د. بشير موسى نافع
11-11-2010
مشكلة الوضع المصري، باختصار، أن النظام يمر بمرحلة من الضعف ربما تكون غير مسبوقة، تعود في جوهرها إلى الارتباك الكبير المرتبط بعملية خلافة الرئيس. ولكن المعارضة السياسية المصرية تبدو أضعف من النظام بدرجات، ليس فقط لأنها تفتقد المشترك الأعظم، ولكن أيضاً لأنها تتحرك بدون تصور إستراتيجي للأمور..
تعقد قبل نهاية هذا الشهر الانتخابات البرلمانية العامة لتشكيل مجلس شعب مصري جديد. ولأن هذه الانتخابات تسبق انتخابات رئيس الجمهورية بأقل من عام، ولأن مصر تعج منذ العملية الجراحية الرئيسية التي أجريت للرئيس مبارك قبل شهور بالتوقعات المتضاربة حول هوية الرئيس المصري القادم، فسيحتل مجلس الشعب الجديد، على غير المعتاد، أهمية استثنائية.
طبقاً للتعديلات الدستورية الأخيرة، ينتخب رئيس الجمهورية المصري مباشرة من مجموع الناخبين، ولم يعد مجلس الشعب الهيئة المخولة اختيار الرئيس. ولكن ذلك لا يعني تراجع أهمية المجلس، والمجلس القادم على وجه الخصوص؛ وخلف هذه الأهمية أكثر من سبب.
يعتبر تشكيل مجموعة ضغط ودعاية غير رسمية للمطالبة بترشح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية واحداً من الظواهر الملفتة التي شهدتها الساحة السياسية المصرية خلال الشهور القليلة الماضية.
وقد دعت المجموعة، التي يعتقد بأنها تمول من رجال أعمال قريبين من مبارك الابن، إلى ترشحه لمنصب الرئاسة، بالرغم من أن الرئيس مبارك لم يعلن تنحيه عن موقعه أو أنه لا يرغب في التجديد عندما تنتهي ولايته الحالية في خريف العام المقبل.
ولكنَ أحداً لا يجب أن يغفل التأييد الرسمي لحملة ترشيح جمال مبارك؛ فعندما نشرت ملصقات تدعو إلى ترشح السيد عمر سليمان، المسؤول النافذ عن المخابرات المصرية منذ سنوات طويلة، للرئاسة، قامت سلطات محافظة القاهرة سريعاً بنزع الملصقات، وأخذت الدوائر الأمنية في البحث عن المسؤولين عنها.
ثمة شخصية واحدة فقط، إلى جانب الرئيس مبارك، يراد للشعب المصري أن يتذكر جدارتها بالرئاسة، لا يجب أن يشاركها المسرح أي مرشح محتمل آخر، بغض النظر عن قرار الرئيس مبارك في العام القادم. ولعل هذا هو التطور الأهم في الساحة السياسية المصرية.
حتى ما قبل شهور قليلة، لم يكن ثمة ما يشير إلى أن مسألة الرئيس المقبل لمصر قد حسمت، بالرغم من أن سيناريو خلافة مبارك الابن (أو ما يسمى أحياناً بالتوريث) ليس جديداً بالتأكيد. رفض الرئيس مبارك من البداية أن يتبع التقليد الجمهوري في تعيين نائب للرئيس، الموقع الذي نظر إليه دائماً باعتباره المحطة الأخيرة نحو رئاسة الجمهورية. ولم يكن واضحاً أبداً لماذا يقاوم الرئيس تعيين نائب له، بمعنى أن الرئيس لم يقدم لشعبه حقيقة رؤيته لمستقبل البلاد السياسي.
أحد الاحتمالات التي كان من المنطقي أن تطرح، أن الرئيس مبارك أراد أن يكون آخر رئيس للجمهورية ينحدر من المؤسسة العسكرية، وأنه يرغب في أن يفتح الموقع للمنافسة الديمقراطية الحرة بعد وفاته أو تقاعده. ولكن السجل الديمقراطي للنظام الجمهورية لم يكن من الثقل والرسوخ بحيث يوفر الأدلة الكافية لتسويغ هذا التفسير.
الأرجح أنه ما إن أصبحت نيابة الرئيس قضية ملحة في دوائر الدولة، قبل عشرة أعوام أو أكثر قليلاً، حتى طرحت فكرة تولي جمال مبارك للرئاسة، ربما بعد أن بدا نجاح تولي الرئيس بشار الأسد للموقع خلفاً لوالده. ولكن الرئيس مبارك لم يشعر في البداية بالاطمئنان الكافي للانحياز القاطع للفكرة وإمضاء مشروع الخلافة. فمصر، من جهة بنيتها السياسية والاجتماعية، ليست سورية؛ والمعارضة لتولي جمال مبارك موقع الرئاسة بدت واسعة النطاق، ليس فقط في صفوف القوى السياسية المعارضة، ولكن أيضاً في مؤسسات الدولة والحكم وفي دوائر الحرس القديم للحزب الوطني الحاكم.
بيد أن تصريحات الرئيس مبارك القليلة والمتباعدة حول مسألة الخلافة ظلت غامضة دائماً؛ فلا هي أظهرت تأييداً صريحاً للفكرة، ولا قطعت في استبعادها.
في الوقت نفسه، كان الدور الذي يلعبه مبارك الابن في الحزب والنظام يتسع في شكل مطرد، ويزداد أهمية. من خلال لجنة السياسات في الحزب الوطني، يلعب جمال مبارك دوراً كبيراً في تحديد التوجهات الرئيسية للحكم على الصعيد الداخلي، من تقرير أولويات الحزب الحاكم، إلى إعداد قوائمه الانتخابية؛ ومن تشكيل حكومة السيد نظيف، إلى إقرار السياسات الكبرى لهذه الحكومة.
وبالرغم من أن تقارير سابقة أفادت بوجود دور ما لجمال مبارك على صعيد العلاقات المصرية الأمريكية، لاسيما في فترات الأزمات، إلا أن السياسة الخارجية ظلت محصورة بالرئيس وكبار مساعديه.
ولكن الملاحظ أن دور مبارك الابن في حقل السياسة الخارجية يزداد بروزاً، وأن الرئيس بات حريصاً على تقديمه للدوائر الخارجية ذات العلاقة الوثيقة بمصر، كما حدث خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس للعاصمة الأمريكية واشنطن. ما تستبطنه هذه التطورات أن الرئيس مبارك هو الآن أقرب مما كان في أي وقت مضى للقبول بفكرة التوريث، وإفساح المجال لإمضائها، حتى إن لم يكن يرغب في أن يلزم نفسه بموقف علني.
كان واضحاً منذ انطلق الجدل حول مسألة خلافة الرئيس مبارك أن التحدي الأهم لتولي مبارك الابن سيكون من داخل دوائر الدولة والنظام وليس من خارجها. لأسباب عديدة، لم تصل قوى المعارضة المصرية السياسية مستوى من القوة والتأثير لتستطيع فرض نظام ديمقراطي حر، ولو نسبياً؛ وقد حافظت الدولة المصرية، الخديوية والملكية والجمهورية، منذ محمد علي، على استمراريتها، حتى عندما بدا أنها تواجه أزمة وجود مستعصية.
البديل الجمهوري للنظام الملكي ولد من داخل مؤسسة الدولة العسكرية، وبالرغم من المتغيرات التي أدخلتها الجمهورية على صعيد السياسات الداخلية والخارجية، التي لم تكن متغيرات جذرية على أية حال، لم يمس جهاز الدولة في أي شكل ملموس. ولعل تولي الرئيس مبارك السلس للحكم بعد حادثة اغتيال الرئيس السادات المدوية، دليل آخر على قدرة الدولة على مواجهة التحديات والأزمات الكبرى. للوهلة الأولى، اعتقد البعض أن أمام رئيس منظمة الطاقة النووية السابق، محمد البرادعي، فرصة غير مسبوقة لتوحيد القوى السياسية وتعزيز عملية التحول الديمقراطي في البلاد. ولكن ظاهرة البرادعي سرعان ما وقعت فريسة لأمراض المعارضة السياسية المصرية، بينما لم يظهر البرادعي نفسه من الالتزام ما يكفي لتحمل أعباء الحركة التي تصدى لقيادتها. وقد أظهر النظام، على أية حال، أنه لن يتسامح مع البرادعي وحركته، بغض النظر عن قبول أو عدم قبول القوى الغربية به.
في النهاية، إذن، سترتبط مسألة الخلافة بشرطين أساسيين: مدى معارضة أو دعم مؤسسات الدولة لترشيح جمال مبارك، والانطباع العام حول شرعية مؤسسات النظام الأساسية، ومن ثم شرعية عملية انتخاب مبارك الابن رئيساً. في المسألة الأولى، لا يعرف الرأي العام ما هو أكثر من الشائعات، وليس ثمة ما هو يقيني حول مواقف دوائر الدولة والحزب الوطني من عملية الخلافة.
فالتقارير التي صدرت مؤخراً من أحد مراكز البحث الأمريكية حول معارضة المؤسسة العسكرية لترشح جمال مبارك ليست في جوهرها أكثر من شائعات قديمة/ جديدة. ما هو متيقن أن الجيش المصري، من ناحية، ليس جيشاً انقلابياً، وأن تأييد الجيش للرئيس القادم، من ناحية أخرى، هو مسألة حيوية بلا شك. كيف سيتبلور موقف المؤسسة العسكرية من مسألة الخلافة، هو أمر يصعب التكهن به.
ولكن من الممكن ربما تجاهل معارضة حرس الحزب الحاكم القديم لتولي جمال مبارك؛ فقيادات الحزب القديمة لا تتمتع بأي مصداقية سياسية تؤهلها للعب دور معارض فعال، لا على الصعيد الشعبي، ولا على صعيد مؤسسات الدولة والحكم. شرعية مؤسسات الدولة وعملية الخلافة هي مسألة أخرى، وهنا بالتأكيد يمكن للقوى السياسية المعارضة ولمنظمات المجتمع المدني والشارع أن تؤكد وجودها ودورها، حتى إن لم تستطع أن توقف سيناريو الخلافة. وهذا ما يجعل لانتخابات مجلس الشعب المقررة نهاية هذا الشهر أهمية استثنائية.
ليس ثمة شك في أن سيطرة الحزب الوطني الحاكم على مجلس الشعب القادم، والسيطرة التشريعية المطلقة، هو مطلب حيوي، سواء تقدم الرئيس مبارك لتجديد رئاسته في العام المقبل، أو بدأ العد التنازلي لخلافته.
خلال الفترات الانتقالية، يصبح للمؤسسة التشريعية أهمية كبرى، حتى بعد التعديل الدستوري الذي أخضع منصب الرئاسة للانتخاب المباشر. ولكن الأهم من ذلك أن يُوفر قدر كاف من الشرعية للمجلس القادم، وليس فقط السيطرة المريحة للحزب الوطني؛ بمعنى أن يبدو المجلس شرعياً، ولد من عملية تنافس واسعة النطاق، تشارك فيها أغلبية القوى السياسية في البلاد.
الواضح، بالطبع، أن النظام ليس قلقاً من مشاركة حزب التجمع الوطني (الذي يفترض أنه يمثل ما تبقى من اليسار)، فالحزب يشارك في كل الانتخابات، سواء بصفقة أو بغير صفقة. كما أن المرجح أن مشاركة حزب الوفد قد قررت بعد صفقة ما مع الحزب الوطني، تؤمن له عدداً كافياً من المقاعد لإنقاذ ماء الوجه.
ولكن القوة السياسية الرئيسية المعارضة في البلاد، التي لا تعتبر قوة سياسية شرعية في اللغة السياسية الدارجة بمصر، ليست الوفد أو التجمع، بل الإخوان؛ وبمشاركتهم فقط يمكن أن تكتسب المنافسة الانتخابية سمة شرعية نسبية.
وبإعلان الإخوان عزمهم المشاركة في الانتخابات، بالرغم من الأدلة المتزايدة على أن ليس من ضمانات كافية لإجراء انتخابات نزيهة، ولو في الحد الأدنى، يكون الإخوان قد اختاروا توفير الشرعية لهذه الانتخابات، بغض النظر عن الحصيلة التي سيخرجون بها، وبما إن كان النظام سيفسح لهم في المجلس القادم مكاناً كافياً للعب دور المعارضة الفعالة.
مشكلة الوضع المصري، باختصار، أن النظام يمر بمرحلة من الضعف ربما تكون غير مسبوقة، تعود في جوهرها إلى الارتباك الكبير المرتبط بعملية خلافة الرئيس. ولكن المعارضة السياسية المصرية تبدو أضعف من النظام بدرجات، ليس فقط لأنها تفتقد المشترك الأعظم، ولكن أيضاً لأنها تتحرك بدون تصور إستراتيجي للأمور.
*العصر
11-11-2010
مشكلة الوضع المصري، باختصار، أن النظام يمر بمرحلة من الضعف ربما تكون غير مسبوقة، تعود في جوهرها إلى الارتباك الكبير المرتبط بعملية خلافة الرئيس. ولكن المعارضة السياسية المصرية تبدو أضعف من النظام بدرجات، ليس فقط لأنها تفتقد المشترك الأعظم، ولكن أيضاً لأنها تتحرك بدون تصور إستراتيجي للأمور..
تعقد قبل نهاية هذا الشهر الانتخابات البرلمانية العامة لتشكيل مجلس شعب مصري جديد. ولأن هذه الانتخابات تسبق انتخابات رئيس الجمهورية بأقل من عام، ولأن مصر تعج منذ العملية الجراحية الرئيسية التي أجريت للرئيس مبارك قبل شهور بالتوقعات المتضاربة حول هوية الرئيس المصري القادم، فسيحتل مجلس الشعب الجديد، على غير المعتاد، أهمية استثنائية.
طبقاً للتعديلات الدستورية الأخيرة، ينتخب رئيس الجمهورية المصري مباشرة من مجموع الناخبين، ولم يعد مجلس الشعب الهيئة المخولة اختيار الرئيس. ولكن ذلك لا يعني تراجع أهمية المجلس، والمجلس القادم على وجه الخصوص؛ وخلف هذه الأهمية أكثر من سبب.
يعتبر تشكيل مجموعة ضغط ودعاية غير رسمية للمطالبة بترشح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية واحداً من الظواهر الملفتة التي شهدتها الساحة السياسية المصرية خلال الشهور القليلة الماضية.
وقد دعت المجموعة، التي يعتقد بأنها تمول من رجال أعمال قريبين من مبارك الابن، إلى ترشحه لمنصب الرئاسة، بالرغم من أن الرئيس مبارك لم يعلن تنحيه عن موقعه أو أنه لا يرغب في التجديد عندما تنتهي ولايته الحالية في خريف العام المقبل.
ولكنَ أحداً لا يجب أن يغفل التأييد الرسمي لحملة ترشيح جمال مبارك؛ فعندما نشرت ملصقات تدعو إلى ترشح السيد عمر سليمان، المسؤول النافذ عن المخابرات المصرية منذ سنوات طويلة، للرئاسة، قامت سلطات محافظة القاهرة سريعاً بنزع الملصقات، وأخذت الدوائر الأمنية في البحث عن المسؤولين عنها.
ثمة شخصية واحدة فقط، إلى جانب الرئيس مبارك، يراد للشعب المصري أن يتذكر جدارتها بالرئاسة، لا يجب أن يشاركها المسرح أي مرشح محتمل آخر، بغض النظر عن قرار الرئيس مبارك في العام القادم. ولعل هذا هو التطور الأهم في الساحة السياسية المصرية.
حتى ما قبل شهور قليلة، لم يكن ثمة ما يشير إلى أن مسألة الرئيس المقبل لمصر قد حسمت، بالرغم من أن سيناريو خلافة مبارك الابن (أو ما يسمى أحياناً بالتوريث) ليس جديداً بالتأكيد. رفض الرئيس مبارك من البداية أن يتبع التقليد الجمهوري في تعيين نائب للرئيس، الموقع الذي نظر إليه دائماً باعتباره المحطة الأخيرة نحو رئاسة الجمهورية. ولم يكن واضحاً أبداً لماذا يقاوم الرئيس تعيين نائب له، بمعنى أن الرئيس لم يقدم لشعبه حقيقة رؤيته لمستقبل البلاد السياسي.
أحد الاحتمالات التي كان من المنطقي أن تطرح، أن الرئيس مبارك أراد أن يكون آخر رئيس للجمهورية ينحدر من المؤسسة العسكرية، وأنه يرغب في أن يفتح الموقع للمنافسة الديمقراطية الحرة بعد وفاته أو تقاعده. ولكن السجل الديمقراطي للنظام الجمهورية لم يكن من الثقل والرسوخ بحيث يوفر الأدلة الكافية لتسويغ هذا التفسير.
الأرجح أنه ما إن أصبحت نيابة الرئيس قضية ملحة في دوائر الدولة، قبل عشرة أعوام أو أكثر قليلاً، حتى طرحت فكرة تولي جمال مبارك للرئاسة، ربما بعد أن بدا نجاح تولي الرئيس بشار الأسد للموقع خلفاً لوالده. ولكن الرئيس مبارك لم يشعر في البداية بالاطمئنان الكافي للانحياز القاطع للفكرة وإمضاء مشروع الخلافة. فمصر، من جهة بنيتها السياسية والاجتماعية، ليست سورية؛ والمعارضة لتولي جمال مبارك موقع الرئاسة بدت واسعة النطاق، ليس فقط في صفوف القوى السياسية المعارضة، ولكن أيضاً في مؤسسات الدولة والحكم وفي دوائر الحرس القديم للحزب الوطني الحاكم.
بيد أن تصريحات الرئيس مبارك القليلة والمتباعدة حول مسألة الخلافة ظلت غامضة دائماً؛ فلا هي أظهرت تأييداً صريحاً للفكرة، ولا قطعت في استبعادها.
في الوقت نفسه، كان الدور الذي يلعبه مبارك الابن في الحزب والنظام يتسع في شكل مطرد، ويزداد أهمية. من خلال لجنة السياسات في الحزب الوطني، يلعب جمال مبارك دوراً كبيراً في تحديد التوجهات الرئيسية للحكم على الصعيد الداخلي، من تقرير أولويات الحزب الحاكم، إلى إعداد قوائمه الانتخابية؛ ومن تشكيل حكومة السيد نظيف، إلى إقرار السياسات الكبرى لهذه الحكومة.
وبالرغم من أن تقارير سابقة أفادت بوجود دور ما لجمال مبارك على صعيد العلاقات المصرية الأمريكية، لاسيما في فترات الأزمات، إلا أن السياسة الخارجية ظلت محصورة بالرئيس وكبار مساعديه.
ولكن الملاحظ أن دور مبارك الابن في حقل السياسة الخارجية يزداد بروزاً، وأن الرئيس بات حريصاً على تقديمه للدوائر الخارجية ذات العلاقة الوثيقة بمصر، كما حدث خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس للعاصمة الأمريكية واشنطن. ما تستبطنه هذه التطورات أن الرئيس مبارك هو الآن أقرب مما كان في أي وقت مضى للقبول بفكرة التوريث، وإفساح المجال لإمضائها، حتى إن لم يكن يرغب في أن يلزم نفسه بموقف علني.
كان واضحاً منذ انطلق الجدل حول مسألة خلافة الرئيس مبارك أن التحدي الأهم لتولي مبارك الابن سيكون من داخل دوائر الدولة والنظام وليس من خارجها. لأسباب عديدة، لم تصل قوى المعارضة المصرية السياسية مستوى من القوة والتأثير لتستطيع فرض نظام ديمقراطي حر، ولو نسبياً؛ وقد حافظت الدولة المصرية، الخديوية والملكية والجمهورية، منذ محمد علي، على استمراريتها، حتى عندما بدا أنها تواجه أزمة وجود مستعصية.
البديل الجمهوري للنظام الملكي ولد من داخل مؤسسة الدولة العسكرية، وبالرغم من المتغيرات التي أدخلتها الجمهورية على صعيد السياسات الداخلية والخارجية، التي لم تكن متغيرات جذرية على أية حال، لم يمس جهاز الدولة في أي شكل ملموس. ولعل تولي الرئيس مبارك السلس للحكم بعد حادثة اغتيال الرئيس السادات المدوية، دليل آخر على قدرة الدولة على مواجهة التحديات والأزمات الكبرى. للوهلة الأولى، اعتقد البعض أن أمام رئيس منظمة الطاقة النووية السابق، محمد البرادعي، فرصة غير مسبوقة لتوحيد القوى السياسية وتعزيز عملية التحول الديمقراطي في البلاد. ولكن ظاهرة البرادعي سرعان ما وقعت فريسة لأمراض المعارضة السياسية المصرية، بينما لم يظهر البرادعي نفسه من الالتزام ما يكفي لتحمل أعباء الحركة التي تصدى لقيادتها. وقد أظهر النظام، على أية حال، أنه لن يتسامح مع البرادعي وحركته، بغض النظر عن قبول أو عدم قبول القوى الغربية به.
في النهاية، إذن، سترتبط مسألة الخلافة بشرطين أساسيين: مدى معارضة أو دعم مؤسسات الدولة لترشيح جمال مبارك، والانطباع العام حول شرعية مؤسسات النظام الأساسية، ومن ثم شرعية عملية انتخاب مبارك الابن رئيساً. في المسألة الأولى، لا يعرف الرأي العام ما هو أكثر من الشائعات، وليس ثمة ما هو يقيني حول مواقف دوائر الدولة والحزب الوطني من عملية الخلافة.
فالتقارير التي صدرت مؤخراً من أحد مراكز البحث الأمريكية حول معارضة المؤسسة العسكرية لترشح جمال مبارك ليست في جوهرها أكثر من شائعات قديمة/ جديدة. ما هو متيقن أن الجيش المصري، من ناحية، ليس جيشاً انقلابياً، وأن تأييد الجيش للرئيس القادم، من ناحية أخرى، هو مسألة حيوية بلا شك. كيف سيتبلور موقف المؤسسة العسكرية من مسألة الخلافة، هو أمر يصعب التكهن به.
ولكن من الممكن ربما تجاهل معارضة حرس الحزب الحاكم القديم لتولي جمال مبارك؛ فقيادات الحزب القديمة لا تتمتع بأي مصداقية سياسية تؤهلها للعب دور معارض فعال، لا على الصعيد الشعبي، ولا على صعيد مؤسسات الدولة والحكم. شرعية مؤسسات الدولة وعملية الخلافة هي مسألة أخرى، وهنا بالتأكيد يمكن للقوى السياسية المعارضة ولمنظمات المجتمع المدني والشارع أن تؤكد وجودها ودورها، حتى إن لم تستطع أن توقف سيناريو الخلافة. وهذا ما يجعل لانتخابات مجلس الشعب المقررة نهاية هذا الشهر أهمية استثنائية.
ليس ثمة شك في أن سيطرة الحزب الوطني الحاكم على مجلس الشعب القادم، والسيطرة التشريعية المطلقة، هو مطلب حيوي، سواء تقدم الرئيس مبارك لتجديد رئاسته في العام المقبل، أو بدأ العد التنازلي لخلافته.
خلال الفترات الانتقالية، يصبح للمؤسسة التشريعية أهمية كبرى، حتى بعد التعديل الدستوري الذي أخضع منصب الرئاسة للانتخاب المباشر. ولكن الأهم من ذلك أن يُوفر قدر كاف من الشرعية للمجلس القادم، وليس فقط السيطرة المريحة للحزب الوطني؛ بمعنى أن يبدو المجلس شرعياً، ولد من عملية تنافس واسعة النطاق، تشارك فيها أغلبية القوى السياسية في البلاد.
الواضح، بالطبع، أن النظام ليس قلقاً من مشاركة حزب التجمع الوطني (الذي يفترض أنه يمثل ما تبقى من اليسار)، فالحزب يشارك في كل الانتخابات، سواء بصفقة أو بغير صفقة. كما أن المرجح أن مشاركة حزب الوفد قد قررت بعد صفقة ما مع الحزب الوطني، تؤمن له عدداً كافياً من المقاعد لإنقاذ ماء الوجه.
ولكن القوة السياسية الرئيسية المعارضة في البلاد، التي لا تعتبر قوة سياسية شرعية في اللغة السياسية الدارجة بمصر، ليست الوفد أو التجمع، بل الإخوان؛ وبمشاركتهم فقط يمكن أن تكتسب المنافسة الانتخابية سمة شرعية نسبية.
وبإعلان الإخوان عزمهم المشاركة في الانتخابات، بالرغم من الأدلة المتزايدة على أن ليس من ضمانات كافية لإجراء انتخابات نزيهة، ولو في الحد الأدنى، يكون الإخوان قد اختاروا توفير الشرعية لهذه الانتخابات، بغض النظر عن الحصيلة التي سيخرجون بها، وبما إن كان النظام سيفسح لهم في المجلس القادم مكاناً كافياً للعب دور المعارضة الفعالة.
مشكلة الوضع المصري، باختصار، أن النظام يمر بمرحلة من الضعف ربما تكون غير مسبوقة، تعود في جوهرها إلى الارتباك الكبير المرتبط بعملية خلافة الرئيس. ولكن المعارضة السياسية المصرية تبدو أضعف من النظام بدرجات، ليس فقط لأنها تفتقد المشترك الأعظم، ولكن أيضاً لأنها تتحرك بدون تصور إستراتيجي للأمور.
*العصر