فهمي هويدي
نعلم أن الخطوات التي تمت في العام المنقضي موصولة بالتمهيد لانتخابات الرئاسة
- من يصدق أن مصر التي وقفت إلى جانب حركات التحرير وساندتها هي ذاتها التي تحاصر قطاع غزة وتلاحق المقاومين
لأن أفق العام الجديد يبدو معتماً أكثر من سابقه، فلا أعرف ما اذا كان لايزال لدينا طاقة لاحتمال مزيد من الشدائد أم لا. حيث يبدو أننا نسيج مختلف عن غيرنا. ممن تنفرج أحوالهم حين تبلغ بهم الشدائد مبلغها.
أما في حالتنا فإنها تشتد علينا كل حين، لكننا نفاجأ بأنها تزداد شدة بعد ذلك.
الأمر الذي أشاع بيننا قدراً كبيراً من الخوف على المستقبل ومنه.
ليس على مصر وحدها ولكن على العالم العربي بأسره.
(1)
من كان يتصور مثلاً أن يتم «تقفيل» مصر في نهاية العام، وأن تجرى فيها انتخابات تشيع بيننا الفزع على الحاضر والمستقبل؟
من كان يتصور أن تنتقل مصر خلال خمسين عاماً من القومية الى القطرية، ومن الاشتراكية المنقوصة الى الرأسمالية المغشوشة، ومن الحزب الواحد الى التعددية الشكلية، الى الديموقراطية المزورة و«المضروبة»؟
من يصدق أن مصر التي وقفت يوماً ما الى جانب حركات التحرير في افريقيا حتى ساندتهم بالرجال والعتاد، هي ذاتها التي تحاصر قطاع غزة، وتلاحق المقاومين وتلقي بهم في غياهب سجونها ومعتقلاتها.
إن رسالة الانتخابات التشريعية الى التيارات والقوى الداعية الى الإصلاح والتعبير في مصر تتلخص في الآتي: ان أفق المشاركة في العمل العام مسدود.
إذ طالما خرجت من بيت الطاعة ولم تنسق مع السلطة فليس مسموحاً لها بأن تنجح في الانتخابات التشريعية، أو ان تنشط في النقابات المهنية، أو أن توجد في الاتحادات الطلابية أو أن تشارك في منظمات المجتمع المدني.
وليس أمامها سوى أحد حلين: إما ان تقدم على الانتحار وتخرج من الساحة تماماً، أو ان تنخرط في العمل السري بكل شروره ومخاطره.
في ظل التقفيل يتراجع دور الجماهير وحضورها.
ويصبح الحضور حكراً على الأجهزة الأمنية وحدها، لأن أي نظام حينما لا يتكئ على قاعدته الشعبية، فإن البديل الوحيد الذي يمكن أن يعول عليه هو أجهزته الأمنية، الأمر الذي يسهم في قتامة الصورة.
فصّلت من قبل في أصداء عواقب سياسة «تقفيل مصر» التي تبلورت ودخلت حيز التنفيذ على أرض الواقع في نهايات العام الحالي.
وكان ظننا أن التعديلات الدستورية التي تمت في سنة 2007 استهدفت تقفيل مستويات معينة من مراتب السلطة العليا لصالح استمرار القيادة الحالية للنظام، لكننا اكتشفنا بعد ذلك أن دائرة التقفيل أوسع بكثير مما ظننا بحيث أدت من الناحية العملية الى «تأميم» السياسة والإعلام والجامعات والقضاء وإلحاقها بالسلطة بصورة أو أخرى.
من حقنا أن نتساءل في ضوء خبرتنا بما جرى أثناء الانتخابات التشريعية، عما يمكن أن يحدث في العام المقبل عندما يحل موعد الانتخابات الرئاسية في ربعه الأخير. خصوصاً أننا نعلم ان الخطوات التي تمت في العام المنقضي موصولة بالتمهيد لتلك الانتخابات.
(2)
من المفارقات أن هذه الصورة التي أصبحت عليها مصر في الداخل تشكلت في ظل شعار «مصر أولاً»، الذي فهم بحسبانه عنواناً لإصلاح البيت من الداخل، والنهوض به.
لكن التجربة أثبتت أنه كان دعوة للانسحاب من الخارج وتكريساً للعزلة التي ترتبت على توقع اتفاقيات كامب ديفيد، آية ذلك أن مصر حين لم تحقق الإصلاح المأمول في الداخل، فإنها خارجياً انخرطت فيما سمي بمعسكر الاعتدال، وهو مربع الموالاة للأمريكيين والإسرائيليين، وهذا الانخراط أسهم مع عوامل أخرى في تسليم ملف القضية الفلسطينية للولايات المتحدة، التي وظفته لصالح الاحتلال الإسرائيلي، ولم يعد لمصر دور في القضية الفلسطينية الى جانب حصار غزة سوى ممارسة الضغط على حركة حماس والجهاد الإسلامي للتوقيع على ورقة المصالحة مع فتح المرفوضة من جانب الحركتين.
في الوقت ذاته اصطفت مصر الى جانب المعادين لإيران والمخاصمين لسورية والمنحازين الى حركة 14 آذار في لبنان. وهو الانحياز الذي فتح الباب لتسريب شائعات عديدة حول الدعم الذي تقدمه مصر لتيار الحريري وجماعته (الأقرب الى محور الاعتدال).
على صعيد آخر فليس واضحاً حجم اسهام تراجع السياسة الخارجية المصرية في الأزمة التي أثيرت بشأن مياه النيل والدعوة التي انطلقت لإعادة النظر في حصص الدول المطلة عليه. ولكن الحاصل أن تلك الأزمة تفاقمت، الى الحد الذي أدى الى توتير علاقة مصر بدول المنبع، وادعاء رئيس الوزراء الاثيوبي أن مصر تلوح بفكرة الحرب في تعاملها مع ملف مياه النيل.
اتصالاً بهذه النقطة فإن عدداً غير قليل من المثقفين السودانيين يحمِّلون مصر قسطاً عن المسؤولية عن التدهور الذي حدث في علاقة الشمال بالجنوب، الأمر الذي يقدر البعض انه سيفضي الى انفصال الجنوب واستقلاله بعد الاستفتاء المزمع إجراؤه في التاسع من شهر يناير المقبل، واذا ما تحقق ذلك فإن مصر ستكون ضمن أكثر المتضررين، لسببين أولهما ان جنوب السودان المستقل سيكون بمثابة دولة جديدة يفترض أن تطالب بحقوقها في مياه النيل، وثانيهما ان الجنوب سيتحول الى قاعدة عسكرية إسرائيلية وأمريكية، وهذه تستهدف مصر قبل السودان بطبيعة الحال.
(3)
إذا تلفتنا حولنا في العالم العربي فسنجد ما يلي:
< السودان مهدد بانقسام وشيك يؤدي الى استقلال الجنوب، ويفتح الباب لاحتمالات تمزق البلد، خصوصاً ان قادة التمرد في دارفور أصبحوا يطالبون بحكم ذاتي ينتهي باستقلالهم.
< فلسطين تصفى فيها القضية بالتدريج، في ظل الصمت العربي والتقاعس الفلسطيني. الذي لا يخلو من تواطؤ من جانب البعض فقد فشلت كل المفاوضات التي أجريت بين الطرفين، وعجزت الولايات المتحدة عن تجميد الاستيطان، وأعلنت عن تراجعها عن الوعود التي سبق أن أطلقها الرئيس أوباما بهذا الخصوص، وهناك كلام عن تشجيع الرئيس الأمريكي لفكرة إغلاق ملف القضية في العام الجديد، أملاً في ان يؤدي ذلك الى زيادة شعبيته بين اليهود وحلفائهم، مما يمكنه من التجديد لمدة ثانية.
< العراق على كف عفريت كما يقال. فبعد تدمير البلد، لوح الأكراد بالانفصال استنادا إلى حق تقرير المصير، وهو ما شجع أهل السنة في البصرة على المطالبة بالحكم الذاتي أيضاً، لإقتناعهم بأن لهم حقا ثروة النفط في اقليمهم.
< ان لعنة التصدع والانفصال تضرب اليمن بقوة. ذلك ان الحكومة المركزية تحارب على جبهتين. الحوثيون في الشمال والحراك الجنوبي في الجنوب. ذلك الى جانب العناصر التي تنسب نفسها الى تنظيم القاعدة. وهي اشتباكات تجعل الوضع الداخلي هشا بدرجة تهدد بتمزق الوطن وتشرذمه.
< لبنان أيضاً يغلي ويوشك على الانفجار طول الوقت. وعملياً فالبلد منقسم الآن بشدة بين السنة والشيعة من ناحية، وبين تياري 14 و8 آذار من ناحية ثانية. ويشكل موضوع المحكمة الدولية عنصر تفجير قويا في الوقت الراهن، جراء اقتناع قيادة حزب الله بأن رأس الحزب مطلوب في هذه القضية، من خلال توريطه في جريمة القتل.
< التوتر قائم بين المغرب والجزائر، وموضوع الصحراء يزداد تعقيدا، لدرجة ان الصحف المغربية بدأت الحديث عن احتمالات حرب بين البلدين وقضية الأمازيغ أو البربر تمثل لغما موقوتا في البلدين قابلاً للانفجار في أي لحظة.
< الصومال العضو المنسي في الجامعة العربية أصبح حالة قصوى للدولة الفاشلة أو اللادولة.
هذا التشرذم لم يقف أثره عند حدود اضعاف وزن الأمة وغياب دورها، وانما ترتبت عليه ثلاث نتائج مهمة.
الأولى أنه حول الأمة العربية الى جسد بلا رأس وأحيانا بلا عقل.
الثانية أنه أدى الى انهيار النظام العربي، واعتماد أغلب الدول العربية على القوى الخارجية، الأمر الذي يعني أن الانتداب والوصاية اللذين فرضا على العرب بعد الحرب العالمية الأولى، وتخلصوا منهما بعد ذلك عادا مرة أخرى في الألفية الثانية برغبة وطلب عربيين.
أما النتيجة الثالثة فهي ان الفراغ المخيم على المنطقة استدعى ثلاث دول غير عربية لكي تنزل الى الساحة وتسعى للعب أدوار مختلفة فيها. وهذه الدول هي: إسرائيل وإيران وتركيا.
(4)
من مفارقات الأقدار أنه حين يخرج العرب من عام 2010 مشتتين، ومعولين على «الوصي» الأمريكي كسند حينا، وكحارس في أحيان أخرى، فإن ذلك «الوصي» يتأهب في العام الجديد لرفع يده عن الكثير من الملفات التي تورط فيها.
وليس ذلك مجرد استنتاج لأن المعلومات التي خرجت من واشنطن خلال شهر ديسمبر الحالي بوجه أخص تشير الى ان السياسة الخارجية الأمريكية بصدد التغير في منطقة الشرق الأوسط. وهناك أسباب عدة لذلك على رأسها الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان. والانتكاسة التي منيت بها سياسة الولايات المتحدة في الموضوع الفلسطيني.
تشير تلك المعلومات أيضاً الى ان الولايات المتحدة بصدد التفاهم مع إيران وحل المشاكل العالقة بينهما، وأن الاجتماع الذي تم خلال الشهر الحالي بين الجانبين في جنيف كان مخصصا لهذا الموضوع. ولم يبحث فيه موضوع الملف النووي، الذي نوقش في اجتماعات اسطنبول.
في هذا السياق سمعت من مصدر سوري التقى في واشنطن أخيراً مستشار الأمن القومي الأسبق بريجنسكي الذي ينشط ضمن الفريق الذي يتعامل مع ملف الشرق الأوسط ان واشنطن أصبحت تستبعد فكرة الحرب على إيران، وأنها حذرت حكومة تل أبيب من الإقدام من جانبها على هذه الخطوة (استبعاد الحرب لا يلغي احتمال توجيه ضربات إسرائيلية مفاجئة الى أهداف إيرانية، وأن أضعفها بدورها).
وبلغني من مصدر آخر أن السيد جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي قال في اجتماع لعدد من الخبراء والدبلوماسيين الأمريكيين ان إيران ليست عدوا لواشنطن، ولكنها فقط على خلاف شديد معها. وأن الإدارة الأمريكية أدركت ان لها مصلحة أكيدة في التفاهم مع طهران، مشيراً الى ان القيادة الشيعية أقدر على ضبط سلوك المتطرفين الشيعة، في حين ان الأنظمة السنية عجزت عن ذلك.
معلوماتي أن هذه الرسالة وصلت الى قيادات المنطقة. وأن تحركات كويتية أخيرة على صلة بها، وأن زيارة أمير قطر الى طهران قبل أسبوعين كانت في السياق ذاته. وأن الرسائل التي تم تبادلها بين طهران والعاصمة الأردنية عمان لم تكن بعيدة عن هذه الخلفية.
رغم أنه ليس هناك آخر كلام في السياسة، وأن حسابات المصالح يمكن ان تغير القرار السياسي في أي لحظة، فإن هذه المعلومات اذا صحت فإنها تعني ان العام الجديد سيكون مسكونا بمفاجآت كثيرة قد تؤدي الى مضاعفة الأحزان في العالم العربي، وزيادة الاستعلاء الإسرائيلي، الذي أخشى ان يكون الرابح في كل ما يجري، ليس لقوة فيه ولكن لوهن وانكسار الأنظمة العربية.
إذا كفكفت الدمع وسألتني عن مكان الأمل في تلك العتمة الموحشة، فردي أن أملنا الوحيد أولا في عفو الله أكثر من عدله، وثانياً في أجيال شبابنا التي لم تنكسر ولم تتلوث.
شباب من جنسنا ولكنهم ليسوا مثلنا.
نعلم أن الخطوات التي تمت في العام المنقضي موصولة بالتمهيد لانتخابات الرئاسة
- من يصدق أن مصر التي وقفت إلى جانب حركات التحرير وساندتها هي ذاتها التي تحاصر قطاع غزة وتلاحق المقاومين
لأن أفق العام الجديد يبدو معتماً أكثر من سابقه، فلا أعرف ما اذا كان لايزال لدينا طاقة لاحتمال مزيد من الشدائد أم لا. حيث يبدو أننا نسيج مختلف عن غيرنا. ممن تنفرج أحوالهم حين تبلغ بهم الشدائد مبلغها.
أما في حالتنا فإنها تشتد علينا كل حين، لكننا نفاجأ بأنها تزداد شدة بعد ذلك.
الأمر الذي أشاع بيننا قدراً كبيراً من الخوف على المستقبل ومنه.
ليس على مصر وحدها ولكن على العالم العربي بأسره.
(1)
من كان يتصور مثلاً أن يتم «تقفيل» مصر في نهاية العام، وأن تجرى فيها انتخابات تشيع بيننا الفزع على الحاضر والمستقبل؟
من كان يتصور أن تنتقل مصر خلال خمسين عاماً من القومية الى القطرية، ومن الاشتراكية المنقوصة الى الرأسمالية المغشوشة، ومن الحزب الواحد الى التعددية الشكلية، الى الديموقراطية المزورة و«المضروبة»؟
من يصدق أن مصر التي وقفت يوماً ما الى جانب حركات التحرير في افريقيا حتى ساندتهم بالرجال والعتاد، هي ذاتها التي تحاصر قطاع غزة، وتلاحق المقاومين وتلقي بهم في غياهب سجونها ومعتقلاتها.
إن رسالة الانتخابات التشريعية الى التيارات والقوى الداعية الى الإصلاح والتعبير في مصر تتلخص في الآتي: ان أفق المشاركة في العمل العام مسدود.
إذ طالما خرجت من بيت الطاعة ولم تنسق مع السلطة فليس مسموحاً لها بأن تنجح في الانتخابات التشريعية، أو ان تنشط في النقابات المهنية، أو أن توجد في الاتحادات الطلابية أو أن تشارك في منظمات المجتمع المدني.
وليس أمامها سوى أحد حلين: إما ان تقدم على الانتحار وتخرج من الساحة تماماً، أو ان تنخرط في العمل السري بكل شروره ومخاطره.
في ظل التقفيل يتراجع دور الجماهير وحضورها.
ويصبح الحضور حكراً على الأجهزة الأمنية وحدها، لأن أي نظام حينما لا يتكئ على قاعدته الشعبية، فإن البديل الوحيد الذي يمكن أن يعول عليه هو أجهزته الأمنية، الأمر الذي يسهم في قتامة الصورة.
فصّلت من قبل في أصداء عواقب سياسة «تقفيل مصر» التي تبلورت ودخلت حيز التنفيذ على أرض الواقع في نهايات العام الحالي.
وكان ظننا أن التعديلات الدستورية التي تمت في سنة 2007 استهدفت تقفيل مستويات معينة من مراتب السلطة العليا لصالح استمرار القيادة الحالية للنظام، لكننا اكتشفنا بعد ذلك أن دائرة التقفيل أوسع بكثير مما ظننا بحيث أدت من الناحية العملية الى «تأميم» السياسة والإعلام والجامعات والقضاء وإلحاقها بالسلطة بصورة أو أخرى.
من حقنا أن نتساءل في ضوء خبرتنا بما جرى أثناء الانتخابات التشريعية، عما يمكن أن يحدث في العام المقبل عندما يحل موعد الانتخابات الرئاسية في ربعه الأخير. خصوصاً أننا نعلم ان الخطوات التي تمت في العام المنقضي موصولة بالتمهيد لتلك الانتخابات.
(2)
من المفارقات أن هذه الصورة التي أصبحت عليها مصر في الداخل تشكلت في ظل شعار «مصر أولاً»، الذي فهم بحسبانه عنواناً لإصلاح البيت من الداخل، والنهوض به.
لكن التجربة أثبتت أنه كان دعوة للانسحاب من الخارج وتكريساً للعزلة التي ترتبت على توقع اتفاقيات كامب ديفيد، آية ذلك أن مصر حين لم تحقق الإصلاح المأمول في الداخل، فإنها خارجياً انخرطت فيما سمي بمعسكر الاعتدال، وهو مربع الموالاة للأمريكيين والإسرائيليين، وهذا الانخراط أسهم مع عوامل أخرى في تسليم ملف القضية الفلسطينية للولايات المتحدة، التي وظفته لصالح الاحتلال الإسرائيلي، ولم يعد لمصر دور في القضية الفلسطينية الى جانب حصار غزة سوى ممارسة الضغط على حركة حماس والجهاد الإسلامي للتوقيع على ورقة المصالحة مع فتح المرفوضة من جانب الحركتين.
في الوقت ذاته اصطفت مصر الى جانب المعادين لإيران والمخاصمين لسورية والمنحازين الى حركة 14 آذار في لبنان. وهو الانحياز الذي فتح الباب لتسريب شائعات عديدة حول الدعم الذي تقدمه مصر لتيار الحريري وجماعته (الأقرب الى محور الاعتدال).
على صعيد آخر فليس واضحاً حجم اسهام تراجع السياسة الخارجية المصرية في الأزمة التي أثيرت بشأن مياه النيل والدعوة التي انطلقت لإعادة النظر في حصص الدول المطلة عليه. ولكن الحاصل أن تلك الأزمة تفاقمت، الى الحد الذي أدى الى توتير علاقة مصر بدول المنبع، وادعاء رئيس الوزراء الاثيوبي أن مصر تلوح بفكرة الحرب في تعاملها مع ملف مياه النيل.
اتصالاً بهذه النقطة فإن عدداً غير قليل من المثقفين السودانيين يحمِّلون مصر قسطاً عن المسؤولية عن التدهور الذي حدث في علاقة الشمال بالجنوب، الأمر الذي يقدر البعض انه سيفضي الى انفصال الجنوب واستقلاله بعد الاستفتاء المزمع إجراؤه في التاسع من شهر يناير المقبل، واذا ما تحقق ذلك فإن مصر ستكون ضمن أكثر المتضررين، لسببين أولهما ان جنوب السودان المستقل سيكون بمثابة دولة جديدة يفترض أن تطالب بحقوقها في مياه النيل، وثانيهما ان الجنوب سيتحول الى قاعدة عسكرية إسرائيلية وأمريكية، وهذه تستهدف مصر قبل السودان بطبيعة الحال.
(3)
إذا تلفتنا حولنا في العالم العربي فسنجد ما يلي:
< السودان مهدد بانقسام وشيك يؤدي الى استقلال الجنوب، ويفتح الباب لاحتمالات تمزق البلد، خصوصاً ان قادة التمرد في دارفور أصبحوا يطالبون بحكم ذاتي ينتهي باستقلالهم.
< فلسطين تصفى فيها القضية بالتدريج، في ظل الصمت العربي والتقاعس الفلسطيني. الذي لا يخلو من تواطؤ من جانب البعض فقد فشلت كل المفاوضات التي أجريت بين الطرفين، وعجزت الولايات المتحدة عن تجميد الاستيطان، وأعلنت عن تراجعها عن الوعود التي سبق أن أطلقها الرئيس أوباما بهذا الخصوص، وهناك كلام عن تشجيع الرئيس الأمريكي لفكرة إغلاق ملف القضية في العام الجديد، أملاً في ان يؤدي ذلك الى زيادة شعبيته بين اليهود وحلفائهم، مما يمكنه من التجديد لمدة ثانية.
< العراق على كف عفريت كما يقال. فبعد تدمير البلد، لوح الأكراد بالانفصال استنادا إلى حق تقرير المصير، وهو ما شجع أهل السنة في البصرة على المطالبة بالحكم الذاتي أيضاً، لإقتناعهم بأن لهم حقا ثروة النفط في اقليمهم.
< ان لعنة التصدع والانفصال تضرب اليمن بقوة. ذلك ان الحكومة المركزية تحارب على جبهتين. الحوثيون في الشمال والحراك الجنوبي في الجنوب. ذلك الى جانب العناصر التي تنسب نفسها الى تنظيم القاعدة. وهي اشتباكات تجعل الوضع الداخلي هشا بدرجة تهدد بتمزق الوطن وتشرذمه.
< لبنان أيضاً يغلي ويوشك على الانفجار طول الوقت. وعملياً فالبلد منقسم الآن بشدة بين السنة والشيعة من ناحية، وبين تياري 14 و8 آذار من ناحية ثانية. ويشكل موضوع المحكمة الدولية عنصر تفجير قويا في الوقت الراهن، جراء اقتناع قيادة حزب الله بأن رأس الحزب مطلوب في هذه القضية، من خلال توريطه في جريمة القتل.
< التوتر قائم بين المغرب والجزائر، وموضوع الصحراء يزداد تعقيدا، لدرجة ان الصحف المغربية بدأت الحديث عن احتمالات حرب بين البلدين وقضية الأمازيغ أو البربر تمثل لغما موقوتا في البلدين قابلاً للانفجار في أي لحظة.
< الصومال العضو المنسي في الجامعة العربية أصبح حالة قصوى للدولة الفاشلة أو اللادولة.
هذا التشرذم لم يقف أثره عند حدود اضعاف وزن الأمة وغياب دورها، وانما ترتبت عليه ثلاث نتائج مهمة.
الأولى أنه حول الأمة العربية الى جسد بلا رأس وأحيانا بلا عقل.
الثانية أنه أدى الى انهيار النظام العربي، واعتماد أغلب الدول العربية على القوى الخارجية، الأمر الذي يعني أن الانتداب والوصاية اللذين فرضا على العرب بعد الحرب العالمية الأولى، وتخلصوا منهما بعد ذلك عادا مرة أخرى في الألفية الثانية برغبة وطلب عربيين.
أما النتيجة الثالثة فهي ان الفراغ المخيم على المنطقة استدعى ثلاث دول غير عربية لكي تنزل الى الساحة وتسعى للعب أدوار مختلفة فيها. وهذه الدول هي: إسرائيل وإيران وتركيا.
(4)
من مفارقات الأقدار أنه حين يخرج العرب من عام 2010 مشتتين، ومعولين على «الوصي» الأمريكي كسند حينا، وكحارس في أحيان أخرى، فإن ذلك «الوصي» يتأهب في العام الجديد لرفع يده عن الكثير من الملفات التي تورط فيها.
وليس ذلك مجرد استنتاج لأن المعلومات التي خرجت من واشنطن خلال شهر ديسمبر الحالي بوجه أخص تشير الى ان السياسة الخارجية الأمريكية بصدد التغير في منطقة الشرق الأوسط. وهناك أسباب عدة لذلك على رأسها الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان. والانتكاسة التي منيت بها سياسة الولايات المتحدة في الموضوع الفلسطيني.
تشير تلك المعلومات أيضاً الى ان الولايات المتحدة بصدد التفاهم مع إيران وحل المشاكل العالقة بينهما، وأن الاجتماع الذي تم خلال الشهر الحالي بين الجانبين في جنيف كان مخصصا لهذا الموضوع. ولم يبحث فيه موضوع الملف النووي، الذي نوقش في اجتماعات اسطنبول.
في هذا السياق سمعت من مصدر سوري التقى في واشنطن أخيراً مستشار الأمن القومي الأسبق بريجنسكي الذي ينشط ضمن الفريق الذي يتعامل مع ملف الشرق الأوسط ان واشنطن أصبحت تستبعد فكرة الحرب على إيران، وأنها حذرت حكومة تل أبيب من الإقدام من جانبها على هذه الخطوة (استبعاد الحرب لا يلغي احتمال توجيه ضربات إسرائيلية مفاجئة الى أهداف إيرانية، وأن أضعفها بدورها).
وبلغني من مصدر آخر أن السيد جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي قال في اجتماع لعدد من الخبراء والدبلوماسيين الأمريكيين ان إيران ليست عدوا لواشنطن، ولكنها فقط على خلاف شديد معها. وأن الإدارة الأمريكية أدركت ان لها مصلحة أكيدة في التفاهم مع طهران، مشيراً الى ان القيادة الشيعية أقدر على ضبط سلوك المتطرفين الشيعة، في حين ان الأنظمة السنية عجزت عن ذلك.
معلوماتي أن هذه الرسالة وصلت الى قيادات المنطقة. وأن تحركات كويتية أخيرة على صلة بها، وأن زيارة أمير قطر الى طهران قبل أسبوعين كانت في السياق ذاته. وأن الرسائل التي تم تبادلها بين طهران والعاصمة الأردنية عمان لم تكن بعيدة عن هذه الخلفية.
رغم أنه ليس هناك آخر كلام في السياسة، وأن حسابات المصالح يمكن ان تغير القرار السياسي في أي لحظة، فإن هذه المعلومات اذا صحت فإنها تعني ان العام الجديد سيكون مسكونا بمفاجآت كثيرة قد تؤدي الى مضاعفة الأحزان في العالم العربي، وزيادة الاستعلاء الإسرائيلي، الذي أخشى ان يكون الرابح في كل ما يجري، ليس لقوة فيه ولكن لوهن وانكسار الأنظمة العربية.
إذا كفكفت الدمع وسألتني عن مكان الأمل في تلك العتمة الموحشة، فردي أن أملنا الوحيد أولا في عفو الله أكثر من عدله، وثانياً في أجيال شبابنا التي لم تنكسر ولم تتلوث.
شباب من جنسنا ولكنهم ليسوا مثلنا.