مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
العسكرية النسائية
د. عدنان حسن باحارث

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد على آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فقد كثر الحديث عن الشرطة النسائية في الفترة الأخيرة ، وحاجة القطاعات العسكرية إلى خدمة المرأة ، لا سيما في الضبط الأمني ، حيث يرى البعض ضرورة مشاركة المرأة بصورة مطلقة في جميع القطاعات العسكرية ، بما فيها الجيش ، وسلاح الطيران ، والحدود ، والبحرية ونحوها ، ولا شك أن مثل هذا الطرح الواسع غير المنضبط يفتقر إلى النظر الشرعي من جهة ، ويفتقر إلى الفهم الواقعي والتاريخي من جهة أخرى ، ولعل في الأسطر الآتية ما يجلي المسألة ، ويوضح القضية .

أولاً : موقع المرأة في العسكرية الإسلامية

يدخل الضابط الأنثوي في حصر المسؤولية العسكرية بكل فروعها في عنصر الذكور البالغين القادرين وذلك رحمة بالنساء، بحيث تكون الأنوثة سبباً شرعياً كافياً لحطِّ هذه المسؤولية السياسية عن كواهلهن، إلا حين يكون القتال فرض عين على كل قادر من المسلمين: كباراً كانوا أو صغاراً، ذكوراً أو إناثاً، حين يكون التعرض للموت والهلاك أهون ضرراً من التعرض للفتنة والأسر.

إن التشريع الإسلامي ابتداء لا يعتبر المرأة من أهل القتال، حتى وإن كانت كافرة، فإن الأنوثة في حدِّ ذاتها تعصم دمها، إلا حين تتجرَّأ فتعدو بالسلاح فلا تُبقي لنفسها عندئذ حرمة تعصمها؛ ولعل قضية النسل تقف عاصماً لهن من القتل، فإن خدمة النوع الإنساني تتوقف بالدرجة الأولى على وفرة العنصر النسائي؛ ولهذا راعى النظام الإسلامي في تشريعاته الجهادية المحافظة على الإناث، بعيداً عن مواقع العراك القتالي، ومظانِّ الموت؛ بحيث لا يصل إليهن أذى دون نحور الرجال، حتى إن الناظر في جملة هذه التشريعات الفقهية المحكمة يجدها في حال الجهاد الكفائي لا تتعدى بالمرأة حدَّ الإباحة التي لا ترقى إلى مرتبة الاستحباب، بل ربما أفادت ما يدل على الكراهة أو النسخ فضلاً عن الوجوب، خاصة في زمن غنى الجيش الإسلامي بإمكانياته وأعداده عن جهود النساء الخدمية والطبية.

ورغم أن القول بالإباحة – حال الكفاية– هو الراجح في حق النساء إلا أنه مقيَّد بشرطين اثنين:

الشرط الأول: ضمان سلامتهن الصحية؛ بحيث تنحصر أدوارهن في العلاج والخدمة دون القتال، فلا يتعرَّضن للأذى، بحيث تكون مشاركتهن هذه في المعارك المأمونة العاقبة دون التي يغلب عليها الخطر العام، وتكون – مع ذلك– أعدادهن قليلة رمزية بقدر الحاجة؛ فإن أكبر عدد من النساء خرجن مع النبي صلى الله عليه وسلم كان عشرين امرأة، فقد كان النساء والأطفال يشكلون غالب الخالفة في عهد النبوة، وأما السرايا والبعوث التي بلغت ثمانية

وثلاثين أو أكثر فلم تخرج في شيء منها امرأة قطُّ، ومن المعلوم سياسياً أن الاستكثار من النساء في مثل هذه المواقف العسكرية دليل الخور والضعف؛ فإن قريشاً يوم أحد – رغم ضلالهم– لم يخرجوا بأكثر من خمس عشرة امرأة مع أزواجهن في الهوادج ، وكان الغرض في الغالب من الخروج بهن زمن الجاهلية : تحريض الرجال على القتال، حتى ربما أتى بعضهن بأقبح المسالك كالتعري أمام قومها رغبة في إثارة الحمية في نفوسهم.
الشرط الثاني: ضمان سلامتهن الخلقية، بحيث يخرجن مع محارمهن، ويقتصر في ذلك على الكبيرات دون الشابات؛ فإن الانتفاع بالفتيات في مثل هذه المواقف قليل، بل ربما كان الضرر منهن أكبر، ولاسيما ممن تُخشى من جهتها الفتنة، في وقت يكون فيه الجيش الإسلامي أحوج ما يكون للتقوى وأسبابها؛ بل إن السلف كانوا ينهون عن مجرد ذكر النساء في الغزو مطلقاً.

ثانياً : أسباب إعفاء المرأة من المسؤولية العسكرية

إن نظام الإسلام في إعفائه للإناث عن المسؤولية العسكرية يراعي منهن التكوين الطبيعي والاستعداد الفطري في جانبين رئيسين:

الجانب الأول: جسمي، يُراعى فيه محدودية قدرات الإناث البدنية التي تبدو واضحة لأول وهلة، فلا يصلحن – غالباً– للمهمة العسكرية ومعاناتها الصحية؛ لهذا غلب على الجندية في عصورها المختلفة طابع الرجولة، فلا تزال حتى في هذا العصر– الذي تطورت فيه الآلة الحربية – تفتقر إلى القوة الجسمية، والمهارات الحركية التي تتعارض بوضوح مع الطبيعة الأنثوية، فلا تزال القطع والمعدات الحربية محتاجة في تشغيلها إلى كمال البنية الجسمية العامة، والمهارات اليدوية العالية؛ لهذا فإن الأسلحة بشكل عام – خاصة المعقَّدة منها – قد هُيِّأت فنيِّاً لاستخدامات الرجل، وأعدت تقنياً حسب قدراته وطبيعته الجسمية، بحيث تشكل القطعة الحربية مع الرجل المعتدل القامة الذي يتعامل معها وحدة فعالية متجانسة ومتطابقة ، فإذا ما قُدِّمت المرأة المُجنَّدة إلى تلك القطعة الحربية قام التنافر بينهما .

ولهذا لا يُعرف للمرأة أسلحة تستعملها غير تلك التي أعدت للرجل، بل ولا يعرف عنها اقتناء السلاح، أو الاهتمام به، حتى اللاتي كنَّ يخرجن مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته لم يكن يخرجن بالسلاح؛ ولم يثبت عن أيٍّ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أو نساء آل البيت أنهن حملن السلاح قط؛ وإنما تلتقط بعض النساء الجلدات السلاح– حال الهزيمة– من أرض المعركة، كما فعلت فريدة النساء أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها يوم أحد؛ فرغم مشاركتها في القتال حين انكشف المسلمون لم تخرج بسلاح، وإنما خرجت بسقاء ماء للجرحي ، وأم سليم رضي الله عنها لما خرجت بمجرَّد خنجر تدافع به عن نفسها: أنكر عليها زوجها أبو طلحة رضي الله عنه، ورفع أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل إن المرأة الفاضلة ربما تُذم بحملها القوس وركوبها الخيل؛ لما فيه من التشبه بالرجال ، ومن هنا جاء قصر أسهم الغنائم على المقاتلة من الرجال، وإنما تُعطى المرأة الغازية من العطاء العام ولا يُسهم لها كما يُسهم للرجال ، وقد كان من بين أسباب كراهية رجل الجاهلية للمرأة كونها ضعيفة عن حمل السلاح، عاجزة عن الدفاع عن القبيلة، مما حطّ من مكانتها عندهم؛ ولهذا تشير إحدى الدراسات المعاصرة إلى أن مساواة المرأة بالرجل لا تتأتى إلا حين تتمكن المرأة من القيام بالمهمة العسكرية كالرجل ، ولعل التوجه الغربي المعاصر نحو تجنيد النساء إفراز من إفرازات الدعوة للمساواة بين الجنسين.

ورغم بروز هذه الطبيعة الأنثوية العامة: يبقى للشذوذ النسوي حدوده الواقعية التي لا يتعداها، فكما أن في عظماء الرجال من يجبُن عن القتال، فإن في بعض طبقات النساء – في كل عصر – من قد تساوي بعض الرجال في القوى البدنية، ومهارات التدريب القتالية، وتتفوق – بصورة نادرة– في الصبر والجَلَد على القتال والفداء، حتى لربما كانت الجراح والموت عند إحداهن أهون ما يكون، بل ربما وُجد منهن من تقود الجيوش، وتغزو بالرجال، وكل ذلك لا يُغير من الحقيقة الفطرية شيئاً؛ إذ لكل قاعدة شواذ، والحكم دائماً في مثل هذه الأمور للأغلب والأعم، والمرأة المقاتلة لا تكاد توجد إلا على الندرة؛ ولهذا لا يذكر أحد من النساء عند ذكر قوائم أسماء شهداء بعض المعارك الإسلامية.

ومع ذلك فإن سلطان الأنوثة الفطري لا يمكن أن يتخلف بالكلية حتى عن سلوك نوادر النساء، فلابد أن يظهر إحْكامه وأثره – ولو من بعيد– في صور من الكفِّ والإلجام لاندفاعهن الحاد؛ فالنساء الخارجيات اللاتي لا يُعرف لهن– في الجملة– مثيل في الفداء والجلد على القتال؛ لما يعتقدن من وجوب الجهاد عليهن: إذا هُدِّدن بكشف عوراتهن أحجمن عن القتال، فقد كان يكفي جمهرتهن للكفِّ عن القتال: أن تُقْتل إحداهن ثم تُلقى عارية في الطريق بغير ثياب، ولهذا كان الخارجيات زمن عبيد الله بن زياد إذا دُعين إلى القتال قلن:( لولا التعرية لسارعنا )، فأيُّ قيمة للبدن تبقى لإحداهن بعد ذهاب الروح غير هذا المعنى الأنثوي الفطري المُلح، الذي يبقى متماثلاً– ولو بصورة هزيلة– أمام تيار العنف السلوكي العارم في أبلغ صوره النسائية.

الجانب الثاني: نفسي : يُراعى فيه محدودية طاقة التحمل النفسي عند الإناث، فإن الحياة العسكرية تتسم بشدة ضغوطها النفسية على الفرد، وتهدده بصورة مباشرة – من خلال قسوة التجربة القتالية– في سلامته النفسية، التي تعكس – بالتالي– آثارها السلبية على جوانب صحته العامة، حين لا يكون له من القوى النفسية ما يكفي لحفظ اتزانه الداخلي، وقد عاش هذه المعاناة والاضطرابات النفسية حوالي ثلث الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب بلادهم مع فيتنام ؛ فرغم اشتراك الجنسين في مجمل هذه المعاناة، وانعكاساتها النفسية، فإن آثارها في الإناث أعظم، وفعلها فيهن أبلغ؛ إذ هن بالفطرة أكثر خوفاً من الرجال، وأشد منهم قلقاً من الموت وأسبابه، وأعظم تأثراً بمواقف العذاب والآلام، حتى إن شدة معاناتهن النفسية لتنعكس بصورة سلبية على سلامة أداء وظائفهن العضوية والعقلية، وربما كان مجرَّد الخبر المُفزع سبباً كافياً لاضطراب إحداهن النفسي، وإسقاط حملها.

ثالثاً: واقع المشاركة العسكرية للمرأة المعاصرة

بناء على هذه الحقائق الفطرية – المتقدمة– في كيان الإناث الخلْقي والخلُقي، وما تعكسه من آثار سلوكية واضحة على الجانبين النفسي والجسمي ، بما يحدُّ من تمام عطائهن العسكري بوجه عام ، يمكن في ضوء هذه المعطيات الفطرية تفسير أسباب تخلفهن العسكري العام من جهة العدد، ومن جهة القيادة، فرغم الانفتاح القانوني الذي يشهده العالم المعاصر أمام مشاركة النساء في الميادين العسكرية المختلفة، وانخراط فئات منهن في غالب قطاعات السلك العسكري بفروعه المتنوعة، حتى أمكن تكوين فرق نسائية كاملة في بعض البلاد؛ إلا أن مجمل أعدادهن – رغم ذلك – لا تزال قليلة إذا ما قُوبلت بأعداد الذكور؛ ففي حرب الولايات المتحدة الأمريكية مع فيتنام – وهي من حروب النصف الثاني من القرن العشرين – شارك ثلاثة ملايين من الرجال عبر سنوات الحرب مقابل سبعة آلاف امرأة، يعني بنسبة (0.2%) فقط ، كما أن توليهن المناصب القيادية العليا يكاد يكون معدوماً بوجه عام؛ فلا تُوكل إليهن قيادة عسكرية، أو مهمة ميدانية، إلا أشياء يسيرة، فقد غلب على طبيعة أعمالهن الأدوار الإدارية، والمهمات المُساندة، وانحصرت مشاركتهن العسكرية الفعلية ضمن حدود رمزية تضمن سلامتهن من الهلاك ، إضافة إلى مهمة الترفيــه العسكـــري – غير المُعلنة– التي يقوم بها كثير من الفتيات المجنَّدات ضمن الفرق العسكرية الحديثة.

رابعاً : حدود مشاركة المرأة في العسكرية الإسلامية

إن الضابط الأنثوي بأبعاده : الخلقية، والنفسية، والجسمية لا يسمح بمشاركة المرأة في السلك العسكري، ولاسيما في ظروف حياة الجندية المعاصرة التي لا تنطلق من المنطلقات الإسلامية في ضبطها وتعاملها، فإنه ليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك الاحتكاك بالرجال، وهذا يصعب تحققه في واقع العسكرية الحديثة، خلافاً لمن يرى جواز ذلك في هذا العصر، ولا يفرق في الجندية بين الرجل والمرأة، بل ولا يرى بأساً في توليها أي ولاية قيادية عامة، في الوقت الذي يستنكر المتدينون اليهود قرار الدولة العبرية إشراك النساء في وحدات قتالية مع الرجال، وفي الوقت أيضاً الذي لم يسجل التاريخ الإسلامي قطُّ تولي امرأة ولاية الشرطة، أو حتى مسؤولية جندي عام، وإنما كان أقصى ما ورد في ذلك: خروج بعضهن في المعارك للسقيا ورعاية الجرحى ، واتخاذ بعض نساء عجائز عيوناً للدولة، ينقلْن إليها أخبار الرعية الباطنة، مما يتلطَّف به النساء في غير ريبة، وربما اتُخذ بعضهن مشرفات على سجون النساء أو مفتشات ، ونحو ذلك من الأعمال التي تفتقر إلى العنصر النسائي، وإلى هذا القدر يبقى الأمر مقبولاً ضمن حدود الحاجة وبقدرها، وتحت مظلة الحكم الشرعي في غير اختلاط مشين، أو تبرج خليع، أو تكلُّف سلوكي شاذ يخرج بالمرأة عن طبيعتها الفطرية، وحدود مواهبها الأنثوية.

خامساً : تدريب المرأة على استخدام السلاح

أما مسألة تدريب النساء على بعض أنواع السلاح الخفيف، تحسُّباً لاضطرار الأمة إلى النفير العام، ووقوع الجميع ضمن حكم فرض العين؛ فإن مشروعية ذلك من الناحية النظرية مقبولة، وأما من الناحية العملية الواقعية فأمر بعيد أن يتم ذلك ضمن ضوابط الشرع وآدابه العامة في ظل الأنظمة العسكرية القائمة، إلى جانب أنه لم ينقل عن السلف ما يفيد مشروعية ذلك رغم وجود مقتضاه في زمنهم، إلا أن من القبيح جداً أن يصل أمر تدريب النساء على السلاح إلى حدِّ الوجوب في الوقت الذي يعيش فيه غالب رجال الأمة المكلَّفين في عزلة كاملة عن حياة الجندية، ويُفرض عليهم قانونياً التجرد عن السلاح، حتى إن القطعة الحربية لتُستهجن رؤيتها في يد أحدهم، كما تُستهجن رؤية السكين في يد الغلام.

ورغم ظهور قضية التدريب النسائي على السلاح في غاية التعقيد إلا أنها يمكن أن تنتهي، ويصبح الحديث فيها من الترف الفكري حين تعيش الأمة المسلمة حالة الجهاد، وما أمر به الشارع الحكيم من اتخاذ السلاح ، عندما تكون القطع الحربية – خاصة الخفيفة منها– جزءاً من حياة الأمة، وأداة اجتماعية مألوفة، يشبُّ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير، بحيث تألفها الفتاة الناشئة ضمن متاع البيت ولا تستهجنها، وتتعرف عليها عن قرب بصورة غير مباشرة ، فلا يُستنكر حينئذ أن تتناولها بشيء من المعرفة والتدريب العملي تحت إشراف محارمها، بعيداً عن صخب معسكرات التدريب المعاصرة، وما قد يحصل فيها من انحرافات الخلقية ، ولو تلقَّت الفتاة – إضافة إلى ذلك– شيئاً من التدريب النظري من خلال منهج المدرسة التعليمي، أو وسائل الإعلام المرئية: لكمل بذلك تدريبها نظرياً وعملياً.

ومع كل ذلك فإن المرأة بطبيعتها الأنثوية لا تحتاج إلى كل هذا التكلف؛ لأنها من خلال فطرتها السوية تدفع عن نفســـها في حال الطــــوارئ، بحيــــث يزداد– بصورة تلقائية– اعتمادها على ذاتها، وتزداد بالتالي حدَّة عدوانيتها، فتأتي من المواقف الإيجابية في حال الأزمة ما تعجز عنه في حال الرخاء ، ومن هنا ألْزمن بالقتال حال الهزيمة، وأعفين من ذلك في وقت الكفاية.
هذا ما تيسر ذكره في هذا الباب والله ولي التوفيق

د.عدنان حسن باحارث
متخصص تربوي في شؤون الأسرة
*لجينيات
أضافة تعليق