د. عدنان حسن باحارث
الأحد 14، نوفمبر 2010
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله أصحابه ، أما بعد : فأينما نظر المتأمل البصير وجالت عيناه ، وأينما بحث الباحث ونقَّب في العلوم المختلفة ، وأينما درس الدارس وفتَّش في المعارف المتنوعة : يجد نعم الله تحيط به من كل جانب ، ويجد رحمته تحوطه من كل صوب ، ويجد لطفه – سبحانه – قد ملأ الوجود بأكمله ؛ فما من شيء في هذا الوجود إلا وقد أسبغ الله عليه نعمتَه ، وكلأه بفضله ، وأحاطه بمننه ، فأينما وقع البصر في هذا الكون ، وأينما تفكر العقل في هذه المخلوقات : تلمَّس الإنسان نعم الله وفضلَه وبركاتِه في كلِّ شيء ، ولو ذهب الإنسان ، فأنفق عمره كلَّه ليعدَّ نعم الله ما أحصاها ، ولا أحاط بها ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( وإن تعدُّوا نعمة الله لا تُحصوها إن الله لغفور رحيم ) .
إلا أن الناظر في النعم الربانية ، والمتأمل فيها يجدها مراتب متفاوتة ، ودرجاتٍ متفاضلة ، ومقاماتٍ متنوعة ، فليست النعم على مرتبة واحدة ؛ فمنها ما هو لصيق بمصالح الإنسان ، ضروريٌ لحياته ، ومهمٌ لمعاشه ، ومنها ما يأتي في الدرجة الثانية ، ومنها ما هو دون ذلك .
إلا أن نعمةً من بين هذه النعم الكثيرة ، ومنَّةً من بين هذه المنن الوفيرة : هي الأعظم والأجل والأبلغ ، لا تضاهيها نعمة ، ولا تنافسها منَّة ، قد فاقت الجميع ، وحازت السبق ، إنها نعمة القرآن الكريم ، كلامُ ربنا جل وعلا ، الذي تكلم به المولى سبحانه تعالى ، فتلقاه جبريل × عن ربه عز وجل ، ثم تلقاه عنه محمد × ، ثم تلقاه الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم تلقته الأمة من بعدهم ، جيلاً بعد جيل ، يتناقلونه بأمانة وإخلاص وحرص ، يتلقاه الصغير عن الكبير ، والتلميذ عن المعلم ، يتلقَّنونه تلقيناً ، آية آية ، وكلمة كلمة ، وحرفاً حرفاً ، يتشافهون به مشافهة ، لا يزيدون ولا يَنقصون ، ولا يحرفون ولا يلحَنون ، يتناقلونه فيما بينهم غضاً طرياً ندياً ، كما أنزل أولَ مرة على محمد .
يجتمعون على موائده العامرة في بيوت الله المضيئة ، تحفُّهم الملائكة ، وتغشاهم الرحمة ، وتتنزل عليهم السكينة ، ويذكرهم الجبار في الملأ الأعلى عنده ، فهم أهل الله وخاصته ، وحزبُه وشيعتُه ، الذين استودعهم كتابه ؛ فألهمهم حفظه واستظهاره ، وألزمهم تجويده وإتقانه ، ثم كلَّفهم نقله وتعليمه ، فلو يعلم حافظ القرآن ومعلِّمُهُ ما ادَّخره الله له من عظيم الأجور ، وكريم العطايا ، وجزيل الثواب : ما التفت عن القرآن لحظة واحدة ، حتى يستوعب به زمانه كلَّه ، ويملأَ به وقته جلَّه ، يتلوه آناء الليل ، وأطراف النهار ، ولولا مشاغلُ ضروريةٌ ، وواجباتٌ معاشيةٌ : لما انشغل بغير القرآن برهة من الزمان .
إن القرآن هو النعمة الكبرى التي أتمَّها الله على هذه الأمة ، حين أكمل لها دينها ، فيه العقيدة التي ارتضاها ، والشريعة التي اجتباها ، أخباره صادقة ، وأحكامه واضحة ، وعلومه شامخة ، قوله الفصل ، وحكمه العدل .
تلاوته تضيء القلوب ، ومدارسته تنير العقول ، ورقيته تشفي الأبدان والصدور ، هو الكنز الكبير ، والنبع الوفير ، لا يملُّ من تلاوته القارئون ، ولا يكَلُّ من سماعه المنصتون ، ولا يشبع من علومه الدارسون .
ما أخذ به أحد إلا اهتدى ، ولا أعرض عنه أحد إلا ضل ، وما حاربه أحد إلا هُزم ، وما عانده أحد إلا هلك ، هو الحق المطلق ، واليقين الصادق : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيلٌ من حكيم حميد ) ، فما أعظم هذا الكتاب ، وما أجلَّه ، وما أكرمه ، لقد بقيَ خالداً شامخاً على مرِّ العصور المتلاحقة ، يقاوم أسباب الفناء ، ويدافع ظروف الاضطهاد ، ثابتاً أمام هجمات الأعداء : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
لقد صمد القرآن الكريم أمام محاولات التحريف والتزييف ، وثبت أمام موجات التأويل والتعطيل ، ووقف أمام هجمات الإبعاد والإقصاء والإلغاء ، لقد بقيَ ، وسوف يبقى محفوظاً بإذن الله : برسمه ، ولفظه ، ومعانيه ، يدكُّ بقوته معاقل الفاسقين ، ويبطل بحجته دعاوى المبطلين ، ويكشف ببيانه زيف الجاحدين ، وسوف يبقى القرآن العظيم على مرِّ العصور والأزمان : مَعلماً للمهتدين ، ومناراً للسالكين ، وملاذاً للخائفين ، وأنساً للمستوحشين ، وسوف يبقى أيضاً سيفاً للمجاهدين ، به يدافعون أعداءهم ، وبه يجاهدون خصومهم : ( فلا تُطع الكافرينَ وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) .
إن أعظم أفراح المؤمنين على الإطلاق هو فرحهم بالقرآن العظيم ، فهو الفرحة الكبرى ، والبهجة العظمى ، لا تنازعها فرحة ، ولا تضاهيها بهجة : ( يا أيها الناس قد جآءتكم موعظةٌ من ربكم وشفآءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين ، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، فالقرآن هو أعظم أفراح المؤمنين ، وأجلُّ تحفهم ، وهو العلم الأكبر الذي لا يجوز كتمانه ، ولهذا أجمعت الأمة على وجوب حفظه وتعليمه ، باعتباره فرضَ كفاية ، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، وإلا أثمت الأمة بأكملها ، حين تقصر في حفظ القرآن وتعليمه ، فتقع في أعظم خيانة دينية .
ولقد تواتر عمل الأمة الإسلامية منذ القديم - جيلاً بعد جيل – على أن يكونَ القرآنُ – حفظُه وتعليمُه – هو الأصلَ الأصيل ، وأسَّ الأسس في تعليم الأجيال وتربيتهم ، يدخل في صلب المناهج التعليمية ، ويتصدر المقررات الدراسية ، حتى يتشبَّعَ الطلاب بعلومه ، ويتأدَّبوا بآدابه .
ولقد درجت هذه البلاد – حرسها الله – منذ عقود مضت على العناية بالقرآن : طباعتِه ، ونشرِه ، وحفظِه ، والعملِ به ، وهي مدعوة اليوم – أكثر من أي وقت مضى – إلى مزيد عطاء في هذا السبيل ، وإلى بذل جهد أكبر في هذا الطريق ، لتحقق بذلك فرض الكفاية ، الذي يحمي المجتمع من إثم التقصير ، في زمن قلَّت فيه العناية بالقرآن ، وتخلت عن حمله كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة .
لذا وجب على المجتمع التعاون في ذلك ؛ فإن العناية بالقرآن مسئولية الجميع ، ينهض بها كلُّ قادر أمين ، لا علاقة لها بأصل أو جنس ، وإنما هي عبادة عظيمة ، يشترك في أدائها المسلمون جميعاً ، بالاستماع ، والتعلم ، والحفظ ، والتلقين ، وهي على القادر المتقن أوجب ، فإن قصَّر أثم ، وأثم معه المجتمع بأكمله .
ثم إن القرآن هو مجد الأمة الأكبر ، ومستقبلُها الأعظم ، فلتنظر الأمة لمجدها ، ولتحافظ على مستقبلها ، ويا خيبة من فقد مجده ، وأضاع مستقبله .
د. عدنان حسن باحارث
الأحد 14، نوفمبر 2010
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله أصحابه ، أما بعد : فأينما نظر المتأمل البصير وجالت عيناه ، وأينما بحث الباحث ونقَّب في العلوم المختلفة ، وأينما درس الدارس وفتَّش في المعارف المتنوعة : يجد نعم الله تحيط به من كل جانب ، ويجد رحمته تحوطه من كل صوب ، ويجد لطفه – سبحانه – قد ملأ الوجود بأكمله ؛ فما من شيء في هذا الوجود إلا وقد أسبغ الله عليه نعمتَه ، وكلأه بفضله ، وأحاطه بمننه ، فأينما وقع البصر في هذا الكون ، وأينما تفكر العقل في هذه المخلوقات : تلمَّس الإنسان نعم الله وفضلَه وبركاتِه في كلِّ شيء ، ولو ذهب الإنسان ، فأنفق عمره كلَّه ليعدَّ نعم الله ما أحصاها ، ولا أحاط بها ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ( وإن تعدُّوا نعمة الله لا تُحصوها إن الله لغفور رحيم ) .
إلا أن الناظر في النعم الربانية ، والمتأمل فيها يجدها مراتب متفاوتة ، ودرجاتٍ متفاضلة ، ومقاماتٍ متنوعة ، فليست النعم على مرتبة واحدة ؛ فمنها ما هو لصيق بمصالح الإنسان ، ضروريٌ لحياته ، ومهمٌ لمعاشه ، ومنها ما يأتي في الدرجة الثانية ، ومنها ما هو دون ذلك .
إلا أن نعمةً من بين هذه النعم الكثيرة ، ومنَّةً من بين هذه المنن الوفيرة : هي الأعظم والأجل والأبلغ ، لا تضاهيها نعمة ، ولا تنافسها منَّة ، قد فاقت الجميع ، وحازت السبق ، إنها نعمة القرآن الكريم ، كلامُ ربنا جل وعلا ، الذي تكلم به المولى سبحانه تعالى ، فتلقاه جبريل × عن ربه عز وجل ، ثم تلقاه عنه محمد × ، ثم تلقاه الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم تلقته الأمة من بعدهم ، جيلاً بعد جيل ، يتناقلونه بأمانة وإخلاص وحرص ، يتلقاه الصغير عن الكبير ، والتلميذ عن المعلم ، يتلقَّنونه تلقيناً ، آية آية ، وكلمة كلمة ، وحرفاً حرفاً ، يتشافهون به مشافهة ، لا يزيدون ولا يَنقصون ، ولا يحرفون ولا يلحَنون ، يتناقلونه فيما بينهم غضاً طرياً ندياً ، كما أنزل أولَ مرة على محمد .
يجتمعون على موائده العامرة في بيوت الله المضيئة ، تحفُّهم الملائكة ، وتغشاهم الرحمة ، وتتنزل عليهم السكينة ، ويذكرهم الجبار في الملأ الأعلى عنده ، فهم أهل الله وخاصته ، وحزبُه وشيعتُه ، الذين استودعهم كتابه ؛ فألهمهم حفظه واستظهاره ، وألزمهم تجويده وإتقانه ، ثم كلَّفهم نقله وتعليمه ، فلو يعلم حافظ القرآن ومعلِّمُهُ ما ادَّخره الله له من عظيم الأجور ، وكريم العطايا ، وجزيل الثواب : ما التفت عن القرآن لحظة واحدة ، حتى يستوعب به زمانه كلَّه ، ويملأَ به وقته جلَّه ، يتلوه آناء الليل ، وأطراف النهار ، ولولا مشاغلُ ضروريةٌ ، وواجباتٌ معاشيةٌ : لما انشغل بغير القرآن برهة من الزمان .
إن القرآن هو النعمة الكبرى التي أتمَّها الله على هذه الأمة ، حين أكمل لها دينها ، فيه العقيدة التي ارتضاها ، والشريعة التي اجتباها ، أخباره صادقة ، وأحكامه واضحة ، وعلومه شامخة ، قوله الفصل ، وحكمه العدل .
تلاوته تضيء القلوب ، ومدارسته تنير العقول ، ورقيته تشفي الأبدان والصدور ، هو الكنز الكبير ، والنبع الوفير ، لا يملُّ من تلاوته القارئون ، ولا يكَلُّ من سماعه المنصتون ، ولا يشبع من علومه الدارسون .
ما أخذ به أحد إلا اهتدى ، ولا أعرض عنه أحد إلا ضل ، وما حاربه أحد إلا هُزم ، وما عانده أحد إلا هلك ، هو الحق المطلق ، واليقين الصادق : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيلٌ من حكيم حميد ) ، فما أعظم هذا الكتاب ، وما أجلَّه ، وما أكرمه ، لقد بقيَ خالداً شامخاً على مرِّ العصور المتلاحقة ، يقاوم أسباب الفناء ، ويدافع ظروف الاضطهاد ، ثابتاً أمام هجمات الأعداء : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
لقد صمد القرآن الكريم أمام محاولات التحريف والتزييف ، وثبت أمام موجات التأويل والتعطيل ، ووقف أمام هجمات الإبعاد والإقصاء والإلغاء ، لقد بقيَ ، وسوف يبقى محفوظاً بإذن الله : برسمه ، ولفظه ، ومعانيه ، يدكُّ بقوته معاقل الفاسقين ، ويبطل بحجته دعاوى المبطلين ، ويكشف ببيانه زيف الجاحدين ، وسوف يبقى القرآن العظيم على مرِّ العصور والأزمان : مَعلماً للمهتدين ، ومناراً للسالكين ، وملاذاً للخائفين ، وأنساً للمستوحشين ، وسوف يبقى أيضاً سيفاً للمجاهدين ، به يدافعون أعداءهم ، وبه يجاهدون خصومهم : ( فلا تُطع الكافرينَ وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) .
إن أعظم أفراح المؤمنين على الإطلاق هو فرحهم بالقرآن العظيم ، فهو الفرحة الكبرى ، والبهجة العظمى ، لا تنازعها فرحة ، ولا تضاهيها بهجة : ( يا أيها الناس قد جآءتكم موعظةٌ من ربكم وشفآءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين ، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، فالقرآن هو أعظم أفراح المؤمنين ، وأجلُّ تحفهم ، وهو العلم الأكبر الذي لا يجوز كتمانه ، ولهذا أجمعت الأمة على وجوب حفظه وتعليمه ، باعتباره فرضَ كفاية ، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، وإلا أثمت الأمة بأكملها ، حين تقصر في حفظ القرآن وتعليمه ، فتقع في أعظم خيانة دينية .
ولقد تواتر عمل الأمة الإسلامية منذ القديم - جيلاً بعد جيل – على أن يكونَ القرآنُ – حفظُه وتعليمُه – هو الأصلَ الأصيل ، وأسَّ الأسس في تعليم الأجيال وتربيتهم ، يدخل في صلب المناهج التعليمية ، ويتصدر المقررات الدراسية ، حتى يتشبَّعَ الطلاب بعلومه ، ويتأدَّبوا بآدابه .
ولقد درجت هذه البلاد – حرسها الله – منذ عقود مضت على العناية بالقرآن : طباعتِه ، ونشرِه ، وحفظِه ، والعملِ به ، وهي مدعوة اليوم – أكثر من أي وقت مضى – إلى مزيد عطاء في هذا السبيل ، وإلى بذل جهد أكبر في هذا الطريق ، لتحقق بذلك فرض الكفاية ، الذي يحمي المجتمع من إثم التقصير ، في زمن قلَّت فيه العناية بالقرآن ، وتخلت عن حمله كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة .
لذا وجب على المجتمع التعاون في ذلك ؛ فإن العناية بالقرآن مسئولية الجميع ، ينهض بها كلُّ قادر أمين ، لا علاقة لها بأصل أو جنس ، وإنما هي عبادة عظيمة ، يشترك في أدائها المسلمون جميعاً ، بالاستماع ، والتعلم ، والحفظ ، والتلقين ، وهي على القادر المتقن أوجب ، فإن قصَّر أثم ، وأثم معه المجتمع بأكمله .
ثم إن القرآن هو مجد الأمة الأكبر ، ومستقبلُها الأعظم ، فلتنظر الأمة لمجدها ، ولتحافظ على مستقبلها ، ويا خيبة من فقد مجده ، وأضاع مستقبله .
د. عدنان حسن باحارث