الدكتور/ عدنان حسن باحارث
أولاً: المقدمة تاسعاً: المحنة والابتلاء
ثانياً: المكانة والفضل عاشراً: قوة شخصيتها
ثالثاً: المنزلة العلمية الحادي عشر: عبادتها وتنسُّكها
رابعاً: حب الرسول × لها الثاني عشر: كرمها وسخاؤها
خامساً: تلطف الرسول × بها الثالث عشر: زهدها وتقشفها
سادساً: غيرة النساء منها الرابع عشر: خوفها وإشفاقها
سابعاً: غيرتها من النساء الخامس عشر: وفاتها ودفنها
ثامناً: معاناة الرسول × منها السادس عشر: الحِكم والفوائد
أولاً المقدمة :
- هي أم المؤمنين بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول الله × أبي بكر عبدالله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشية التيمية المكية النبوية أم المؤمنين زوجة رسول الله × .
- أمُّها أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس الكنِانية.
- وُلدت في السنة الرابعة للبعثة النبوية بمكة المكرمة ، ولم تعرف الجاهلية وتقول : «لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين»، يعني دين الإسلام .
- عقد عليها رسول الله × بمكة بعد وفاة خديجة بسنوات وعمرها ست سنوات ، ولم يدخل بها إلا في المدينة بعد غزوة بدر وعمرها تسع سنوات ، حين وأصبحت صالحة للدخول بها.
- سُلِّمت لرسول الله × وهي فتاة صغيرة تلهو بالدمى وتلعب بالأرجوحة ، حيث تولى تزيينها وإعدادها للزفاف جمع من الأنصاريات .
- وقد كانت نحيلة جداً ، فأخذت أمُّها تغذيها بالقثاء حتى سمنت ، وصلح بدنها ثم أدخلت على الرسول × .
- وقد كان لها جمع من الأسماء لعظيم مكانها ، وكثرة فضائلها ، منها : عائشة ، أم المؤمنين ، الحبيبة ، حبيبة رسول الله × ، محبوبة رسول الله×، الصديقة ، بنت الصديق ، المبرَّأة ، الموفقة .
- وقد أسهم في تكوين شخصيتها الجليلة المتفوقة ثلاثة عوامل رئيسة :
1- استعداد فطري وراثي متفوق من كل جانب .
2- تنشئة أسرية صالحة في بيت أبي بكر رضي الله عنه .
3- مخالطة رسول الله × .
ثانياً: المكانة والفضل :
- لقد عدَّ الزركشي للسيدة عائشة رضي الله عنها أربعين منقبة اختصت بها ، ليست لغيرها منها :
- أنها البكر الوحيدة التي تزوجها. - نزل الوحي في لحافها.
- نزل عذرها من السماء. - أبوها أفضل الرجال.
- أمُّها كحور الجنة. - اختلط ريق الرسول بريقها قبل الموت.
- مات الرسول في حجرها. - دفن الرسول في بيتها.
- مات الرسول في يومها. - رأت جبريل عليه السلام.
- قرأ جبريل عليها السلام. - نزلت رخصة التيمم بسببها.
- نزلت أحكام القذف في شأنها. - لم ينكح الرسول امرأة أبواها مهاجران
سواها.
- بعد أن ذكر الرسول × الكاملات من نساء العالمين : مريم ، وآسية، وخديجة وفاطمة قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، والثريد كما هو معلوم طعام مشبع ليس كالمرق الذي لا يشبع.
- وقد سألت عائشة الرسول ×: «مَنْ مِن أزواجك في الجنة قال: أما إنك منهن». (المستدرك).
- وكان الرسول × يقول: «إنه ليهون عليَّ الموتُ أني قد رأيتك زوجتي في الجنة»، وفي رواية «ما أبالي بالموت منذ علمت أنك زوجتي في الجنة».
- وقد رآها الرسول × قبل أن يعقد عليها في المنام ، قد جيء بها في قطعة حرير ، وقيل له : هذه زوجتك في الدنيا والآخرة .
- وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون فضل عائشة على سائر النساء، فكان عمر يفرض لزوجات النبي × عشرة آلاف لكل واحدة منهن ويزيد عائشة ألفين ، ويقول: «هذه حبيبة رسول الله × ».
- وقدمت على عمر مرة : جوهرة نفيسة ما عرف كيف يقسمها ، فبعث بها إلى عائشة يُتحفها بها.
- وفي معركة الجمل نال منها رجل ممن كان مع عمار بن ياسر رضي الله عنهما ، فقال له عمار يسُبُّه: «اغرب مقبوحاً ، أتؤذي حبيبة رسول الله × ».
- وكان مسروق إذا حدث عنها قال: «حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سماوات».
- وبناء علىهذه الفضائل الكثيرة اختلف السلف في التفضيل بين عائشة وخديجة رضي الله عنهما، والصحيح أن خديجة أفضل، إلا أن خير خديجة كان منحصراً في شخص رسول × ، وخير عائشة كان عاماً في الأمة .
ثالثاً: المنزلة العلمية :
- لقد تكوَّنت شخصية عائشة العلمية منذ نشأتها الأولى عند والديها حيث تمكنت في اللغة والأنساب والشعر .
- ثم خالطت رسول الله × فأخذت عنه علوم الوحي ، وروت عنه 2210 حديثاً ، فهي من كبار الرواة ، من أصحاب الألوف .
- وكان من طبيعتها أنها لا يفوتُها شيء لا تعرفه إلا سألت عنه.
- وكانت حريصة على سماع ما يدور في مسجد الرسول × من أخبار الوفود والمناظرات والخطب ومجالس الرسول × .
- حتى إنها استفادت الطب من الوفود التي كانت تصف الدواء للرسول × ، حتى أصبحت من أعلم الناس بالطب في وقتها.
- ولو أتيح لها شيء من العلوم الطبيعية في ذلك الوقت لفاقت في ذلك أهل زمانها ؛ لوفور عقلها ، وحدة ذكائها .
- فهذه الظروف المتعددة كونت شخصية السيدة عائشة العلمية حتى بلغت أعلى المراتب ، إلى درجة أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سأل زياداً : « أي الناس أعلم ؟ قال: أنت يا أمير المؤمنين ، قال أعزم عليك ، قال : أما إذا عزمت علي فعائشة ».
- قال عروة بن الزبير: «ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسب من عائشة».
- قال الزهري: «لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل».
- قال عطاء بن رباح: «كانت عائشة أفقه الناس ، وأحسن الناس رأياً في العامة».
- قال الذهبي: «لا أعلم في أمة محمد بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها».
- وأما في اللغة والأدب والشعر فيقول معاوية : «والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة ليس رسول الله × ».
- وقال عن قدرتها العالية في المناظرة ، وتفوقها في المحاجَّة : « ما فتحتُ باباً قط تريد أن تُغلقه إلا أغلقته ، ولا أغلقتُ باباً قط تريد أن تفتحه إلا فتحته ».
- وقال الأحنف بن قيس عن فصاحتها : « سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء بعدهم ، فما سمعت الكلامَ من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من في عائشة ».
- وقد حفظت من الشعر الشيء الكثير ، حتى إنها حفظت عن لبيد وحده ألف بيت من الشعر ، تستحضرها عند الحاجة .
- ولا يعرف أحد عنها أنها لحنَتْ في كلامها قط ، لعظيم تمكنها من اللغة وفنونها.
- هذه المكانة العلمية العظيمة أهَّلتها للفتوى مباشرة بعد وفاة الرسول × منذ زمن أبيها حتى وفاتها.
- وقد قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : « ما أشكل علينا أصحاب محمد × حديث قط ، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً ».
- وقد سئل مسروق: «هل كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال : والله لقد رأيت أصحاب محمد × الأكابر يسألونها عن الفرائض » ، ومن المعلوم أن علم الفرائض من العلوم الشرعية العقلية الحسابية الفائقة ، التي تتطلب قدرات عقلية متفوقة .
- وكانت مع كل هذه المكانة العلمية لا تتكلم فيما لا تعلم ، ولا تتجرأ بالقول فيما لا تعرفه ، أو ما لا تحسنه ، فقد سألها شريح بن هانئ عن المسح على الخفين فقالت له : «ايئتِ علياً فإنه أعلم بذلك مني ».
- وقد روى عنها خلق كثير غالبهم من الرجال ؛ فإن حجم علمها ، وعلو مقامه فاق حدود قدرات غالب النساء .
- والعجيب في أمرها رغم كل هذا العلم والمعرفة لم تكن تقرأ إلا في المصحف ، ولم تكن تكتب مطلقاً ، وقد كانت حفصة رضي الله عنها تكتب ومع هذا لم تبلغ ما بلغت عائشة ، وهذا يدل على أنها نادرة في النساء.
- ومن لطائف اجتهادها زمن النبي × أنها كانت معه في سفر إلى مكة ، وفي نهاية الرحلة ، وعند العودة قالت له : « يا رسول الله بأبي أنت وأمي : قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصُمتُ ، قال : أحسنت يا عائشة ، وما عاب عليَّ » ، (صحيح الإسناد).
- ولعل هذه من أسباب نبوغها حين شجعها رسول الله × على الاجتهاد وما عاب عليها ، لما علم من استعدادها لذلك ، رغم أن الفطر والقصر في السفر رخصة من الله ، والأفضل الأخذ بهما.
رابعاً: حبُّ الرسول × لها :
- رُوي عن أنس أن حبَّ الرسول × لعائشة كان أوَّلُ حبٍ في الإسلام.
- وقد كان حبُّه لها أمراً مستفيضاً ثابتاً متواتراً يعرفه الصحابة، ولهذا كانوا يتحرون بالهدايا والتحف في يومها .
- وقد صرح الرسول × بحبه لها في أكثر من مقام فقد سأله عمرو بن العاص رضي الله عنه : «أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ قال : عائشة، قال : فمن الرجال ؟ قال: أبوها ».
- دخل مرة الرسول × على عائشة فوجدها تبكي ، فقال: ما يبكيك ؟ قالت: سبَّتْني فاطمة ، فدعا رسول الله × فاطمة رضي الله عنها فقال : يا فاطمة أسبيت عائشة ؟ قالت : نعم يا رسول الله ، قال: أليس تحبين من أحب ؟ قالت : بلى ، قال : وتُبغضين من أَبْغُضُ؟ قالت: بلى ، قال : فإني أحبُّ عائشة فأحبيها ، قالت : لا أقول لعائشة شيئاً يؤذيها أبداً .
- ولما أرسل نساء النبي × فاطمة رضي الله عنها إلى الرسول × يطلبن فيه المساواة بعائشة في المحبة ، قال الرسول × لفاطمة: «يا بنية حبيبة أبيك » ، فرجعت فاطمة لنساء النبي × واعتذرت منهن، وعزمت أن لا تكلمه في عائشة أبداً .
- ومما يدل على عظيم حبِّه لها ، وتقديمها على غيرها من نسائه في المحبة القلبية التي يُعذر بها : تقبيلُهُ إياها وهو صائم ، ولم ينقل أحد من نساء النبي × ذلك عنه إلا هي رضي الله عنها .
- وأغرب من هذا وأعجب ما رُوي عنها أن رسول الله × دخل بيته في ليلة باردة ، فصلى حتى أوجعه البرد ، وقد نامت عائشة فقال لها : « اُدْني مني ، قالت : إني حائض ، فقال : وإنْ ، اكشفي عن فخذيك ، فكشفتُ فخذيَّ ، فوضع خده وصدره على فخذيَّ ، وحَنَيْتُ عليه حتى دفيءَ ونام » . (سنن أبي داود).
خامساً: تلطُّف الرسول × بها:
- في أول لقاء حين أُدخلت على الرسول × أقعدها في حجره ، وقدَّم لها لبناً لتشرب ، وقد كانت في غاية الحياء والخجل .
- وكان يراعي حاجتها للعب لصغر سنها ، وقربها بعهد الطفولة ، فيدخل عليها البنات يلعبن معها .
- وقد أذن لها في الدُّمى تلعب بها ، وربما حدثه عن عرائسها ، وهو يستمع إليها ويحاورها ، رغم ما ورد عنه من الشدة والغلظة في شأن التماثيل والصور .
- وكان إذا دخل عليها وهي تلعب يغطي وجهه حتى لا تخجل فتمتنع من اللعب .
- وربما قام لها على باب حجرتها زمناً طويلاً تنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، ولا يمتنع من مقامه هذا حتى تملَّ هي وتكتفي .
- وربما سابقها على الأقدام في بعض أسفاره ، فتسبقه مرة ، ويسبقها مرة .
- وربما تناول العظم الذي عليه اللحم ، فيقسم عليها إلا أكلت أولاً ، ثم يتناولُه فيضع فمه موضع فمها وهي حائض .
- وربما أوتي بالشراب فيقسم عليها إلا شربت قبله ، ثم يضع فمه موضع فمها من الإناء ، ويشرب وهي حائض .
- وكان عليه الصلاة والسلام يتلطف بها حين تغضب فتهجر اسمه ، وتقول : « لا ورب إبراهيم » .
- وقد حَبَسَ الناسَ من أجلها ، فأخر الرحيل حين فقدت عِقدها ، حتى يلتمسوه ، ولم يكن الناس على ماء ، ولم يكن معهم كثير ماء ، فدخل عليها أبو بكر رضي الله عنه مغضباً فعاتبها وأوجعها ، فأنزل الله في ذلك رخصة التيمم .
- وقد حبست الناس أيضاً في حجة الوداع ، حين نزل الرسول × بالأبطح ينتظر بالمسلمين حتى تقضي عمرتها.
- ورغم ثبوت محبته لها وتواتر ذلك عندها وعند الجميع إلا أنها كانت تحب أن تسمع ذلك التصريح باستمرار من الرسول × ، حتى قالت له مرة فيما رُوي عنها : « يا رسول الله كيف حُبك لي ؟ قال : كعقدة الحبل ، فكنت أقول : كيف العقدة يا رسول الله ؟ فيقول : على حالها ».
- وقبل وفاته عليه الصلاة والسلام صرح لها إشفاقه عليها وعلى نسائه من بعده ، حيث تقول رضي الله عنها : « إن رسول الله × أحنى عليَّ فقال : إنكنَّ لأهمَّ ما أتركُ وراء ظهري ، والله لا يعطف عليكن إلا الصابرون أو الصادقون ».
سادساً: غيرة النساء منها :
- لقد كان نساء النبي × حزبين ، الأول بقيادة السيدة عائشة ومعها حفصة وسودة وصفية ، والثاني بقيادة أم سلمة ومعها باقي أزواجه ، ورضي الله عنهن جميعاً .
- لاحظ نساء النبي × - لا سيما من حزب أم سلمة - تحري الناس بهداياهم يوم عائشة ، فَيُتْحفوا رسول الله × بها في يومها ، لمزيد إيناسه وإسعاده عليه الصلاة والسلام .
- فبعث حزب أم سلمة إلى الرسول × أمَّ سلمة نفسها تكلمه بأن يعلن في الناس : أن لا يتحروا يوم عائشة بالهدايا .
- فكلمته ثلاث مرات وهو لا يجيبها ، وفي الثالثة قال لها : «يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة ؛ فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكنَّ غيرها » ، فقالت : « أعوذ بالله من أن أوذيك يا رسول الله » ، ثم كفَّت عن ذلك .
- وأرسلن مرة فاطمة رضي الله عنها يطلبن العدل من رسول الله × في محبته لعائشة ، فرجعت إليهن واعتذرت حين قال لها رسول الله × : « ألا تحبين من أحب ؟ قالت : بلى : قال : فأحبي هذه » ؛ يعني عائشة رضي الله عنها .
- وأشد ما كان بين نسائه حين أرسلن زينب بنت جحش رضي الله عنها إلى بيت رسول الله × في يوم عائشة – وكانت تساميها وتنافسها - فدخلت عليهما دون استئذان ، وأقبلت على رسول الله × تعاتبه في تقديم عائشة عليهن ، ثم أقبلت على عائشة فأغلظت لها القول ، واشتدت عليها ، وهي ترمق رسول الله × هل يأذن لها فترد وتدافع عن نفسها أم ل ؟ حتى إذا أحست من رسول الله × الإذن بالرد : ردت عليها ، وأفحمتها حتى ما وجدت زينب في فمها ريقاً تبلعه ، فقال رسول الله × عندها : « إنها ابنة أبي بكر » ، يذكر بمكانتها وتفوقها.
سابعاً: غيرتها من النساء :
- رغم الحب الغامر من الرسول × نحو عائشة ، إلا أنها كانت تتطلع إلى المزيد ، وتتعطش إلى ما هو أكثر وأكثر .
- وقد بلغ بها الأمر أن تغار حتى من خديجة رضي الله عنها ، التي قد ماتت من قبل ، ولم ترها قط ؛ لما كان رسول الله × يكثر من ذكرها ، ويثني عليها ، حتى قالت – مصرحة بغيرتها منها - : « ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ، من كثرة ما كان رسول الله × يذكرها ».
- وكانت لا تستريح حتى تستخرج منه الثناء عليها ، وتقديم نفسها على غير ها من أزواجه بطرق مختلفة ذكية ، ومنها أنها قالت له مرة : « أرأيت لو أنك نزلت وادياً فيه شجرةٌ قد أُكل منها ، ووجدت شجرةً لم يُؤكل منها ، أيُهما كنت تُرتعُ بعيرك ؟ قال : الشجرة التي لم يُؤكل منها ، قالت: فأنا هي ».
- ومن لطائف غيرتها أن الرسول × مر عليها لحاجة في غير يومها فأخذ يدق عليها الباب وهي لا تجيب ، حتى أكثر فلما فتحت قال : « أما كنت تسمعين الدق ؟ قالت : بلى ، ولكنني أحببت أن يعلم النساء أنك أتيتني في غير يومي » .
- ولما خلى الرسول × بمارية القبطية رضي الله عنها في بيت حفصة رضي الله عنها : استأمنها أن لا تخبر عائشة بذلك ، وحرمها على نفسه ، ومع ذلك أخبرت حفصةُ عائشة ، وتظاهرتا عليه كما وصف القرآن ، حتى عاتبه الله حين حرم مارية على نفسه ؛ يبتغي بذلك رضا زوجاته .
- وحدث مثلُ ذلك حين كان يحتبس على عسل يشربه عند زينب بنت جحش رضي الله عنها ، فاتفق حزب عائشة على إخباره بصدور رائحة كريهة منه ، حتى حرم العسل على نفسه .
- ولما زُفَّت إليه أسماء بنت النعمان الجوينية رضي الله عنها ، احتالت عليها مع بعض زوجاته قالت : « إذا دخل عليك قولي : أعوذ بالله منك ، فإنه يحب ذلك » ، فقالت المسكينة هذه العبارة ، فطلقها وما دخل بها .
- وخرج الرسول × مرة بها ومعها حفصة في سفر ، وكان رسول الله × يسير في سفره بجوار جمل عائشة يحدثها ، فتلطفت حفصة بها وقالت : « يا عائشة تركبي الليلة بعيري وأركب بعيرك ، تنظري وأنظر ؟ » ، ففعلت فجاء الرسول × إلى جمل حفصة وسار معها تلك الليلة ، فلما نزلت عائشة أدخلت قدمها في الإذخر ، ترجو أن يلدغها شيء من شدة ما تجده في نفسها الغيرة ، حين فاتها مسير رسول الله × معها.
- وأرسلت مرة إحدى نساء النبي × طعاماً إليه ، فما تحملت عائشة ذلك ، حتى أخذت حجراً فكسرت به الإناء .
ثامناً: معاناة الرسول × منها :
- قالت عائشة رضي الله عنها : « كنت أغار من اللاتي وهبن أنفُسَهنَّ للنبي × وأقول : أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى: ﴿ ...﴾ الآية ، قلت: ما أرى ربَّك إلا يُسارع في هواك ».
- واختلفتْ مرة مع الرسول × فطلبتْ محكماً يدخل بينهما ، فعرض عليها عمر فأبت ، فعرض عليها أبا بكر فوافقتْ ، فلما حضر قال لها رسول الله × : أتكلم أم تتكلمي؟ قالت : تكلم ولا تقل إلا حقاً ، فالتفت إليها أبو بكر ولطمها على وجهها حتى دُميت ، وقام إلى جريدة يضربها بها ، فانحازت خلف رسول الله × تستتر به من بطش أبي بكر ، فقال رسول الله × لأبي بكر : « أقسمت عليك إلا خرجت ، إنا لم ندعك لهذا ».
- وسمع مرة أبو بكر رضي الله عنه صوتها قد ارتفع على رسول الله × في خلاف بينهما ، فدخل ليضربها فحال الرسول × بينه وبينها ، فلما خرج ترضَّاها وقال: « ألم ترني حُلت بين الرجل وبينك ؟ ».
- وفي إحدى الأسفار خرجت عائشة وصفية بنت حيي رضي الله عنهما ، وكان لصفية بعير ضعيف أبطأ بالركب لثقل متاعها ، فأراد رسول الله × أن يحول متاعها على جمل عائشة لخفته ، فغضبت عائشة ، وقالت : « يا لعباد الله غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله ، وتقول : ألست تزعم أنك رسول الله فهلا عدلت ؟ » ، وهو يقول لها متلطفاً بها : « وهل أنت في شك يا أم عبدالله ؟ ».
- ومع شدة هذه العبارات إلا أن المرأة الغيرى تعذر في مثل هذه المواقف ؛ فإن الوارد على إحداهن من شدة الغيرة يغلق عليها الفهم ، والنظر الصحيح ، فلا تدري ما تقول ، ولا تدري تفعل فتعذر بذلك شرعاً ، فإذا ذهبت عنها شدة الانفعال : رجعت إلى صوابها واعتذرت واستغفرت .
تاسعاً: المحنة والابتلاء :
- وُلدت السيدة عائشة رضي الله عنها في فترة الدعوة المكية ، وهي فترة عصيبة وشديدة من عمر الدعوة الإسلامية .
- اُبتليت وهي في السابعة من عمرها بأسرار الهجرة النبوية ، والتكليف بكتمانها عن الأعداء المتربصين بالرسول × وصاحبه.
- اُبتليت بالهجرة إلى المدينة مع أمها وأختها ، وكادت تهلك في الطريق حين ندَّ بعيرها ، فحرسها الله من الهلاك .
- اُبتليت بالضرائر طول مكوثها مع رسول الله × ؛ فلم تخلُ به قط .
- اُبتليت بالحرمان من الذرية حتى وضعت حنان الأمومة في صغار محارمها ، وكُنِّيت بابن أختها أسماء : عبدالله بن الزبير رضي الله عنهم .
- اُبتليت بالقذف في حادثة الإفك ، حين اتهمها المنافقون بصفوان بن المعطِّل .
- حتى إنها لما سمعت الخبر : « خرَّت مغشياً عليها » ، فلم تتحمل وقع الخبر عليها ، وهي الفتاة في الرابعة عشر من عمرها ، وهذا كثيراً ما يحصل من الأشخاص شديدي الحساسية مثلها .
- وكان من شدة ما نزل بها في هذه الحادثة تقول : « لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليباً ( يعني بئراً ) فأطرح نفسي فيه » .
- اُبتليت بوفاة حبيبها × على صدرها ، ففاتها قربُهُ ، وأنسه ، وحنانه ، وعطفه ، ورعايته ، وحفظ الله لها عقلها من أن يطيش بوقع خبر وفاته عليه الصلاة والسلام ، وهي الفتاة في الثامنة عشرة من عمرها .
- اُبتليت يوم الجمل ، حين خرجت إلى البصرة تريد التوسط الصلح بين المسلمين ، والحث على إقامة الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه .
- حصل باجتهادها هذا ، وخروجها إلى البصرة فتنة عظيمة ، ومقتلة شديدة بين المسلمين ، ندمت عليها ندماً عظيماً ، واعتبرته حدثاً في حياتها .
- وكانت تبكي بكاءً عظيماً إذا قرأت قول الله تعالى: ﴿ ...﴾. وتقول : « يا ليتني مت قبل هذا بعشر سنين » .
- وبذلك أغلقت رضي الله عنها على النساء باب البروز السياسي ، حين أخفقت ، ولا يُعرف لها ميدان أخفقت فيه إلا الميدان السياسي .
- ومع ذلك كانت بعد وقعة الجمل تتابع الأخبار ، وتكتب للأمصار ، وتستطلع الأحوال ، وتأمر الولاة وتنهاهم ، ولكن كل ذلك من بيتها دون بروز أو ظهور .
عاشراً: قوة شخصيتها :
- إن من أهم أسباب تكوين شخصيتها كونُها نشأت في الإسلام ، وفي بيت مبارك ، وأسرة صالحة متفوقة .
- حُمِّلت منذ الطفولة أسرار الدعوة ، وأخبار الهجرة ، ورأت المواقف والبلاء ، وهاجرت إلى المدينة .
- ومن اللطائف أن الرسول × رآها مرة قبل الدخول بها وهي تبكي ، قد ضربتها أمُّها فأوصاها بأن لا تضربها أبداً ، ثم شاهدها مرة ثانية وهي تبكي ، فقال لأمها : « احفظيني في عائشة ، فقالت : يا رسول الله أفسدت ما بيننا وبين أبي بكر ، فقال: يا أم رومان استوصي بعائشة خيراً ، قالت : فلم أضربها بعدها ».
- ولا شك أن النشأة التربوية بغير قسوة تكوِّن الشخصية القوية العزيزة .
- ومما يدل على قوة شخصيتها خروجُها يوم الخندق من الحصن لاستطلاع الأمر ، حتى ردها عمر رضي الله عنه وقال : « إنك لجريئة » .
- وكذلك في غزوة بني المصطلق في حادثة الإفك ، لما فاتها الركب ، فما زادت على أن اعتصمت في مكانها ، تنتظر تفطن القوم لها .
- ورغم أنها كانت كثيراً ما تنتصر للنساء أمام الرجال ، وتدافع عنهن ، فقد كانت فيما بينها وبينهن في غاية الشدة في الالتزامات الشرعية ، والحرص على احترام الأزواج ، ورعاية المنزل ، وقد كان لها دور بارز في إعداد الفتيات للزواج ، فقد كان أهل المدينة يُدخِلون عليها الفتيات قبل الزفاف للنصح والدعاء .
- وكانت في دفاعها عن المرأة تنكر التشاؤم بها ، وتقول هذا عند أهل الكتاب ، وتنكر فهم حديث أنها تقطع الصلاة .
- ولما اختلف عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما مع مروان بن الحكم ، وأرسل له بعض الجند ليأخذوه : دخل عبد الرحمن بيت عائشة فما تجرؤا أن يدخلوا عليه عندها احتراماً وتوقيراً لها.
- وقد كان لها موقف مع ابن أختها عبدالله بن الزبير ، حين بلغها أنه يقول : « لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها »، فقالت : « أو قال ذلك : لله علي إلا كلمته حتى يفرقَ الموت بيني وبينه » .
- فضاقت الدنيا بابن الزبير ، ووسَّط لها خلقاً كثيراً فلم ترض عنه ، حتى دخل عليها في أردية المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود رضي الله عنهما ، واستأذنوا عليها فدخلوا وهو معهم وهي لا تعلم ، ثم دخل الحجاب ، وأخذ يعانقها ويبكي ، والرجلان يلحان عليها وهي لا تكلمه حتى كلمته ، وأعتقت في نذرها أربعين ، أو مائة من العبيد .
- ومن مظاهر قوة شخصيتها يوم براءتها من الإفك ، قالت لها أمها : « قومي وقبلي رأسه ( يعني رسول الله × ) ، قالت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله » .
الحادي عشر: عبادتها وتنسُّكُها :
- لم يكن لها بعد فراق رسول الله × سوى العبادة والتنسك والتبتل والتعليم .
- وقد كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا في العيدين .
- وكانت كثيرة الصلاة في الليل والنهار لا تملُّ منها .
- وربما قامت القيام الطويل بالآية الواحدة .
- دخل عليها أحد محارمها وهي تصلي فجلس عندها حتى ملَّ ، فخرج إلى السوق ورجع فإذا بها لا تزال على حالها تصلي .
الثاني عشر: كرمُها وسخاؤها :
- لقد بلغت عائشة في باب الكرم والسخاء أعلى المراتب ، فقد كانت أكرم أهل زمانها على الإطلاق .
- بعث إليها معاوية رضي الله عنه بمائة ألف درهم ، فما أمسى عندها منها شيء .
- وبعث إليها مرة بقلادة نفيسة تساوي مائة ألف درهم ، فوزعتها على أمهات المؤمنين .
- أهدي إليها مرةً مجموعة سلال من عنب ، فقسمتها جميعاً إلا أن الجارية – خفيةً عن عائشة- احتفظت بسلة منها ، فلما كان المغرب طلبت إفطارها فأتتها الجارية بهذه السلة من العنب ، فقالت لها : « ما هذا ؟ قالت : رفعت لنأكل ، فقالت : فهلا عنقوداً واحداً ، والله لا أكلت منه شيئاً ».
الثالث عشر: زهدُها وتقشُّفُها :
- ومع كل هذه العطايا التي كانت تأتيها كانت في غاية الزهد والتقشف ، والإعراض عن زهرة الحياة الدنيا .
- المشهور عنها أنها ما شبعت بعد وفاة رسول الله × .
- تقول رضي الله عنها : « تُوفي رسول الله × وما في رفِّي من شيء يأكلُهُ ذو كبد ، إلا شطر شعير في رفِّ لي ، فأكلت منه حتى طال عليَّ ، فكلته ففني » .
- بعث إليها عمر رضي الله عنه بجوهرة نفيسة يُتحفها بها ، قالت : « ماذا فتح الله على ابن الخطاب بعد رسول الله ×، اللهم لا تبقني لعطيته لقابل » .
- بعث إليها عبدالله بن الزبير بمال في غِرارتين ، فقسمتها بالكامل ، ولم تبق لإفطار شيئاً، ولما حان وقت إفطارها لم تجد إلا خبزاً وزيتاً .
- كانت رضي الله عنها تنفق الألوف وترقع جانب ثوبها .
- دخل عليها أحد محارمها فوجدها ترقع بعض ملابسها ، قال : «يا أم المؤمنين ، أليس قد أوسع الله عز وجل ؟ قالت : لا جديد لمن لا خَلَقَ له » ؛ يعني لا جديد لمن لا قديم له.
الرابع عشر: خوفُها وإشفاقُها :
- رغم الفضائل الكثيرة ، والبشرى بالجنة ، والمكانة من رسول الله × ، فقد كانت مع ذلك شديدة الخوف من الله تعالى ، ومن هول المطلع .
- دخل عليها ابن عباس رضي الله عنهما في مرض موتها يعودها ، فأخذ عليها ، وأخذ يبشرها ، ويثني عليها فقالت له : « يا ابن عباس دعني منك ومن تزكيتك ، فو الله لوددت أني كنت نسياً منسياً » .
- وكانت تقول : «يا ليتني كنت حيضة ملقاة » ، يعني لم تحمل بها أمها .
- وقالت مرة : «يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة » .
- لقد عصمها خوفها من الله أن تحدث زمن الفتنة بحديث تختلِقُهُ أو تُؤوِلُه لصالحها وصالح فريقها ، ولو فعلت لصدقها الناس ، إلا أن الله عصمها .
- ورُوي أن جنياً كان يطلع عليها ، فأنذرته فلم ينته فقتلته ، فجاءها في المنام أنها قتلت نفساً مسلمة ، إنما جاء يسمع الحديث ، ولم يكن يدخل عليها إلا وعليها ثيابها ، فخافت وأعتقت وتصدقت ، وقيل إنها تصدقت بثني عشر ألف درهم وهي قيمة الدية وقتها .
- وكانت رضي الله عنها تحدث نفسها أن تدفن في حجرتها بقرب رسول الله × وصاحبيه ، ثم أعرضت عن هذا ، فلم تر نفسها أهلاً لذلك الموضع بعد وقعة الجمل ، وخروجها إلى البصرة ، وقالت : « إني أحدثت بعد رسول الله × حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه » ، يعني في البقيع .
الخامس عشر: وفاتُها ودفنُها :
- في ليلة السابع والعشرين من رمضان بعد الوتر من عام 57هـ أو 58هـ سمعت أم سلمة رضي الله عنها الصارخ من بيت عائشة فعلمت عنها بموتها وقالت : « لقد كانت أحبَّ الناس إلى رسول الله × إلا أبوها » .
- صلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه .
- ودُفنت بالبقيع ليلاً ، وقد حضر خلق كثير معهم المصابيح ، فكانوا العيد من كثرة الناس .
- عاشت ثلاثاً وستين سنة وأشهراً .
- بقيت بعد رسول الله × خمساً وأربعين سنة تُعلم وتُفتي وتتعبد .
- قال مسروق : « لولا بعضُ الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين عائشة » .
- وقال عبدالله بن عبيد بن عمير : « أما إنه لا يحزَنُ عليها إلا من كانت أمَّهُ » .
السادس عشر: الحِكم والفوائد :
- ليس العلم شرطاً ضرورياً لبلوغ المرأة منزلة الفضل العالية ؛ فقد نافست خديجة عائشة في الفضل ، وتفوقت عليها ، رغم أنه لم يؤثر عنها علماً .
- عائشة ظاهرة إنسانية منفردة نادرة لا تمثل النساء ، بل هي في الحقيقة تمثل نفسها فقط ، وتكون وحدها صفاً مستقلاً عن الرجال والنساء ، فهي في النساء كالغراب الأعصم بين الغربان .
- البروز السياسي ممارسة لا تناسب النساء ؛ فإذا أخفقت فيه عائشة ، التي ما أخفقت في شيء قط غيره ، فإن غيرها من النساء أولى بالإخفاق والعجز .
- يمكن أن تبلغ المرأة العاقلة النبيهة الذكية القمة في العلم وهي في بيتها كما حصل لعائشة ، إذا تهيأت لها فيه مصادر المعرفة المتفوقة .
- بالسماع يمكن أن تبلغ المرأة أعلى المراتب العلمية كما حصل لعائشة ، فهي لا تقرأ ولا تكتب ، ولكنها بالسماع الواعي والفطنة بلغت القمة .
- الحجاب لا يحول بين المرأة والعلم : تعلماً وتعليماً ، فقد علَّمت عائشة الأمة برجالها من وراء حجاب .
- لم يجد المولى أفضل مكان يقبض فيه خير خلقه × إلا صدر فتاة في الثامنة عشرة من عمرها .
والحمد لله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تربيتنا