د. عصام العريان
صار الحديث عن انفصال جنوب السودان كأنه قدر محتوم لا مفر منه، ورغم أن اتفاقية ’’نيفاشا’’ التي ترتب عقد الاستفتاء لم يتم احترامها، خاصة من جانب الحركة الشعبية التي روجت للانفصال ومنعت الدعوة إلى الوحدة، ورغم أن مفوضية الاستفتاء تعلن بصراحة أحيانًا وبمواربة حينًا أن الاستعدادات للاستفتاء غير مكتملة، تتوالى التهديدات ضد حكومة السودان.
ورغم عدم حسم كثير من الأمور المتعلقه بما يترتب على الانفصال، وهي أمور خطيرة تهدِّد الأمن والسلم في السودان ودول الجوار وإعلان كل ذلك؛ فإن الحديث عن قيام دولة جديدة في جنوب السودان أصبح صاخبًا وكأنه أمر واقع وليس محل مفاوضات.
وراء الانفصال قوى دولية تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا خاصة فرنسا.
ووراء الانفصال سودانيًّا الحركة الشعبية لتحرير السودان (لاحظ أن اسمها يتحدث عن السودان كله) التي تعارضها حركات جنوبية أخرى، ولا تمثل غالبية الشعب في الجنوب ولا كل القبائل هناك.
وكانت الحركة الشعبية في الجنوب- المدعومة من الكيان الصهيوني ثم من أمريكا- تهدف في ميثاقها إلى ما أسمته ’’السودان الجديد’’ أي السودان الموحد العلماني، وكان قائدها ’’جون جارانج’’ يُعدّ نفسه لرئاسة السودان شماله وجنوبه، حتى تم قتله في حادث الطائرة الشهير الذي لم يتعرف أحد على أبعاده، وتم غلق التحقيق فيه دون الوصول إلى نتائج واضحة أو أسباب كاشفة، وكأن المطلوب قادة لدولة انفصالية وليس قادة لسودان موحد.
هذا الانفصال الذي تسعى إليه تلك القوى الدولية سيثير قدرًا كبيرًا من المشكلات لجميع الأطراف، ومع ذلك فإن الإغراءات والضغوط تتوالى على الحكومة السودانية للقبول بالقدر المحتوم كأمر واقع.
أولاً: ستنشب حروب داخلية قبلية داخل الجنوب السوداني، فالجميع مسلحون وبينهم نزاعات ممتدة وأسباب القتال حول المراعي والمياه والحدود لا تنتهي.
ثانيًا: ستندلع المواجهات من جديد بين الشمال والجنوب، خاصة مع عدم حسم الانفصال بطريقة سلمية، وإقراره كأمر واقع وليس نتيجة مفاوضات أو استفتاء يستوفي شروط الصحة، ويكفي عدم حسم ملفات متعددة أهمها منطقة ’’أبيي’’ الغنية بالبترول، ونزاعات خط الحدود حول قبائل ’’المسيرية’’ ومشاكل الجنوبيين الموجوديين بالملايين في الشمال وهويتهم.
ثالثًا: ستكون الدولة الوليدة محبوسة دون إطلالة بحرية، وهذا سيؤدي إلى ضرورة البحث عن موانئ خاصة للتصدير؛ لأن الجنوب يحتاج إلى مد خطوط البترول، وتصدير الثروة الحيوانية وستتدفق عليه شركات دولية تحتاج إلى تصدير نتاج استثماراتها، وهنا ستكون مشكلات.
رابعًا: ملف مياه النيل ومشروعات السدود والقنوات مثل ’’جونجلي’’ التي تحتاجها مصر بالذات، وكيف يتم إتمام تلك المشروعات المعطلة من عقود من السنوات في ظل التوترات الحالية والمتوقَّعة أيضًا؛ ما يحرم مصر بالذات من مليارات الأمتار المكعبة من المياه التي هي في أمَسِّ الحاجة إليها.
خامسًا: ستشتعل منطقة القرن الإفريقي بالحروب القبلية والنزاعات الحدودية وهي منطقة غير مستقرة أصلاً؛ بسبب ما يحدث في الصومال وإثيوبيا وما يندلع من نزاعات في بقية دول القرن، وعصابات القرصنة وبقايا نزاعات دول الجوار مثل بوروندي ورواندا.. إلخ.
مصر المشغولة بنفسها ومشاكلها لم تطلب في زيارة وزير خارجيتها ومدير مخابراتها إرجاء الاستفتاء لحين حسم المشاكل أو وضع النقاط على الحروف، ولم تعلن موقفًا واضحًا حتى الآن، بل هي تطلب ود الطرفين، في حين أنها من أكبر المتضررين.
مصر التي كانت تحكم السودان كله، شماله وجنوبه، حتى استقلاله في عملية مشابهة لما يجري الآن عام 1956م، وإذا بالتفتيت يصل الآن إلى قضم الجنوب الذي يحتوي على بعض منابع النيل، مصر التي كانت إذا قالت يُسمًع لقولها، مصر تقف اليوم متفرجة لا تملك من أمرها شيئًا.
بل الأخطر هو الترقب لما سوف يحدث بعد ذلك في السودان ثم في مصر، فلن يتوقف المتآمرون عن تمزيق بقية السودان إلى دولة في دارفور ودولة أخرى في الشرق؛ ليغرق السودان في المزيد من الحروب والنزاعات، ثم يأتي الدور على مصر التي كنا نندهش من وجود خرائط لعدة دويلات في مصر: للنوبة، وللجنوب وللشمال ولسيناء.
المؤامرة واضحة ويتم تنفيذها على مراحل منذ قرن من الزمان، منذ اتفاقية سايكس- بيكو، وها نحن نراها على الأرض في دول ودويلات عربية تتكاثر يومًا بعد يوم، وتتباعد فيما بينها، ويكفي النظر إلى آخر قمة عربية في سرت منذ أسابيع التي وصلت إلى طريق مسدود، بل ونزاعات داخلية بين الدول الأكثر أهمية في العالم العربي.
وها نحن نرى الشمال الإفريقي بعيدًا عن هموم المشرق العربي، والعراق يتعرض للتأثيرات الإقليمية ويقع في نفوذ إيران، واليمن في طريقه إلى التفتت من جديد، والصومال يغرق في النزاعات والحروب الداخلية والقرصنة الساحلية، ويطالب الاتحاد الإفريقي بوضعه تحت الوصاية الدولية التي تمتنع بسبب خشيتها من النفقات وسقوط الضحايا ذوي الدم الأزرق.
أما إفريقيا فإنها قارة المستقبل، وقد كان الإسلام ينتشر فيها بسرعة كبيرة، فإذا نحن الآن بمؤامرة واضحة لعزل العرب المسلمين عن بقية إفريقيا، وها هي دولة الانفصال بدلاً من أن تكون جسرًا سودانيًّا إلى قلب إفريقيا ستصبح عازلاً تسيطر عليه الكنائس ومجلس الكنائس العالمي، يمنع وصول نور الإسلام إلى أفارقة متعطشين للإيمان، ويصبحون فريسةً لكتائب المبشرين فقط دون أن يتعرفوا على حقائق الإيمان التوحيدي الذي يتماشى مع فطرتهم النقية.
هل هذا نهاية المطاف؟.. لا؛ لقد علَّمتنا دروس التاريخ أن الأمة الإسلامية مرت بما هو أشد وأقسى وقد استطاعت تجاوز تلك الصعاب.
وقد تعلَّمنا أن العودة إلى أصول الإيمان وحقائق التوحيد واستيعاب دروس التاريخ كفيل بأن يرد الأمة إلى مسارها الصحيح بعيدًا عن التفرق والانهزام، وإذا كان البعض يلوم الحكومة السودانية الحالية بأن مؤامرة الانفصال القديمة والمستمرة تتم أثناء حكم فصيل إسلامي، فعليها أن تعلن على الملأ كل ما يتعلق بتلك المؤامرة؛ حتى يتعلم الدرس كل المتابعين، وعليها أن توضح جهودها لمنع هذا الانفصال المشئوم، وهل كانت سياستها سببًا من الأسباب؟ أم أن رياح السياسة العالمية كانت أقوى منها؟ وما هي خططها للمستقبل لاستعادة الجنوب إذا حدث الانفصال؟ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).