلى مغامرة عنيفة قبْل الرّحيل.
يمكن أن نضيف إلى ذلك خطر القبائل المسلّحة، فالوضع الملتهب أخيراً في اليمن شجّعها على التدخّل، كما حدث في 23 آذار/ مارس، حين طردت قبائل محافظة الجوف قوّات من الحرس الجمهوري في المحافظة، بعد معركة قصيرة بين الطّرفين. وكان ذلك رداً من القبائل على مشاهد القتل المروّعة التي تعرّض لها المعتصمون. كذلك حصل أخيراً تصعيدٌ خطير، يتمثّل في سيطرة مسلّحين على مدينة جعار ومناطقَ أخرى في محافظة أبين جنوب البلاد. ولا يزال الثوّار وطابع ثورتهم عوامل التهدئة الرّئيسة في البلد.
يتخوّف بعض شباب الثورة من أنّ انحياز علي محسن لها سوف يمسّ بمدنيّتها، ويؤدّي إلى اختطافها من العسكريّين. وذلك، عدا كون محسن أحد رموز المرحلة السّابقة. لكن حالة اليمن التي لا يطرح فيها الشّباب نظاماً ليحلّ محلّ نظام بقوّة الثّورة، كما في روسيا البلشفية أو الثورة الإيرانية، ويصعب توقّع انحياز الجيش بكامله لهم بسبب العصبيّات العائليّة التي تربط بعض قياداته بالرّئيس، فإنّ الحلّ الوحيد لحماية الثّورة من عنف الجيش والأجهزة الموالية هو انضمام جزء من الجيش إليها. ومن انضمّ وأعلن ولاءه للثورة هو فعلاً جزءٌ كبير من الجيش. والمطلوب هو تغلغل قيم الثّورة الدّيموقراطية في صفوفه، والتّفاهم مع قيادته على قواعد التّعاون.
وهنالك مخاوف أخرى بالنسبة إلى طبيعة تحرك الجيش، بعد انقسامه تجاه التحدّيات الماثلة في السّاحة اليمنية، وهي خطر الانفصال في الجنوب، وتنظيم القاعدة المسلّح، والتمرّد في صعدة. ولا تزال المعارك بين الجيش والحوثيّين، تتجدّد، حتى اللّحظة، بالإضافة إلى المناوشات بين القطاعات المسلّحة التي تتّخذ وضعاً كمونياً الآن، إلى الاحتجاجات القبلية المسلّحة. ويبدو لنا، أنّ هذه الصّراعات مؤجّلة إلى ما بعد رحيل علي صالح، إلّا إذا افتعل نظامه بعضها.
أمّا بعد الرّحيل، فإنّ هذه الصّراعات سترتبط بالتفاهمات التي سيُتّفق عليها في المرحلة الانتقاليّة. ولا نبالغ في القول إنّ حلّها سوف يمثّل أوّل التحدّيات وأهمّها أمام النّظام الجديد، لأنّ التفاهم بشأنها هو شرط الاستقرار الذي سيساعد على التحوّل.
لم يقدّمْ ائتلاف شباب الثّورة رؤية واضحة لما يفترض أن تكون عليه الأمور إلى جانب مطلبهم الأساس، وهو رحيل صالح، كذلك فإنّ تعدّد الولاءات والانتماءات والقوى، في بلد يفتقر إلى التنظيم هو أمر يرشّح لأن يكون التّغيير المرتقب محفوفاً بالمخاطر. لكن البُشرى تكمن في ردّ فعل الشّباب الثوري الواعي والمدني تجاه الاستفزازات، وهم في بلد يملك شعبه الذي يعدّ 24 مليون نسمة، 60 مليون قطعة سلاح.
ولدى الجيش القدرة، حتى بعد انقسامه، على أداء دور واعٍ في التّعامل مع قضايا مركّبة ومتنوّعة في البلد. ولذا من الضّروري تنسيق خطوات كلّ من الشّباب والجيش حتى تتألف القوّةُ والنّهج، القادران على نقل الثّورة اليمنيّة إلى برّ الأمان.
هامش:
(1) http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast
2011/03/110327_yemen_saleh_interview.sht
*معهد الدوحة) / يديره الدكتور عزمي بشارة