17 ديسمبر 2010
د. الشريف حاتم بن عارف العوني
هذا العنوان هو عنوانٌ لكتاب مشهور في الساحة الإسلامية المعاصرة، ورحم الله مؤلفه، فقد كان عنوانُ كتابه هذا (الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه) مصدر وحي لكثير من المفكرين والمهتمين بالشأن الإسلامي. وهذا ما حصل لي غير مرّة، فقد تكرّر معي إيحاءُ هذا العنوان مرات كثيرة، منها ما حصل لي قبل أيام قلائل.
فقد كنت في تونس قبل أيام، والتقيتُ بعضَ الفضلاء من علماء جامعة الزيتونة، وكانت رحلةً علميةً وفكريةً ممتعةً ومفيدة.
وفي أثناء وجودي في مكتبة سحنون، وهي أهم مكتبة تجارية في العاصمة تونس، دار بيني وبين أحد الباحثين والمؤلفين من فضلاء تونس حواراً ممتعاً، تذكرته بعدما رجعت من تونس، تذكرته وأنا أقرأ وأتابع بعض الكتابات والنقاشات الفكرية والثقافية في صحفنا ووسائل إعلامنا المحلية.
لقد كان الحديث بيني وبين الباحث التونسي أولاً حول العلامة الكبير الطاهر بن عاشور (ت١٣٩٣هـ) وجهوده الإصلاحية الكبيرة في مجالي الدعوة والإصلاح الديني والعلمي في تونس، وهي تلكم الجهود المباركة التي أصبحت من أهم أزواد المصلحين في العالم الإسلامي كله. ومن ذلك: النقدُ الشديد واللاذع الذي وجّهه الطاهر بن عاشور لمناهج التعليم الديني في زمنه، وأنها باتت عقبةً كَأْداء أمام تحرير العقل من جمود التقليد، وتمنع من إنشاء أو تنمية مَلَكات التحليل والنقد والإبداع لدى طلبة العلم الشرعي وشُداته، مع أن هذه الملكات هي الأدوات الوحيدة للفقه الحقيقي للعالم الشرعي الذي يريد أن يكون عالمًا شرعيًّا حقيقيًّا.
نعم.. لقد حكى الطاهر بن عاشور معاناته الكبيرة في سبيل مواجهة ذلك القصور التعليمي للعلوم الشرعية، وأودعَ جزءًا كبيرًا من حديثه الإبداعي في ذلك كتابَه المهمَّ ذا العنوان الآسر المعبّر بعاطفية متفجرة عن الحقيقة المرّة التي كانت تتصف بها الحالة العلمية والدينية في تونس وعموم العالم الإسلامي حينها، إنه كتابه الذي سماه بــ(أليس الصبح بقريب ؟!).
ثم تطرق هذا الباحث الفاضل للحديث معي عن جامعة الزيتونة، وعن مرحلة إضعافها وإبعاد علمائها عن ساحة التأثير العامة وتجفيف مواردها المادية والمعنوية، وذلك في زمن الاستعمار الفرنسي، والذي ازداد بعد الاستعمار على يد الرئيس الحبيب بو رقيبة، وحدثني عن تلك الفترة، وما كان لها من أثر في زيادة إضعاف الجامعة العريقة التي كانت منارة نور وهداية قبل ذلك لقرون كثيرة.
وهنا أحببتُ أن أُذَكِّره بضرورة تقاسم المسؤولية تجاه مشكلاتنا، وأن نحدد أسبابها المتعدّدة، فلا نجعل الأسباب المتعدّدة لضعف العلوم الشرعية ومدارسها وتلكّؤ الإصلاح الديني سببًا واحدًا، ما دام أن لذلك أسبابًا متعدّدةً فعلاً، بغضِّ النظر عن اختلاف درجات تلك الأسباب في قوة التأثير؛ لأن تحديد الأسباب بدقّة أدعى لتجنّبها وأَولى في الحذر من إعادة تكرار الأخطاء نفسها مرةً أخرى، خاصةً الأسباب التي نكون نحن (حملةَ الشريعة) المسؤولين عنها، فإنه مهما كان تأثيرها (بزعمنا) ضئيلاً فهي أَولى ما يجب أن نبدأ بإصلاحه؛ لأننا نحن المسؤولون عنها أولاً وأخيراً، وإذا عجزنا نحن عن أن لا نكون سبباً (ولو سببًا ضئيلاً) في إقصاء الشريعة وإضعاف مدارسها، فغيرنا سيكون أعجز. فقلت لمحاوري الفاضل: أريد أن أسألك بصراحة، وأَودُّ أن يكون جوابك أصرح: هل كان غالب علماء الزيتونة في ذلك الزمن (زمن الاستعمار وما قبله والفترة الأُولى بعده) على الصورة التي كان يتمناها الطاهر بن عاشور في العلماء الشرعيين؟ هل كان الفكر الديني الرسمي والسائد هو الفكر التجديدي والأصيل للطاهر ابن عاشور؟ أم هو الفكر الذي كان الطاهر بن عاشور يحاربه وينتقده: وهو فكر الضمور الفكري؟
فأجاب محاوري الفاضل بكل صراحة ووضوح: للأسف! بل كان غالبهم على ضد ما كان ينادي به الطاهر بن عاشور!
فقلت له: فهل كان أولئك العلماء بهذا القصور الكبير قادرين على قيادة الأمة؟ أو أن يكونوا شركاءَ فاعلين في انتشالها من ضعفها وفي اقتراح الحلول القادرة على توجيهها التوجيه السليم للعِزّ والمجد الذي تصبو إليه؟ هل من كان عاجزًا عن التفقُّهِ الفقهَ الحقيقي في علمه الذي تخصص فيه، ومن كان لا يستطيع أن يخرج عن تكرار جهود المبدعين السابقين؛ لأنه أبعد ما يكون عن القدرة على الإبداع: هل سيكون أمثالُ هؤلاء الأشخاص قادرين على مواجهة تحدياتٍ كبرى كتحديات العالم الإسلامي التي واجهها وما زال يواجهها بعد سقوطه المريع في حضيض الجهل قبل الاستعمار وأثناءه وبعدَه؟
فأجاب محاوري الفاضل بكل صدق ووضوح وشفافية: بل كان معظمهم عاجزين عن الإصلاح الحقيقي، وكان صوت الطاهر بن عاشور صوتًا غريبًا بينهم.
فقلت له: ألا يكون هؤلاء العلماء الشرعيون بقصورهم الذي تحدث عنه الطاهر بن عاشور قد ساهموا في إقصاء الشريعة وفي زيادة إضعاف مؤسساتها ومدارسها؟ ألا يكونون سببًا في أن يتجاوزهم صاحبُ القرار السياسي إلى غيرهم؟ بل ألا يمكن أن يكونوا سببًا في بعض الأحيان في أن يسوء فيهم ظنُّ القائد السياسي، فيرى فيهم مظاهرَ التخلّف الفكري (والتي رآها فيهم الطاهر بن عاشور قبله)، فيكون أولئك الحاملون للشريعة سببًا في أن يسوء ظنُّ هذا القائد في الشريعة نفسها، فإن كان مفتونًا ظالماً فقد كانوا بقصورهم زيادةً في فتنته وظلمه، كما قيل في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)؟ مما يقوده إلى إقصاء الشريعة ومحاربة مؤسساتها العلمية والقضائية والتوجيهية، ولا شكَّ أنه ليس في هذا إعذارٌ كامل وتبرئة للقائد السياسي المسلم وابن المسلمين في أن يرتكب جرائم إقصاء الشريعة والإزراء بها، لكن المقصود بهذا التنبيهِ تحديدُ أثر القاصرين من حملة الشريعة في تعزيز مواقف ذلك القائد في الإقصاء أو الإزراء، ولو بطريق غير مباشر منهم وبغير قصد ولا شعور.
لقد أجابني ذلك الفاضل: بأنه يعترف بذلك، وبأنه يوافقني بأن قصور حملة الشريعة كان له أثر في ذلك الإضعاف المتعمّد وغير المتعمّد.
وبالطبع فالعاقل يدرك بداهةً أن القصور الذي كان يشكو منه الطاهر بن عاشور في غالب حملة العلم الشرعي في زمنه (إن صحّ) لا بد أن يكون له أثره السلبي الكبير في قدرتهم على مواجهة تحديات عصرهم، ولذلك فإن هذا الأمر البدهي لا يحتاج لإقرار أحدٍ واعترافه لكي نقرّ به نحن ونعترف بأثره السيئ.
غير أن الأمر الذي كنت أحتاجه للوصول إلى ذلك الجواب هو الاعتراف بوجود القصور والضعف في غالب حملة العلم الشرعي أصلاً. كنت أحتاج للنظرة الناقدة بكل موضوعية، والتي إنما مكّنني منها كلامُ الطاهر بن عاشور، بكل ثقل صاحب هذا الكلام المعروف في الشأن العلمي والديني والإصلاحي.
وهنا سألتُ نفسي عدة أسئلة:
- لو لم تنتقد شخصيةٌ علمية كبيرة كالطاهر بن عاشور مناهجَ التعليم ومدارسه في زمنه بتونس، كم سيكون عددُ القادرين اليوم على الاعتراف بوجود ذلك القصور لدى غالب علماء الزيتونة حينها؟! فضلاً عن الاعتراف بأثر قصورهم في زيادة إضعاف الزيتونة وإقصاء علمائها؟!
- ولو لم يصبح العلماء الذين انتقدهم ابن عاشور تاريخًا لا يُتعصّبُ لهم، ولا يُحامى عنهم بإنصافٍ وعدم إنصاف، هل كان من الممكن أن يتجرّأ كثيرون على تأييد الطاهر بن عاشور في نقده لهم؟! فلقد عاش الطاهر بن عاشور وحيدًا ومات وحيدًا، ولا استطاع في حياته أن يقنع المدارس التقليدية بتغيير واقعها المرير.
- بل لقد قلت في نفسي أيضًا: لربما لو لم نذكر (أنا ومحاوري) الجهودَ المحمودة لابن عاشور في النقد والتصحيح، ولو لم نمتدحها قُبيل تلك المحاكمة للسياسيين وبيان الأثر السيئ للقاصرين من حملة الشريعة على القرار السياسي وصاحبه في إقصائهم، والذي قد يصل إلى إقصاء كل ما يأتي من جهتهم خطأً كان أو صوابًا، لما أمكنني (أنا وهو) الخروجُ بذلك الإقرار الصعب! فلولا أننا قد ذكرنا ذلك الجهد الإصلاحي المتميز المبني على نقد الوضع الديني للمدرسة الدينية السائدة لما كان من السهل أن نصل لذلك الجواب والتقرير الذي يُلزم به الإنصاف، وتُوجبه الموضوعية.. ربما.
وهنا أعود وأؤكد أن القائد السياسي الذي يُقصي الشريعة هو المسؤول الأول والأخير، وهو من تولّى كِبرَ هذه الجريمة الشنيعة. لكن ذلك لا يُعفي غيره من المسؤولية أيضًا، ولو كان غيره ممن يظنون أنفسهم حملة الشريعة وحماتها، فظنهم وظن الناس فيهم شيء، والواقع ونتائج آرائهم وأفكارهم ومواقفهم شيءٌ آخر. فكلٌّ يتحمّلُ من وزر ذلك بقدر مشاركته فيه، وكلٌّ يستحقُّ من اللوم والعقوبة بقدر ذلك.
ولكني توقفتُ قليلاً بعد هذه المحادثة، لأسأل نفسي ثانية: هل نحن هكذا دائمًا: لا نحسن أن نحلّل واقعنا إلاّ بعد أن يصبح تاريخًا، وبعد أن ’’تقع الفاس في الراس’’!! ولا يمكن أن نكون موضوعيين ومنصفين إلاّ بعد أن نتحايل على أنفسنا بتقديم تقريرات وتأخير أخرى، لننتزع الموضوعية ونستخرج الإنصافَ من بين فكّي أسد الحمية العمياء ومن أعماقٍ مزعومة لقدسيةٍ ندّعيها لأشخاص أو لمناهج دراسية أو لأفكار!!
لقد كان الطاهر بن عاشور رمزًا إصلاحيًّا كبيرًا، ورمزًا علميًّا أكبر، ولكننا حتى اليوم ما زلنا لم نستفد من نظرته الإصلاحية، اللهم إلاّ في أن أضفنا كتابه الجليل والضخم في التفسير (التحرير والتنوير) ضمن قائمة مصادر تفسير القرآن، لتكون مصدرًا جديدا لسطحيتنا وبعدنا عن العمق في تعلم الشريعة؛ لأننا سوف نرجع إليه على طريقتنا في ضعف القدرة على التحليل والنقد!! ولعل الطاهر بن عاشور لو علم أن هذا ما سيكون عليه حال كتابه، لاكتفى بصرخات النذير وبالنقد والتحذير في كتابه (أليس الصبح بقريب)!
وعندما أتابع حوارنا الديني والثقافي اليوم أجد فيه تكرارًا لأخطاء الماضي: حقًّا لقد ساهم المسلمون في ضعف الإسلام، بعجز العلماء وجهل الأبناء!! وعندها أتساءل: هل الذي أوحى إليَّ بتلك الفكرة أو هذه: هو عنوان ذلك الكتاب حقًّا؟ أم هو الواقع الذي نعيشه؟!!
*الإسلام اليوم
د. الشريف حاتم بن عارف العوني
هذا العنوان هو عنوانٌ لكتاب مشهور في الساحة الإسلامية المعاصرة، ورحم الله مؤلفه، فقد كان عنوانُ كتابه هذا (الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه) مصدر وحي لكثير من المفكرين والمهتمين بالشأن الإسلامي. وهذا ما حصل لي غير مرّة، فقد تكرّر معي إيحاءُ هذا العنوان مرات كثيرة، منها ما حصل لي قبل أيام قلائل.
فقد كنت في تونس قبل أيام، والتقيتُ بعضَ الفضلاء من علماء جامعة الزيتونة، وكانت رحلةً علميةً وفكريةً ممتعةً ومفيدة.
وفي أثناء وجودي في مكتبة سحنون، وهي أهم مكتبة تجارية في العاصمة تونس، دار بيني وبين أحد الباحثين والمؤلفين من فضلاء تونس حواراً ممتعاً، تذكرته بعدما رجعت من تونس، تذكرته وأنا أقرأ وأتابع بعض الكتابات والنقاشات الفكرية والثقافية في صحفنا ووسائل إعلامنا المحلية.
لقد كان الحديث بيني وبين الباحث التونسي أولاً حول العلامة الكبير الطاهر بن عاشور (ت١٣٩٣هـ) وجهوده الإصلاحية الكبيرة في مجالي الدعوة والإصلاح الديني والعلمي في تونس، وهي تلكم الجهود المباركة التي أصبحت من أهم أزواد المصلحين في العالم الإسلامي كله. ومن ذلك: النقدُ الشديد واللاذع الذي وجّهه الطاهر بن عاشور لمناهج التعليم الديني في زمنه، وأنها باتت عقبةً كَأْداء أمام تحرير العقل من جمود التقليد، وتمنع من إنشاء أو تنمية مَلَكات التحليل والنقد والإبداع لدى طلبة العلم الشرعي وشُداته، مع أن هذه الملكات هي الأدوات الوحيدة للفقه الحقيقي للعالم الشرعي الذي يريد أن يكون عالمًا شرعيًّا حقيقيًّا.
نعم.. لقد حكى الطاهر بن عاشور معاناته الكبيرة في سبيل مواجهة ذلك القصور التعليمي للعلوم الشرعية، وأودعَ جزءًا كبيرًا من حديثه الإبداعي في ذلك كتابَه المهمَّ ذا العنوان الآسر المعبّر بعاطفية متفجرة عن الحقيقة المرّة التي كانت تتصف بها الحالة العلمية والدينية في تونس وعموم العالم الإسلامي حينها، إنه كتابه الذي سماه بــ(أليس الصبح بقريب ؟!).
ثم تطرق هذا الباحث الفاضل للحديث معي عن جامعة الزيتونة، وعن مرحلة إضعافها وإبعاد علمائها عن ساحة التأثير العامة وتجفيف مواردها المادية والمعنوية، وذلك في زمن الاستعمار الفرنسي، والذي ازداد بعد الاستعمار على يد الرئيس الحبيب بو رقيبة، وحدثني عن تلك الفترة، وما كان لها من أثر في زيادة إضعاف الجامعة العريقة التي كانت منارة نور وهداية قبل ذلك لقرون كثيرة.
وهنا أحببتُ أن أُذَكِّره بضرورة تقاسم المسؤولية تجاه مشكلاتنا، وأن نحدد أسبابها المتعدّدة، فلا نجعل الأسباب المتعدّدة لضعف العلوم الشرعية ومدارسها وتلكّؤ الإصلاح الديني سببًا واحدًا، ما دام أن لذلك أسبابًا متعدّدةً فعلاً، بغضِّ النظر عن اختلاف درجات تلك الأسباب في قوة التأثير؛ لأن تحديد الأسباب بدقّة أدعى لتجنّبها وأَولى في الحذر من إعادة تكرار الأخطاء نفسها مرةً أخرى، خاصةً الأسباب التي نكون نحن (حملةَ الشريعة) المسؤولين عنها، فإنه مهما كان تأثيرها (بزعمنا) ضئيلاً فهي أَولى ما يجب أن نبدأ بإصلاحه؛ لأننا نحن المسؤولون عنها أولاً وأخيراً، وإذا عجزنا نحن عن أن لا نكون سبباً (ولو سببًا ضئيلاً) في إقصاء الشريعة وإضعاف مدارسها، فغيرنا سيكون أعجز. فقلت لمحاوري الفاضل: أريد أن أسألك بصراحة، وأَودُّ أن يكون جوابك أصرح: هل كان غالب علماء الزيتونة في ذلك الزمن (زمن الاستعمار وما قبله والفترة الأُولى بعده) على الصورة التي كان يتمناها الطاهر بن عاشور في العلماء الشرعيين؟ هل كان الفكر الديني الرسمي والسائد هو الفكر التجديدي والأصيل للطاهر ابن عاشور؟ أم هو الفكر الذي كان الطاهر بن عاشور يحاربه وينتقده: وهو فكر الضمور الفكري؟
فأجاب محاوري الفاضل بكل صراحة ووضوح: للأسف! بل كان غالبهم على ضد ما كان ينادي به الطاهر بن عاشور!
فقلت له: فهل كان أولئك العلماء بهذا القصور الكبير قادرين على قيادة الأمة؟ أو أن يكونوا شركاءَ فاعلين في انتشالها من ضعفها وفي اقتراح الحلول القادرة على توجيهها التوجيه السليم للعِزّ والمجد الذي تصبو إليه؟ هل من كان عاجزًا عن التفقُّهِ الفقهَ الحقيقي في علمه الذي تخصص فيه، ومن كان لا يستطيع أن يخرج عن تكرار جهود المبدعين السابقين؛ لأنه أبعد ما يكون عن القدرة على الإبداع: هل سيكون أمثالُ هؤلاء الأشخاص قادرين على مواجهة تحدياتٍ كبرى كتحديات العالم الإسلامي التي واجهها وما زال يواجهها بعد سقوطه المريع في حضيض الجهل قبل الاستعمار وأثناءه وبعدَه؟
فأجاب محاوري الفاضل بكل صدق ووضوح وشفافية: بل كان معظمهم عاجزين عن الإصلاح الحقيقي، وكان صوت الطاهر بن عاشور صوتًا غريبًا بينهم.
فقلت له: ألا يكون هؤلاء العلماء الشرعيون بقصورهم الذي تحدث عنه الطاهر بن عاشور قد ساهموا في إقصاء الشريعة وفي زيادة إضعاف مؤسساتها ومدارسها؟ ألا يكونون سببًا في أن يتجاوزهم صاحبُ القرار السياسي إلى غيرهم؟ بل ألا يمكن أن يكونوا سببًا في بعض الأحيان في أن يسوء فيهم ظنُّ القائد السياسي، فيرى فيهم مظاهرَ التخلّف الفكري (والتي رآها فيهم الطاهر بن عاشور قبله)، فيكون أولئك الحاملون للشريعة سببًا في أن يسوء ظنُّ هذا القائد في الشريعة نفسها، فإن كان مفتونًا ظالماً فقد كانوا بقصورهم زيادةً في فتنته وظلمه، كما قيل في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)؟ مما يقوده إلى إقصاء الشريعة ومحاربة مؤسساتها العلمية والقضائية والتوجيهية، ولا شكَّ أنه ليس في هذا إعذارٌ كامل وتبرئة للقائد السياسي المسلم وابن المسلمين في أن يرتكب جرائم إقصاء الشريعة والإزراء بها، لكن المقصود بهذا التنبيهِ تحديدُ أثر القاصرين من حملة الشريعة في تعزيز مواقف ذلك القائد في الإقصاء أو الإزراء، ولو بطريق غير مباشر منهم وبغير قصد ولا شعور.
لقد أجابني ذلك الفاضل: بأنه يعترف بذلك، وبأنه يوافقني بأن قصور حملة الشريعة كان له أثر في ذلك الإضعاف المتعمّد وغير المتعمّد.
وبالطبع فالعاقل يدرك بداهةً أن القصور الذي كان يشكو منه الطاهر بن عاشور في غالب حملة العلم الشرعي في زمنه (إن صحّ) لا بد أن يكون له أثره السلبي الكبير في قدرتهم على مواجهة تحديات عصرهم، ولذلك فإن هذا الأمر البدهي لا يحتاج لإقرار أحدٍ واعترافه لكي نقرّ به نحن ونعترف بأثره السيئ.
غير أن الأمر الذي كنت أحتاجه للوصول إلى ذلك الجواب هو الاعتراف بوجود القصور والضعف في غالب حملة العلم الشرعي أصلاً. كنت أحتاج للنظرة الناقدة بكل موضوعية، والتي إنما مكّنني منها كلامُ الطاهر بن عاشور، بكل ثقل صاحب هذا الكلام المعروف في الشأن العلمي والديني والإصلاحي.
وهنا سألتُ نفسي عدة أسئلة:
- لو لم تنتقد شخصيةٌ علمية كبيرة كالطاهر بن عاشور مناهجَ التعليم ومدارسه في زمنه بتونس، كم سيكون عددُ القادرين اليوم على الاعتراف بوجود ذلك القصور لدى غالب علماء الزيتونة حينها؟! فضلاً عن الاعتراف بأثر قصورهم في زيادة إضعاف الزيتونة وإقصاء علمائها؟!
- ولو لم يصبح العلماء الذين انتقدهم ابن عاشور تاريخًا لا يُتعصّبُ لهم، ولا يُحامى عنهم بإنصافٍ وعدم إنصاف، هل كان من الممكن أن يتجرّأ كثيرون على تأييد الطاهر بن عاشور في نقده لهم؟! فلقد عاش الطاهر بن عاشور وحيدًا ومات وحيدًا، ولا استطاع في حياته أن يقنع المدارس التقليدية بتغيير واقعها المرير.
- بل لقد قلت في نفسي أيضًا: لربما لو لم نذكر (أنا ومحاوري) الجهودَ المحمودة لابن عاشور في النقد والتصحيح، ولو لم نمتدحها قُبيل تلك المحاكمة للسياسيين وبيان الأثر السيئ للقاصرين من حملة الشريعة على القرار السياسي وصاحبه في إقصائهم، والذي قد يصل إلى إقصاء كل ما يأتي من جهتهم خطأً كان أو صوابًا، لما أمكنني (أنا وهو) الخروجُ بذلك الإقرار الصعب! فلولا أننا قد ذكرنا ذلك الجهد الإصلاحي المتميز المبني على نقد الوضع الديني للمدرسة الدينية السائدة لما كان من السهل أن نصل لذلك الجواب والتقرير الذي يُلزم به الإنصاف، وتُوجبه الموضوعية.. ربما.
وهنا أعود وأؤكد أن القائد السياسي الذي يُقصي الشريعة هو المسؤول الأول والأخير، وهو من تولّى كِبرَ هذه الجريمة الشنيعة. لكن ذلك لا يُعفي غيره من المسؤولية أيضًا، ولو كان غيره ممن يظنون أنفسهم حملة الشريعة وحماتها، فظنهم وظن الناس فيهم شيء، والواقع ونتائج آرائهم وأفكارهم ومواقفهم شيءٌ آخر. فكلٌّ يتحمّلُ من وزر ذلك بقدر مشاركته فيه، وكلٌّ يستحقُّ من اللوم والعقوبة بقدر ذلك.
ولكني توقفتُ قليلاً بعد هذه المحادثة، لأسأل نفسي ثانية: هل نحن هكذا دائمًا: لا نحسن أن نحلّل واقعنا إلاّ بعد أن يصبح تاريخًا، وبعد أن ’’تقع الفاس في الراس’’!! ولا يمكن أن نكون موضوعيين ومنصفين إلاّ بعد أن نتحايل على أنفسنا بتقديم تقريرات وتأخير أخرى، لننتزع الموضوعية ونستخرج الإنصافَ من بين فكّي أسد الحمية العمياء ومن أعماقٍ مزعومة لقدسيةٍ ندّعيها لأشخاص أو لمناهج دراسية أو لأفكار!!
لقد كان الطاهر بن عاشور رمزًا إصلاحيًّا كبيرًا، ورمزًا علميًّا أكبر، ولكننا حتى اليوم ما زلنا لم نستفد من نظرته الإصلاحية، اللهم إلاّ في أن أضفنا كتابه الجليل والضخم في التفسير (التحرير والتنوير) ضمن قائمة مصادر تفسير القرآن، لتكون مصدرًا جديدا لسطحيتنا وبعدنا عن العمق في تعلم الشريعة؛ لأننا سوف نرجع إليه على طريقتنا في ضعف القدرة على التحليل والنقد!! ولعل الطاهر بن عاشور لو علم أن هذا ما سيكون عليه حال كتابه، لاكتفى بصرخات النذير وبالنقد والتحذير في كتابه (أليس الصبح بقريب)!
وعندما أتابع حوارنا الديني والثقافي اليوم أجد فيه تكرارًا لأخطاء الماضي: حقًّا لقد ساهم المسلمون في ضعف الإسلام، بعجز العلماء وجهل الأبناء!! وعندها أتساءل: هل الذي أوحى إليَّ بتلك الفكرة أو هذه: هو عنوان ذلك الكتاب حقًّا؟ أم هو الواقع الذي نعيشه؟!!
*الإسلام اليوم